الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مدينة القبور من المغرب إلى الخليج

28 نوفمبر 2007 21:26
قبل أن أناقش إشكالية المصطلح والتجنيس الأدبي لابد لنا أن نقرأ العمل الأدبي الجديد للدكتور أحمد عبدالملك ''مدينة القبور'' في ضوء مفهوم قصيدة النثر وبالتحديد ''قصائد الهايكو'' اليابانية التي تتميز بخصائص أهمها: الوحدة العضوية للموضوعة المتناولة ثم المفارقة الصادمة التي تكسر أفق توقع القارئ في نهاية القصيدة مما تعطي الموضوعة غرابة ونسقاً لم تش به المقدمات · يضع أحمد عبدالملك على غلاف كتابه إضافتين داعمتين للعنوان هما ''نصوص'' و''من المغرب العربي إلى الخليج''، أما ''نصوص'' فهي لفظة مفارقة ولا تمت للمتن بصلة كون المتن ليس نصاً أو ليس مجموعة من النصوص وانما هو مقاطع نثرية ذات مداليل أقرب إلى روح الشعر بمعناه النثري ''قصيدة نثر'' يمكن أن تقترب إلى حد كبير من نمط ونسق ''الهايكو الياباني'' الذي أشرنا إلى سماته هذا بالإضافة إلى أن بريق هذه المتون التي تصل إلى 130 متناً يسميها أحمد عبدالملك بالمشهد قد تخفت تارة وتتوهج تارة أخرى، غير أننا نجد تعارضاً وتضاداً وقع به الكاتب ''ويطلق عليه الشاعر'' بين لفظتي ''نصوص'' على الغلاف و''المشهد'' في أعلى المتون الـ ·130 ومن الغرابة أن يحمل غلاف القصائد النثرية عنواناً شارحاً، فيه من الشفرات ما يوحي بادانة مجتمع عربي بأكمله حين يكتب ''من المغرب العربي إلى الخليج··'' وما بعد الخليج لا يضع صفة، بينما اكتفى بالعربي صفة للمغرب، فهل أراد أن يفصح عن شفرة أو دلالة لا نفهمها؟ ولو افترضنا أن العنوان الشارح هذا قد طابق ما هو متداول جغرافياً، فما هي إذاً ضرورته؟ أليس الاكتفاء بالعنوان الأصل ''مدينة القبور'' يعطي بعداً إيحائيا أعمق لا يجعل القارئ سلبياً بل يتحرك في خلق عوالم المتن ليطابقها بعالمنا العربي، أعتقد أن مهمة المبدع قد تخطت الآن حدود كل شيء يقال في الكتابة، ولنأخذ المتن التالي: (انحناء): ظل ينحني طوال حياته·· مات متأثراً بفقر الكرامة·· أو (الكلاب): عندما اسرجوا الكلاب قررت الخيول العربية انتحاراً جماعياً· أو (طوفان): منذ الصرخة الأولى حقنوهم بالخوف، لذا لم يصرخوا عندما اجتاحهم الطوفان· في هذه المتون الثلاثة انزياحات لغوية تقود إلى تحويل المعاني ولا نريد أن نستشهد بمفهوم جان كوهن عن مفهوم الانزياح الذي قال فيه العرب منذ عبدالقاهر الجرجاني في ''دلائل الاعجاز''، أولاً، لا تبدو عبارة ''ظل ينحني طوال حياته'' سوى أنها عبارة تقريرية، عادية، مستهلكة، لكن ''فقر الكرامة'' تفعيل ايحائي، أو مدلول ساحب للعبارة باتجاه الانحناء حيث تعلم الانحناء يولد فقراً لا بالمعنى الحقيقي لكلمة فقر وانما بالمعنى المجازي حين استعار الفقر من معناه الحقيقي وهو الجوع إلى معناه المجازي ''الانحناء''، وغرابة الصورة هنا في ''الموت بفقر الكرامة'' وذلك مالا يخطر على ذهن المتلقي فبالتالي حصول هذا التفجر والمفارقة أو الصدمة خلق من هذا النص المكثف حالة شعرية متفوقة· أما في ''عندما أسرجوا الكلاب··'' فنجد مقلوب المتن السابق الذي انتقل من الحقيقة إلى الحقيقة، تضادا تقابليا وإذا لم نفترض ذلك لقلنا من المجاز إلى المجاز·· وهذا نادر في الاستخدام البلاغي للصورة يحسب تماماً لأحمد عبدالملك· في المتن الثالث مشابهة مع المتن الأول نجد الاحتجاج قد ولد الخوف بسبب القهر الذي مورس ضد المجتمع، إلا أن الصورة تجلت في الانزياح عندما جاء الطوفان لم يصرخوا لأنهم اعتادوا ألا يصرخوا بسبب خوفهم المكرس في الذات هي بلاشك مقاطع من هايكو شعري متناسق اعتمد المعنى واقتصد في اللغة· لكن هذا لا يعني أن أحمد عبدالملك لم يسقط في التقريرية لأنه لم ينقذ متونه بالمجاز بل ظل في كثير منها ينتقل من الحقيقة إلى الحقيقة وهذا لا يولد غرابة ولنأخذ هذا المتن: (تقرب): أراد أن يكون مقرباً من العمدة، رضخ للشرط، ملك كل شيء وفقد شيئاً واحداً! أصبحت زوجته تبصق عليه صباح مساء·· لا أجد في هذا المتن أي استعارة شعرية أو قلب لواقعية الحدث·· إنه نص يومي، صورة ليس فيها غرابة المتخيل واذا افترضنا أن أحمد عبدالملك توقف عند ''وفقد شيئاً واحداً'' لبدت الصورة أكثر اشعاعاً بالغموض· ''الرجل المناسب'': من أهم مؤهلات الرجل المناسب للمكان المناسب ألا يقول لا·· حتى وإن ركبوا فوق ظهره·· هكذا تتحقق التنمية الشاملة·· لننظر إلى مفاصل هذا المتن لنجد أن عبارة ''حتى وإن ركبوا فوق ظهره'' استخدام يومي، عادي لم يضخ فيه أحمد عبدالملك روح الشعرية وعبارة ''من أهم··· ألا يقول لا'' يومية أيضاً، متداولة·· غير أنه في ''هكذا تتحقق التنمية الشاملة'' ليست مغذية للمفصلين السابقين بل غذت موقفاً آيديولوجياً خرج به عبدالملك من الخاص إلى العام، وهذا لم يخدم المتن برمته· ولنأخذ مثالاً آخر ''اختطاف'': لا زالت المدينة مخطوفة، لم يعلموا أهلها كيفية الدفاع عن شرفهم·· فعاشوا بلا شرف· ما هي الغرابة هنا؟ أنها مدينة قبور·· ماذا نستفيد من هذا المتن الذي اعتمد في أوله على المجاز وانتهى بالحقيقة ولو قلبنا المعادلة من الحقيقة إلى المجاز لشع المتن بريقاً· ''لم يعلموا أهلها الدفاع عن شرفهم·· لا زالت المدينة مخطوفة'' أما ''كيفية'' و''فعاشوا بلا شرف'' فهي زوائد أغرقت المعنى بما هو واقعي تهرب منه الشعرية· تجربة مهمة، وعميقة، أقدم عليها الدكتور أحمد عبدالملك بعد أن قدم ابداعاً مهماً في الرواية والمسرحية والدراسات الإعلامية، تجربة تحسب له في الدخول إلى عالم شعرية النثر العربي بكل قوة وثقة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©