الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصر الحصن.. حيث الحجارة تغتسل بضوء القمر

قصر الحصن.. حيث الحجارة تغتسل بضوء القمر
20 فبراير 2014 11:51
شهيـرة أحـمـد لماذا تركت الحصان وحيداً؟ لكي يؤنس البيت، يا ولدي، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها. تداعى هذا المقطع الشعري للشاعر محمود درويش إلى ذاكرتي، بينما كنت أتابع ما يقوله الدكتور حسام مهدي، مدير قسم الترميم في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة عن ترميم قصر الحصن، إذ استدلّ في شرحه لأهمية إيجاد وظيفة للقصر بمثل شعبي مصري يقول ما معناه: «البيت اللي أهله يتركوه للسكوت.. يحزن ويموت»... البيوت تموت إذن إذا أهملت أو تركت بلا أنفاس بشرية تتردد في جنباتها. لكن ما الذي يجمع بين فعل الترميم وفعل الموت والحصان؟ يحيل الترميم في مدلولاته المباشرة إلى التجديد.. يحيل التجديد بدوره إلى الإحياء (الذي هو ضد الموت) أي إعادة الحياة والروح إلى الأمكنة المهمة، التي تمتلك من الرمزية لدى أصحابها ما يجعلهم حريصين على ترميمها لـ ... تبقى. في الحقيقة هذه هي الفلسفة الأساسية، التي دفعت الإنسانية للحفاظ على ذاكرتها المكانية وشواهدها المهمة، فاخترعت الترميم... لعل الأمر ارتبط منذ البدء بالرغبة في الحفاظ على المقدس الديني، ثم امتد إلى الأماكن التي تمتلك شيئاً من القداسة أيضاً لكنها هذه المرة ليست قداسة دينية بل تاريخية أو حضارية تهم حركة البشري على وجه الأرض.. فعله أو أثره في المكان والزمان... لعله الخلود الذي لطالما داعب العقل البشري وأخذه إلى مديات وجودية تنداح دوائرها واحدة إثر أخرى، وفي المركز منها تحيا الأسطورة. نحن إذن لا نرمم الحجر... إنما نرمم ذواتنا الثقافية، نرمم ذاكرتنا الحضارية، نستنقذ ما بقي لنا من براثن الأفول أو الغياب. وفي الغياب قول كثير، لكن يعنينا منه هنا أن البيوت لا تغيب إذا وجدت من يسكنها. لا يعرف النسيان طريقه إلى بيت يعيش فيه إنسان. لا يحزن بيت يؤنسه الكائن بما في ذلك الحصان الذي يختصر في هذا المقطع الشعري وفي تجليات الذاكرة الإنسانية عامة والعربية خاصة الكثير من القيم والمعاني والدلالات، ويتربع في قلب الوعي الجمعي للعربي. لطالما كان الحصان صديق العربي، ولسانه، وأنيسه. القصص كثيرة وعديدة لا مجال لسردها. وبعيداً عن الإحالة الميثولوجية والرمزية التي يتوفر عليها الحصان في هذا الشعر وما ينطمر فيه من دلالات تخص الرحيل الفلسطيني الكبير عن البيت الأول/ الوطن، يعنينا هنا أن هذا الكائن (الحصان) يقوم بفعل الإيناس، وهو فعل حياة بامتياز بل فعل حفاظ على حياة من تتم مؤانسته (البيت). هل نتساءل عن مدى (صدفوية) حضور الحصان بقوة في العرض الافتتاحي لمهرجان قصر الحصن؟. هل نلفت إلى وجود الحصان أيضاً في القصة التي تؤرخ لنشأة الحياة في الجزيرة، الحكاية المعروفة عن الفارس التي طارد ظبياً فاكتشف نبع الماء، لتدخل الجزيرة التي كانت قفراء، في فعل الحياة.. ألم يكن الفارس يمتطي حصاناً أم أنه طارد الظبي راجلاً على قدميه؟ أبعاد ومنهجيات لكي ترمم مبنى ما لابد أن تفهمه، وفهمه يعني قراءته قراءة دقيقة، فاحصة، و... منهجية، وهذا ما يحرص عليه الفريق المختص بترميم قصر الحصن، حيث يتّبع المنهجيات والأصول الدولية التي وضعتها منظمات دولية مثل اليونسكو والإيكونومست في التعامل مع التراث المبني، على ما قال حسام مهدي. مضيفاً أن هذا الفهم هو «الأرضية التي نقف عليها ولابد منه لكي تكون قراراتنا بعد ذلك صحيحة وصائبة». لكن ما الذي يعنيه فهم مبنى ما؟ يجيب مهدي: فهم المبنى له عدة جوانب، والأصل فيه فهم القيم التي يمثلها هذا المبنى. في عقود سابقة كان التعامل مع المباني يتم بناء على أهميتها التاريخية فقط. الآن تغير الحال كثيراً في علم الترميم، صارت كل النواحي الأخرى مهمة: الثقافية، التاريخية، الاجتماعية، الاقتصادية بالإضافة إلى القيم الجمالية والمعمارية، بحيث يمكن في النهاية، وعلى أساس هذه القيم، اتخاذ قرارات الترميم وما يتعلق به. ويحتل قصر الحصن، على مقياس القيم هذا، أهمية عالية جداً ليس لأبوظبي فقط وإنما للإمارات بشكل عام. فالقصر، شاهد على رحلة أبوظبي وما مرّت به تاريخياً، خاصة المراحل الحديثة، ذلك أن الإمارة بعد اكتشاف النفط شهدت تطورات دراماتيكية وتغيراً شاملاً، وطفرة مبهرة إلى حد أن من رآها في ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي لا يتعرف إليها الآن». ويضيف مهدي: «ثمة نقطة مهمة لابد من الإشارة إليها وهي كون القصر شاهدا على فترة الثمانينيات، وهي فترة مهمة، بل مفصلية في حياة أبوظبي، حيث شهدت زخماً في البناء والتعمير والتمدن. طبقات الحصن وجدرانه وبناؤه تشهد على هذه النقطة بالذات، لأن رؤية الشيخ زايد كانت تنطلق من أن التحديث مهم دون أن تغفل الحفاظ على التراث والهوية. ولذلك، أمر ببناء القلعة الداخلية وفي الوقت نفسه أوجد الاستخدام الجديد للقصر الخارجي». ومن ينتبه أو يحدق جيداً في المنطقة التي تحيط بالقصر، سيعثر على تجسيد حي لهذه الرؤية المتكاملة، فإلى جانب القصر التاريخي والذي كان يضم مركز الوثائق والدراسات في الثمانينيات يقع مبنى المجلس الاستشاري الوطني، وبالقرب منهما المجمع الثقافي، والمغزى واضح: هنا، في مكان واحد، يجتمع التاريخي مع السياسي مع الثقافي، ويلتقي القديم مع المعاصر في رحلة تنوع فكري وبصري لا تخطئها عين. ويعلق الدكتور مهدي: «نحن في عملنا نضع في الاعتبار كل هذه الأمور، ولا نتعامل مع مبنى أثري أو تراثي فقط، ولو نظرنا إليه من هذه الزاوية فقط فإن فترة الثمانينيات ستبدو حديثة، بينما هي فترة مفصلية في تاريخ المكان، ومن المهم إبرازها لأنها شاهد على تحول خطير في تاريخ الإمارة. كما أنها شاهد على بداية الوعي بالتراث والتاريخ. قبل ذلك لم يكن ترميم المباني يتم لكونها علماً تراثياً أو أثراً تاريخياً مهماً يحتضن ذاكرة الوطن، وإنما كان يتم لأسباب وظيفية. كانت المباني تجدد بهدف استخدامها للعيش». قلت: هل يعني هذا أنكم ستحافظون على كل المراحل؟ فقال: الأصل في العمل الترميمي أن يتم الحفاظ على كل مراحل المبنى، نحن في حالة دراسة، مازلنا نسعى إلى فهم المكان، لو تمكنا من الحفاظ على كل الطبقات سيكون أمراً جيداً جداً. في حالة الحصن نحن أمام تحديات متعددة، للحفاظ على كل الطبقات. هنا، تحضر المعايير الدولية، حين نجد أن طبقة ما من الطبقات تضر بالأخرى، كما في حالة القصر، حيث الحديد والإسمنت الذي كُسي به القصر يمنع الحجر المرجاني من التنفس لأنه في الأصل مساميّ، يسمح للماء بأن يدخل إليه ثم يتبخر. لكنه مع الإسمنت حرم هذه الوظيفة وصارت الرطوبة تحتبس في الداخل مما يؤثر على الحجر المرجاني الذي بني منه القصر أصلاً، ويؤدي إلى تفتته خاصة مع وجود الملح. هل الحصن في حالة جيدة؟ - حالة الحصن جيدة، لهذا نقوم بدراسة الطبقات المختلفة وأهميتها وحالتها، وهل هي في حالة جيدة؟ هل نعالجها أم نزيلها للحفاظ على الطبقة الأهم؟ هنا نقوم بالمفاضلة. أحياناً نقوم بالتجريب، نضيف مادة علاج معينة وننتظر، وربما ننتظر سنة كاملة لكي نرى الأثر، لأننا نحتاج إلى معرفة أثر الفصول، واختلاف الحرارة والرطوبة وغيرها من العوامل المناخية. لابد أن تأخذ الدراسة حقها لكي نتعامل مع المبنى بما يستحق من أهمية، ونحافظ على القديم ونسلمه للأجيال الآتية كما تسلمناه، بالطبع يمكن أن نرمم القصر ويظهر بصورة قديمة، إنما المادة نفسها تكون حديثة، وعندما يأتي جيل آخر، ويعمل تحقيقاً آركيولوجياً يجد أن المادة المستخدمة تعود إلى 2013 وليست من 1761 أو 1939. نحن نسعى إلى ترميم الحصن من دون تزييف للتاريخ، لأن من الممكن وبسهولة إعطاء الانطباع بأن كل شيء قديم وتراثي ورومانسي يحبه الناس، لكن المصداقية العلمية تكون مفقودة في هذه الحالة. نحن حريصون على المصداقية العلمية، وحريصون على أن يتم ترميم المبنى وفق الأصول المرعية عالمياً. وإذا كنا نحافظ على القيمة التاريخية فإننا في الوقت نفسه يجب أن نحافظ على القيمة المعمارية ونحرص على أن تكون ظاهرة بحيث يدخل الزائر إلى القلعة يجد أمامه قلعة قديمة، شامخة ولها عراقة التاريخ. كما أننا نراعي أيضاً القيمة الوظيفية للمبنى، أي أن يكون المبنى مستخدماً، لأن الزوار سيأتون ساعة أو ساعات ثم يذهبون. لكن من سيستخدم المبنى سيحافظ عليه، وسيتابع أي مشكلة تظهر فيه ويحلها فلا تتفاقم. يتابع الدكتور مهدي: «يقولون عندنا في الصعيد «البيت الذي يتركه أصحابه للسكوت يحزن ويموت». وهذا طبيعي لأن أي مكان غير مسكون معرض للتلف، وإذا لم يستخدم يتدهور، نحن الآن أمام سؤال الوظيفة: كيف نعيد استخدام القصر؟ كيف نقدمه للناس؟ كيف نحافظ على القيم العلمية والتاريخية والآركيولوجية التي يتوافر عليها المكان. الأمر ليس سهلاً، ونحن نحاول فهم كل هذه القيم، وفهم البنية نفسها، ومشاكل الحفاظ عليها، وإمكانية الاستخدام والتواصل بين المجتمع والحصن ونمازج بين هذا كله حتى نصل إلى تصور شامل نبني عليه مشروع الترميم. أطباء الحجر بدا لي مرممو المباني التراثية والأثرية أشبه بالأطباء، إنهم ينقذون الحجر فيما ينقذ الأطباء البشر، لكن بعض عمليات الإنقاذ تتأخر أحياناً أو تدخل الطبيب في تحد شائك أمام مرض ما. وأمام التحديات التي تواجه ترميم القصر، لاسيما في موضوع (اختناق الحجر المرجاني الأصلي) الذي كبست على أنفاسه طبقة الإسمنت والحديد ومنعته من التنفس، يبدو علم الترميم في مأزق أحياناً. يقول الدكتور مهدي: «يمكن تشبيه علم الترميم بعلم الطب، فرغم التقدم الهائل في المجال الطبي يحدث أن يُصاب شخص ما بمرض لا تفسير له، ولا