الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أولاد أحمد··· الشاعر المطارد باللعنات

أولاد أحمد··· الشاعر المطارد باللعنات
28 نوفمبر 2007 21:20
عاشرت أولاد أحمد سنوات طويلة، وعايشت أحواله في النور كما في العتمة، في الانبساط كما في الضيق، في دروب الأرياف المغبرة كما في شوارع المدن الكبيرة المزدحمة، لذا اقدر أن أقول إن مساهمتي المتواضعة هذه في التعريف به ليست فقط تعبيراً عن وفاء لصداقة متينة لم تنل منها عواصف المعارك الأدبية، وإنما هي محاولة قد تكون يائسة من جانبي لاستئصال عادة سيئة في بلاد حنّبعل· معركة أدبية قد أكون أكثر الناس تذمراً من أولاد أحمد بسبب فظاعة التهم التي الصقها بي، وحدة اللعنات والشتائم التي أطلقها علي في بداية تعرفي عليه أذكر أنه جاء إلى العاصمة في مطلع الثمانينات، وفي الحين راح يهرول من مكان إلى آخر هائجا مائجا، ولأنه كان يمتلك استعدادا هائلا لشراء ''الخصام بأي ثمن'' فان البعض استطاعوا تحريضه ضدي، وضد أصحابي، وهكذا قامت بيني وبينه معارك ضارية لم يهدأ أوارها إلا عقب مرور بضع سنين· وعندما توثقت صلتي بأولاد أحمد في ما بعد، أدركت بالفعل انه يشبه إلى حد كبير شاعرا اسمر نحيفا فأجا قريتنا ذات يوم ونحن نلعب في الرمل وانشد أمام أمهاتنا وآبائنا أغنية أبكتنا جميعا· لحظة الصفاء الحقيقي بيني وبين أولاد أحمد تعود إلى أوائل صيف العام ،1984 وقتها كتب أولاد أحمد مقالا رائعاً في مجلة ''الموقف'' تحت عنوان ''الايدولوجيا والتكنولوجيا'' انتقد فيه استعمال مكبر الصوت في الآذان، قرأت المقال في القيروان وأعجبت بأسلوبه وجرأته، وعند قدومي إلى العاصمة، فوجئت بأن مهاجمي المقال المذكور ليسوا من المتزمّتين، ولا من أصحاب اللحى، وإنما هم من أهل اليسار الذين يتبجحون طول الوقت بأنهم يمثلون ''الطبقة المستنيرة'' في مجتمعنا، وفي مقهى ''الانترناسيونال'' سمعت أحد أقطاب اليسار يشتم أولاد أحمد شتما مقذعا، معتبرا مقاله ''اعتداء سافرًا على مقدسات الشعب''· ذات مساء التقيت أولاد أحمد في مقهى ''الزنوج''، عبرت له عن اعجابي بالمقال، وعن مساندتي التامة له، اندهش لموقفي، ثم دعاني إلى بيته في الليلة ذاتها: ''تعال لتكشتف بنفسك إنني على حق'' قال، كان يسكن بيتا متواضعا في ضاحية ''رادس'' مع زوجته وابنه الذي كان لا يزال رضيعا آنذاك، تعشينا ثم نمنا، عند الفجر انفجر مكبر الصوت فانتشلني نهائيا من النوم، وعندما ركبت القطار إلى العاصمة قال لي: ''الآن بدأت أدرك سر تلك الحقيقة التي تقول بأن الشاعر كائن متوحد دائما وابدا''· تدمير منهجي في كتابه الشهير عن رامبو، يحدد هنري ميللر مواصفات الشاعر الملعون على النحو التالي: إنه أي الشاعر الملعون عادة ما يكون جائعا، بلا مأوى، واتكاليا، ومكروها من أغلب الناس· وهو عادة ما يكون كذابا ومدعيا وكسولا ولصا وغير مستقر بالمرة''، كل هذه المواصفات تنطبق على أولاد أحمد· وبالفعل حدث ما كان متوقعا، فقد طلّق أولاد أحمد وفصل عن عمله بعد أن ارتكب الحماقات الممكنة بهدف الوصول إلى ذلك، وظل ممعناً في حياة الصعلكة والتشرد تلك إلى أن مله الجميع تقريبا، أما اليسار الذي احتضنه مطلع الثمانينات، وصفق بحرارة وحماس لقصائده التحريضية الأولى فقد شرع يشكك في صدق ما يقول وما يكتب قبل أن ينبذه ويقصيه نهائيا من دائرة اهتماماته· مقابل