الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حظر تجوال يوميات ميتة على مسرح الشمس البيروتي

حظر تجوال يوميات ميتة على مسرح الشمس البيروتي
28 نوفمبر 2007 21:27
لعبة الضوء والظل تفتح نوافذ في جسد مدينة مصابة بداء الموت، تنفذ اللعبة الى صلب الوجع العراقي الذي يتدحرج مثل كرة نار، تجول في الشوارع من السوق العربي الى ساحة الرصافي الى الشورجة الى شارع المتنبي، مروراً بجسر الأحرار، وليس آخراً باب المعظم· هناك وحدها النار تخرق حظر التجوال حيث الفراغ سيد الساحات والميادين العامة، تعبر الأخضر الذي احترق متلصلصة على جدران لا زالت تخبئ خلفها حيوات تنبض، داخل المدينة رعب وفقر وموت بالجملة، يقول الراوي: ''كانوا في طريقهم إلى المطعم، دوى انفجار قوي، ومن لم تقتله الشظية مات متأثراً بمسمار''· لعبة الجلاد إنها لعبة الجلاد يظهّرها الفنان مهند الهادي، مؤلف ومخرج مسرحية ''حظر تجوال'' التي احتضنها مسرح مركز دوار الشمس في بيروت مؤخرا، مرة يلبس الجلاد ثوب محتل، أو أنه يأتي بهيئة ابن البلد الذي لا يعرف شيئاً عن انتمائه، يحدث بعدها أن يباغتك طرق قوي على الباب الخشبي منتصف ليل ليس فيه كهرباء، تطل وجوه بلا ملامح سوى أنها تحمل أدوات موت وصوت يصيح: ''هوّ هادا''، ينال الشاب نصيبه من الضرب والسباب قبل أن يحصل على فرصة قد لا تكون لصالحه، يسأل الصوت: ''انت مين؟''·الاجابة: ''أنا عراقي''· يسأل ثانية: ''مع مين، معنا أو معهم؟''، يخال الشاب ''المضروب'' أن الإجابة المنقذة: ''معكم بالطبع''، يثور الصوت مجدداً محدثاً لكمات في الجسد الذي يرتجف، ذريعته: ''احنا معاهم''· لكن صوتاً أكثر خشونة يحسم المصير: ''يا شباب لا مو هو هاد''، ينجو الشاب الذي يعمل ماسح أحذية، يقصد المأوى الليلي داخل أحد مقاهي شارع الرشيد، يكون بانتظاره عامل التنظيفات، شريكه في مساحة تقل عن خمسة أمتار، يخبره عن المغامرة الليلية بينما ''يضحك'' من كثرة الوجع، يطارد نقطة دم علقت على معطفه الرث، يبدأ يصرخ تماماً كما لو أنه ''الليدي'' في مسرحية ''ماكبث'' لشكسبير: ''زولي أيتها البقعة اللعينة، زولي···''· لكن البقعة لا تزول· مزاوجة بين زمنين تجسّد ''حظر تجوال'' التي تنتمي إلى تيار المسرح التجريبي، الهم العراقي من زوايا تخلّف وجعاً، تطرق اليوميات بخطاب عفوي وسينوغرافيا بسيطة، من نافذة عاملين يزاولان أكثر المهن تماساً بالناس وأقلها مردوداً، عاملان يخافان ويقلقان برغم سعيهما إلى لحظات فرح ونشوة تكون هاربة خلسة من بقعة لم يجر انتهاكها بعد، فإذا بعامل التنظيفات (الممثل سمر قحطان) يبدد الخوف على مصير زميله الذي تأخر، بالسؤال فور عودته: ''هل أحضرت مشروباً؟''· يجيب صباغ الأحذية بنعم، يثمل الاثنان، يغرقان في عبثية ضيق الحال الذي لا يخولهما حتى فرصة الحصول على أكواب تصلح للشراب· بعد ''السكرة'' صمت ولغة إشارات، الضوء أزرق في المكان الذي يشهد عملية حسابية مستجدة: ''25 قتيلا في انفجار واحد * 360 يوماً في السنة = 9 آلاف قتيل، حيل كم سنة ينراد لنا حتى نخلص إذا كان عدد سكان العراق 22 مليون نسمة؟''