يملك أحد شيئاً حياله. في الترميم أيضاً يحدث شيء مشابه، يقف المرمم حائراً أمام بعض القضايا، ويبحث عن أفضل الحلول لمعالجتها. صحيح أن التقنيات متقدمة جداً، لكن في بعض القضايا يكون هناك مشكلة في الفهم الكامل لها والتعامل معها. وعلى سبيل المثال، عملية التهوية القديمة (ملاقط الهواء) بنيت وفق فلسفة مختلفة تماماً عن فلسفة العمارة الحديثة. نحن الآن نجلس في مكان فيه نوع من التحدي للبيئة. نخلق مشكلة ونحلها، من خلال التكيف، هل يعقل مثلاً أن نترك القصر بلا تكييف؟ هذا واحد من التحديات التي ينبغي العمل على حلّها بما يناسب هوية المكان المعمارية وخصوصيته الثقافية ورمزيته التاريخية. من جهته، يشير الدكتور عقيل عقيل إلى أن هناك أمور تشكل تحديات وفرصاً في الوقت ذاته. من ذلك، قلة المعلومات حول القصر، وغلبة المرويات الشفاهية على ما يتوفر منها تشكل تحد للمرمم لكن وجود الصور يقدم فرصة جيدة للترميم. وفيما يخص نظام التهوية، يرى الدكتور عقيل أن الطريقة القديمة كانت ممكنة ومناسبة في الماضي، حين كانت المساحة مفتوحة ولا توجد حول القصر مبان شاهقة وعمارات عالية، فضلاً عن كون أبوظبي نفسها باتت مدينة أكثر حرارة قياساً بالزمان القديم، بسبب العوامل المصاحبة للتمدن كالسيارات التي تنفث هواء ساخناً والشقق التي تستخدم المكيفات وغيرها مما يجعل من فكرة ترك القصر بلا تكييف فكرة غير مناسبة. ويعتقد الدكتور عقيل أن البرج يروي حكاية أبوظبي من خلال طبقاته. كل طبقة تحكي عن مرحلة، ولابد من إظهارها كلها لتكتمل فصول الحكاية.. لكنه يلفت إلى أن الطبقة الخارجية تسبب مشكلة للطبقة القديمة، هنا يبرز التحدي أمام من يقوم بعملية الترميم ليبحث عن صيغة ما تحقق الهدف. كذلك الأمر مع الصخور المرجانية المحرمة دولياً، لا بد من البحث عن بدائل مناسبة لها، والأمر نفسه ينطبق على خشب الجندل. والهدف في النهاية لا يقتصر على الحفاظ على المظهر المادي للحصن وإنما على روح المبنى. ويرى الدكتور عقيل في مهرجان قصر الحصن خطوة ناجحة على صعيد الحفاظ على القيمة الرمزية والاجتماعية لهذا المكان التاريخي، فمن خلاله يسلط الضوء على أهميته ويتعرف الجيل الجديد والشاب على تاريخه، ويقرأ المكان في ضوء الثقافي. هكذا يبقى الحصن في ذاكرة الأجيال الشابة. ويلمح الدكتور عقيل إلى أن النظرة المستقبلية لترميم الحصن ستركز على إيجاد وظيفة للمبنى تراعي طبيعته وخصائصه وسماته، وتكون ملائمة له.. لكي يجري تهيئة المكان بطريقة تناسب النشاط الجديد المقترح، وتسهم في إحياء أبعاده الرمزية، وتوثق العرى مع المجتمع المحلي. ثم إن المهرجان يبرز الوجه الحضاري لأبوظبي، ويعلنها كمدينة لها ذاكرة وتاريخ وثقافة وليست مجرد مكان تتكدس فيه المباني العالية والعمارات الحديثة. سرّ البريق مع خبير الترميم البريطاني مارك بويل كيفين، مدير قسم الهندسة المعمارية في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، تتضح عملياً كل التفاصيل التي سبق وأوردتها، حيث تظهر جولة ميدانية برفقته في أنحاء القصر تفاصيل إضافية عن عمليات الترميم وتحدياته وغير ذلك من التفاصيل. دخلنا في طقس الحصن وتاريخ بنائه، حيث أشار إلى أن أول شيء بني