هذا التردي السلوكي، وهذا التدمير المنهجي للجسد، وهذا الايقاع اليومي الجنوني، كان أولاد أحمد ينضج شعريا، وبإمكان كل من يهتم بشعر أولاد أحمد خلال الفترة الفاصلة بين مطلع الثمانينات ومطلع التسعينات أن يلاحظ وعند الوهلة الأولى الفرق البين والشاسع بين القصائد الأولى والقصائد الأخيرة، ففي الأولى يبدو أولاد أحمد سطحياً، بل مبتذلا أحيانا ومقلدا لبعض من الشعراء مثل محمود درويش، منساقا لتلك الشعارات الشعبوية التي كانت تشكل منهج أغلب الشعراء التحريضيين خلال السبعينات، صحيح أن لغته كانت تبدو هنا وهناك أكثر توترا وعنفا وصفاء من لغتهم، غير أن أولاد احمد ظل مع ذلك سجينا لقاموسهم الشعري، مرتبطا ارتباطا متينا بقوالبهم ورؤاهم الفنية والنظرية، أما في قصائده الأخيرة، خصوصا في نص ''الوصية'' الذي اعتبره واحداً من أروع النصوص الشعرية التونسية التي كتبت على مدى القرن برمته، فإننا نستطيع أن نرى أولاد أحمد وقد أمسك بناصية الشعر واللغة، وتحرر من الآخرين· وتجدر الإشارة إلى أن هذا النضج الأصيل عند أولاد أحمد لم يتحقق فقط بسبب ما كنا اشرنا إليه، بل كان ناتجا أيضا عن تلك المقالات الساخرة والملتهبة التي برع أولاد أحمد ولا يزال في كتابتها، والتي حولته شيئاً فشيئاً إلى شاهد عيان قادر أن يلتقط بحسّ مرهف كل تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في هذه البلاد· اتلاف الرصيد يواصل هنري ميللر تحديد مواصفات الشاعر الملعون ويقول: ''إن الشاعر الملعون عادة ما يكون تلميذاً سيئاً، لقد ولد وهو يحلم بالجنة، وحتى وإن بدا هذا الحلم أمرا مستحيلا وجنونيا فإنه لا يكف البتة عن الكفاح من أجل تحقيقه، إنه كائن فاسد لا يمكن أن يقوّم البتّة، وهو حريص على معاودة ارتكاب الذنوب والجرائم التي عوقب من أجلها سابقا، وهو يفهم الحاضر، ويمسك بالمستقبل، لكن الحاضر عديم المعنى بالنسبة إليه، النجاح لا يبهره مطلقا، والجوائز تبدو له سخيفة، أما الفرص الجيدة فيتركها تضيع منه دون أي ندم· سوف أشير إلى جانب يدل بوضوح تام على أن المواصفات المذكورة تنطبق تمام الانطباق على اولاد احمد، منذ البداية استطاع اولاد احمد أن يفرض نفسه بقوة في المشهد الشعري والثقافي، بل انه أصبح الشاعر الأكثر شهرة وشعبية في جميع أنحاء البلاد، ومع ذلك لم يهتم اولاد احمد بهذا الرصيد الهائل، بل سعى بكل الطرق والوسائل لاتلافه، وتفتيته والعبث به· وفي حين كان الشعراء الأقل شهرة منه يتراكضون ويتزاحمون بالمناكب من أجل كسب ودّ أصحاب النفوذ، والحصول على بعض الامتيازات، كان أولاد أحمد يرتكب كل انواع الحماقات الممكنة، وأحيانا عن عمد، لكي ينال مزيدا من العذاب والتشرد والمتاعب، الشيء الوحيد الذي كان يشغله منذ نهاية الثمانينات هو تأسيس بيت الشعر، وفكرة هذا المشروع لا تستند إلى أي هدف نفعي أو انتهازي كما يتوهم البعض، وإنما هي وليدة رؤية عميقة للشعر ذاته، إن تأسيس بيت للشعر هو في آخر المطاف اعتراف ضمني بالشعر وبدوره في المجتمع، وتحقيق ما يمكن أن يساعد الشعراء على الخروج من حالة الإقصاء والتهميش· ولعل النص التأسيسي الذي قرأه أولاد أحمد يوم افتتاح ''بيت الشعر '' في 23 أكتوبر 1993 هو أروع ما يمكن أن يوضح المقاصد الأساسية التي انبنى عليها المشروع المذكور·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©