· يتابع الشابان حساباتهما المشتركة على وقع عسس الليل التي تجوب الشوارع بحثاً عن زلة لسان· زمن المسرحية يزاوج بين حقبة صدام حسين والاحتلال الذي لم ينجح بعد في تبديد قلق وألم العراقيين، بل على العكس تراه يفاقم من الموت والسرقة التي طالت الحيوات والأملاك والأحلام، يحكي صباغ الأحذية باللهجة العراقية العامية عن المرّة الوحيدة التي رفع فيها رأسه الى السماء: ''يومها شفت قنابل وراها قنابل، من بعدها عمري ما شلت راسي عن الأرض، صار همّي الكنادر وبس، هاي كندرة أميركية ومتلها بريطانية، ولازم عليّ أصبغها ولمّعها، كنت أحزن لما أصبغ كنادر بعرف انو أصحابها رايحين عالموت، هيك صارت حياتي كندرة عتيقة، ومات والدي وصار الموت يكبر''· حياة عامل التنظيفات تشبه كثيراً أحوال العراقيين، تبدأ بمفعول رجعي من مرحلة سبقت الاحتلال: ''فتّحت عيني على الدنيا وعندي كومة أخوة، أبوي قاسي غيّر أسماءنا· كان يضرب أختي دجلة بالنعال، راح أبوي واحتفينا بموته، قلنا هذا اليوم صار فينا نتنفس وناكل ونشرب ونّام، لكن بعدها لا قدرنا ناكل ولا نشرب ولا ننام، تعبنا أنا ودجلة وأمي الخرسة· ومن يوم ما بعنا البيت صارت عيشتنا جحيم، دجلة تزوجت وأخذت أمي معاها، وأنا لقيت نفسي بقهوة بشارع الرشيد، قررنا نعيش سوية أنا وصاحبي الصباغ، أنا قضيت حياتي حر بالماء والصابون''· ''شو الفرق بيننا وبين العالم؟'' يسأل صباغ الأحذية الذي يجيب سريعاً عن سؤاله: ''العالم طابة كروية، العالم يقتل ويمشي، نحن نخاف الموت، يضربنا البرد وفي يوم تمر الطابة من أمامنا، ماذا نفعل؟''، يطلق ضحكة قبل أن يجيب ثانية بأسلوب الكوميديا السوداء: ''نلحق بالطابة ثم نتشبث بآخر جزء، نلحّق حالنا''، تشكك في ما تسمع وترى: هل أنه يبكي أم يضحك أم أصابه مس؟· سامبا ضد الموت هدير الهليكوبتر يخيم على المسرح، يكبر السؤال عن الهدف المنتظر على هيئة شبح· يعصب الخوف عيون الشابين بقبعات سوداء كما لو أنهما نعامتان، بانتظار المجهول يدخل الاثنان في عراك غير مبرر، يفضان الشراكة بسياج يفاقم من الحصار، تدخل الرشوة ووعود الرخاء شرط الانغماس في الرذيلة إلى حدود السرقة والقتل والنهب، لكن الشابين الذين يعيشان على قارعة الطريق ينبذان الانغماس في ملذات الحياة على حساب الوطن· يصرخ عامل التنظيفات: ''أنا شريف تطرق الشمس في رأسي''، في المحصلة يعود الشابان صديقين يواجهان الموت الذي بات حدثاً يومياً عابراً بأغنية ''سامبا''، ثم يتبادلان الأدوار· يروي العامل مغامرات يومه مع الموت والدماء والدمار، يعبّر عن انزعاجه من جثة بقيت تطفو في النهر تحت الجسر من دون أن يلتقطها أحدهم، يعلق ماسح الأحذية: بشرفك··· بشرفك· أغنية السامبا لا تزال تطفو برغم كرة النار، الكرة طابة كبيرة لم يظهر بعد من يصدها بكلتا يديه، حظر التجوال ما زال ساري المفعول، الشوارع ''ورا الساعة ستة شولة''، العيون مفتوحة·
المصدر: بيروت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©