بالقصر هو برج المراقبة وذلك في عام 1761 ومن ثم الحائط الجانبي لبرج المراقبة الأول الذي بني عام 1795، بهدف توفير الحماية للجزيرة ولمصادر المياه العذبة في المنطقة. وهو يتميز بوجود عدد من الفتحات المخصصة لحماية البناء. ذاك هو البرج الذي يقف على يسار مدخل القلعة الداخلية، ومثل حصون كثيرة ليس له أي باب ويمكن الوصول إليه من خلال ارتقاء سلالم من حبال لجلب المياه، لافتاً إلى أن الفتحات المدعمة والمبنية في أعلى البرج ليست للزينة فقط، بل بهدف الحماية، حتى لا تأتي الصقور والجوارح لتلويث الماء ولا يجرؤ أحد على تسلق أعلى القمة لسرقة الماء. عن جدران القصر لا تسأل واسأل عن سرّ البريق الذي كشف عنه مارك كيفن. أمام الجدران العالية، حتماً كانت شاهقة في ذلك الزمان، وشكلت رادعاً لكل من تسول له نفسه مهاجمة الحصن. قال مارك إن الحجارة المرجانية كانت تقطع على شكل قوالب مكعبة الشكل. وتترك لتجف تحت أشعة الشمس لمدة أسبوع حتى تتحول إلى قوالب صلبة. ثم تستخدم، في كيفيات محددة، لبناء الجدران. بعدها تمت كسوة الجدران بطبقة من الكلس يطلق عليها اسم ملاط الجص البحري، والذي يصنع عن طريق خلط الأحجار المرجانية، والأصداف والأحجار البحرية، وطحنها، ثم مزجها مع الماء لتشكيل المعجون. ويبدو أن الإماراتي الأول فهم الطبيعة بذكاء حاد، لفت نظر كيفن، فقد أدرك أن الحجر المرجاني يتضرر من الملوحة، فخلط المعجون بالماء العذب. المعجون، أيضاً، يقف خلف الاسم الذي أطلق على الحصن وهو «الحصن الأبيض» أو «القلعة البيضاء»، ذلك أن الأصداف والمحار المطحونة مع الرمل الأبيض اللامع كانت تلتمع تحت شمس النهار، وتجعل الحجارة تبرق في ضوء القمر. وبهذا البريق كان البحارة يستدلون على مكانهم ويدلون الآخرين. كان القصر علامة ودليلاً لمن هم في عرض البحر. قبل أن تسترسل في تذوق هذه الصورة الحالمة عن حصن يبرق في ضوء القمر، على شاطئ بحر، في طقس لطيف ليوم شتائي دافئ، يأخذك مارك إلى معلومة أخرى: في ثلاثينيات القرن الماضي بنيت الأسوار الخارجية التي نقف أمامها، والتي تجري عليها أعمال الترميم، لإزالة الطبقات الحديثة التي أضيفت إلى جدران القصر في ثمانينيات القرن الماضي، والتي تتسبب في خنق البنية التقليدية التي تتكون منها الجدران التاريخية». وأضاف: «يتعرض المبنى منذ ذلك الوقت لتكييف داخلي يبرد المبنى إلى 24 درجة مئوية. ويساهم هذا المزيج من البرودة الداخلية والحرارة الخارجية في تشكيل طبقات تكاثف محتبسة داخل الجدران وعلى سطوح الحجر المرجاني»، مؤكداً أن هذا هو السبب في صدأ الحديد الذي وضع داخل طبقة الإسمنت. على الجدران لاحظت وجود بقايا جذوع خشبية ناتئة، كأنها تركت لتستخدم في الصعود إلى الأعلى، لكن مارك أكد لي إنها بقايا شجر المنجروف الذي كان البناؤون يستخدمونه لإنشاء الطبقات المرتفعة من القصر. قام البناؤون بوضع جذع شجرة الغاف عبر الفجوة لتكون العمود الأساسي ولتتشابك مع أعمدة خشب أشجار القرم التي غمرت بمزيج من التمر المسحوق والسمك لحمايتها من الحشرات. ثم استخدم البناؤون سعف النخيل لتشكيل حصائر تعرف باسم العريش والحصير، كما استخدمت أعمدة خشب أشجار القرم لتشكيل السقالات اللازمة لبناء