الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عندما تكون المدن منبع الذكريات والإلفة الدائمة

عندما تكون المدن منبع الذكريات والإلفة الدائمة
30 نوفمبر 2007 00:12
رحلة لا تنتهي تلك التي كان يجوبها العربي الساكن في الصحراء بحثاً عن الكلأ والماء كي يرعى إبله ومواشيه، فما أن يلوح بيد الفرح والتفاؤل والحياة، ويصل إلى حلمه المنشود، حيث يزهر الحب في تلك الفيافي، والبقاع، ويكتب أرق قصائد التشبُّب والغزل، حتى يلعب القدر لعبته من جديد في جدلية مستمرة بين الحزن والفرح، يغادر الأحبة المكان ولا يتبقى إلا آثارهم الدارسة، مواقد النيران، والحجارة، وبقية من الشواهد الدالة على المكان، فينتقل الشاعر من حالة إلى أخرى من الغزل العذري العفيف إلى النوح والبكاء، وكأنَّ الآلام والخطايا مشعل الأمل والتفاؤل والارتياح، تماماً كالليل الأليل الذي يسبق انبلاج الفجر ليعلن تأوهاته وأحزانه، وينثر دموعه الغزيرة، فهذا شاعر يدعو صاحبيه للوقوف على الأطلال من أجل البكاء: قفا نبك لذكرى حبيبٍ ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ هذه الظاهرة التي كان الشاعر الجاهلي يبدأ فيها قصيدته بالوقوف على الأطلال حيث نرى فيها الأصحاب والمرأة والناقة قبل أن يدخل في الموضوع الأساسي لقصيدته سميت بظاهرة الطلل، والتي بقيت موجودة كإحدى العلامات المميزة للشعر العربي بعد العصر الجاهلي، وهي بلا شك تمثل الجذور الثقافية والحضارية للإنسان العربي منذ بداياته الأولى قبل مجيء الإسلام· عندما دخل العرب عصر التمدُّن، وبنوا الممالك والدول زمن الأمويين والعباسيين، تقلَّصت هذه الظاهرة وانتهت، ودعا الشُّعراء إلى الوقوف في وجهها، لأنها تغرق الإنسان في الحزن بعيداً عن ملذّات الحياة ومباهجها، لقد تجاوز الشعراء فيما بعد المطلع الطَّللي، وصاروا يسمون الأشياء بمسمياتها· لكن المكان ذاته هو الذي بقي خالداً مرتسماً في عمق الوجدان والذاكرة الإنسانية أينما حلَّ الإنسان وارتحل، وتنقل بين البلدان والقارات في عصر السرعة والمعرفة والتكنولوجيا، لاسيما وأن الإنسان الحديث صار يمتلك هوية وطنية، وينتمي لشعب من الشعوب· ذكريات الحنين لا نستطيع أن نقول عن المكان سوى إنه منبع الذكريات والألفة الدائمة حتى لو كان ذلك في الأحلام، وهو نوع من العشق والوله والانتماء للأرض التي يعيش فيها الإنسان مع أهله ومجتمعه حياة توفر لهم شيئاً من الطمأنينة والراحة والسعادة، وحين يفقد المرء وطنه، أو يبتعد عنه، وتداعبه الذكريات، فإنه قد يحس إحساس الشاعر القديم نفسه في الشَّوق والعودة إلى الماضي: وقفتُ بها من بعد عشرين حجة فلأياً عرفت الدار بعد توهم كلام إنساني طافح بالمشاعر الحزينة والذكريات المؤلمة لدرجة الذوبان، ويبدو أن هذه الحالة من التعلُّق بالماضي من سمات الإنسان العربي في كل زمان ومكان، فمهما تفرَّد الإنسان العربي وتميز وحقق من النجاحات بعيداً عن موطنه الأول، ستظلُّ ذكريات الحنين إلى دياره، بل وديار آبائه وأجداده تطارده، وتشعل في نفسيته الشوق والأمل في رؤية تلك الديار، والبحث عنها، والتعرُّف إليها من جديد· بيوت وقصور مسقط الرأس هو مدارج الصبا والطفولة والانتماء، والهوية الوطنية والحضارية، مطلع كل قصيدة صادقة، فيها تصوير لعذابات الإنسان لفراق الأهل والأحبة، تبرز مقدار الانتماء للوطن حتى لو كان سجناً موصد الأبواب، وللقيم الإنسانية الرفيعة التي تشتمل على الحب والوفاء والإخلاص والشوق، إنها ضرب من الجنون في الحب، وسمة من سمات الحياة الروحانية والانتماء للذات والعمق الإنساني· ألم تغادر زوجة معاوية بن أبي سفيان القصر وعادت إلى الحياة في البادية وفي ذلك أنشدت تقول: لبيتٍ تخفقُ الأرياح فيه أحبُّ إليَّ من قصر منيف ولبس عباءة وتقر عيني أحبُّ إليَّ من لبْسِ الشفوف وحين عاد الأديب المهجري ميخائيل نُعيمة إلى بلدته ''بسكتا'' بعد عشرين عاماً من الغربة في المهاجر الأميركية فإنه رسم صورة قلمية رائعة لوطنه وملاعب صباه في خطاب ألقاه بمناسبة تكريم أهالي بلدته له حيث ذكر أن الجبال التي كان يتسلَّقها في الصغر هي التي تتسلَّق قلبه الآن، والسهول التي كان يسير فيها تسري في دمه بعد أن عاد إلى الوطن· ما أروع الشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي كان شغوفاً بما يدور على أرض الوطن، وهو في المهاجر البعيدة، وكذلك نراه في نظرته للحياة، والاقتران بزوجة تكون رفيقة العمر، ذلك أنه اشترط عليها أن تكون من قومه العرب، وحين أحبته تلك الفتاة الغربية (مود) رفض أن يتزوَّجها وخاطبها قائلاً: ولو لم تكوني فرنجية لكنت سعادي قبل سعادي لعمرك يا مود لولا ذووكِ لما فرَّق الحب بين العباد لا يمكن أن يفقد الإنسان ذاكرته وتراثه بسهوله، ذلك أن جذوره تكمن في لغة الأرض التي أنجبته، وأنجبت الآباء والأجداد، لذلك فإنه يحب البيوت القديمة التي ولد فيها، ويعشق رمال الصحارى التي تملأ عيونه، ويحب صعود الجبال، مهما استطاب الحياة في بلاد أخرى· إن التراث الإنساني لا يأتي من فراغ، والإنسان الحقيقي هو الذي يعتز بجذوره الممتدة في التاريخ، لأن ذلك يثبت أنه ابن حضارة عريقة، والانتماء للوطن هو انتماء إنساني ولا يحمل مطلقاً سمات العنصرية، إلا إذا كان الوطن مصطنعاً على غرار إسرائيل، ذلك أن اليهود يدركون بأن الأرض التي يعيشون فيها بفلسطين ليست لهم، والمدن القديمة مثل حيفا وعكا والقدس وعسقلان ويافا ليست مدنهم· ومن هنا فإن فلسطين في نظر البعض لا تحتمل أن تتعايش فيها دولتان إحداها إنسانية والأخرى عنصرية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©