البرج والتي ما تزال موجودة أسفل البناء القرميدي حتى هذا اليوم. التفاصيل كثيرة يصعب إيرادها كلها، بعضها تقني بحت لا يخص سوى المرممين والمعماريين، لكن الأهم في ما قيل إنهم سيبحثون عن بدائل للحجر المرجاني الممنوع استخدامه دولياً للحفاظ على البيئة البحرية، وكذلك خشب المنجروف الذي يتمتع بحماية طبيعية. وأمام مداخل القصر لفت مارك إلى الزخارف الجميلة، التي اقتضت استخدام مواد أكثر نعومة لتشييدها، وتزيينها بقطع من البلاط المطلي بأسلوب جميل. وأطال مايك الحديث عن نظام التهوية فقال: صممت النوافذ بأسلوب يسمح لنظام التهوية التقليدي، يعني البارجيل أو ملاقف الهواء، للعمل على أفضل نحو. ويعد هذا النظام من أقدم أساليب التكييف والتهوية المعروفة، ويساهم في توجيه النسائم البحرية عبر القوس الموجود فوق النافذة إلى داخل الغرفة ليوفر فيها البرودة. وكانت النوافذ قد وضعت على مستوى الأرض لتساهم بإدخال أقل كمية من الضوء المباشر إلى الداخل. كما تتمتع النوافذ بشبكة قضبان حديدية وأقفال داخلية للخصوصية، وفي الناحية المقابلة توجد نوافذ مماثلة، وعندما تفتح النافذتان المتقابلتان يتشكل تيار هوائي يمنح الغرفة البرودة المناسبة». مشيراً إلى الحديد الذي وضع على النوافذ في ثمانينيات القرن الماضي قال مارك إن بعضها أغلق تماماً عندما أصبح القصر مقراً لمركز الوثائق والبحوث سابقاً، كما أغلقت الأقواس العالية أيضاً بشكل جزئي لإضافة الإضاءة الداخلية. لافتاً إلى أنها كانت منفذاً للهواء والشمس في الماضي عندما كانت مسكناً وحصناً ولكن عندما تحولت إلى مكاتب كان يجب إغلاقها لإضافة الإضاءة الداخلية ولتناسب الوثائق والخزائن وغيرها. والشيء نفسه حدث مع الدرج الذي بني بين الطابق الأسفل والأعلى، والذي كان أيضاً في السابق غرفة للتهوية والتبريد. وعلى البرج الشمالي الشرقي، الذي يحظى باهتمام مارك ويحبه بشكل خاص كما قال، تظهر طبقات البناء: الحجارة الأصلية، ومن ثم طبقة الترميم من الحديد والإسمنت التي أضيفت في الثمانينيات، ومن ثم الحائط الاستنادي والطبقة الثانية التي أضيفت في التسعينيات، ثم الطبقة البيضاء الأخيرة التي أضيفت في عام 2000، واليوم تعمل الهيئة على إزالتها وإعادة المبنى إلى شكله الأصلي، مؤكداً أن أي طبقة بسيطة ستدعم الترميم في هذه المرحلة لن تحوي أي مواد قابلة للصدأ وإنما ستستبدل بالـ (ستانليس ستيل) ومواد أخرى غير قابلة للصدأ وصديقة للبيئة. بقيت الإشارة إلى أن قصر الحصن، وللمرة الأولى منذ أعوام، سيفتح أبوابه لزوار مهرجان قصر الحصن، الذين سيحظون بتجربة تفاعلية مميزة من خلال مشاركتهم في جولات تعريفية داخل القصر يطلعون من خلالها على المبنى التاريخي، وما يمثله من مكانة بارزة ومهمة خلال مختلف مراحل تطور أبوظبي، وستتاح لهم الفرصة للاطلاع عن كثب على سير أعمال مشروع الترميم الذي يخضع له المبنى في الوقت الحالي. كما يسمح المهرجان هذا العام لزواره بالدخول إلى مبنى المجلس الاستشاري الوطني سابقاً والواقع في المنطقة الخارجية من قصر الحصن، والذي اتخذت فيه العديد من القرارات التاريخية المهمة منذ أواخر الستينيات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©