الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سليم بركات: لا أعرف الحداثة.. لم أفهمها

سليم بركات: لا أعرف الحداثة.. لم أفهمها
21 ابريل 2016 14:31
أجرى الحوار أحمد فرحات بحواسه النهمة وببصيرته النافذة داخل حالة مخاضيّة دائمة الاستنفار، يكتب سليم بركات (1951). إنه شاعر وروائي نسيج نفسه، نسيج تجربته الفريدة التي لا تنتسب إلى أبوّة أحد. إنه شاعر بلا أسلاف إذاً، بلا مرجعيات: يكِدُّ لفظته كدّاً غير مسبوق في المشهدية الشعرية العربية الحديثة، مُكوّناً، في المحصّلة، هذه الكاتدرائية الشعرية ذات الخصوصيّة اللغوية المتدافعة، والتي لا تستسلم أو تقع، حتى تكسو المجردات والتأملات إهاباً حسيّاً ونفسياً شاهق الشعرية. عوالمه متنافرة.. سليم بركات، يُدنيها بعضاً من بعض، يُزاوجها ويُوالدها، ويفترض عليها، ويستنفد احتمالاتها، ويكشف في نهاية المطاف عن قصيدة غنى اللحظة وغنى الموقف، التي تظل تُمارسنا بدل أن نمارسها وتحوّلنا إلى «أبدية» مُشتقّة منها، «أبدية» تستخرج ما لا يمر عبر ما يمر ، ويُنضج الزمن على نار من «الفوضى الشعرية الملتزمة بأخلاق السحر» كما يعبّر. نعم، قصيدته ذات نَفَس جائحاتي ملحمي، دوماً هو مشدود فيه شدّاً مأسوياً، بين أقصى الدواخل وأقصى الأطراف. وهو الشدّ الذي يجرفنا بنموه وتوالده وتكثّره وتكاثره، ودائماً على إيقاع تعبيري موشّح بأصولية اللغة أو العبارة، ولكن المُخرّجة بوظيفة دلاليّة حديثة، مُشتقّة أيضاً من أديم الأرض والتراب واللهفات، ومن وجيب الروح، ومن تحركات الطبيعة، وكأنها ما زالت صوتاً غريزياً حيّاً كالألم، وحيياً كالفرح. منذ ديوانه الأول: «كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً»، وحتى ديوانه الأخير «سوريا»، مروراً بعشرات الكتب الشعرية والروائية التي أنتجها حتى الآن، ثمة خيطية أسلوبية واحدة، على تطورها وتشعبها، تربط سليم بركات، مُشكّلة عالمه الإبداعي «الغريزي» المتنامي على شكل فتوحات تستهدف حقل مشاعرنا وحدوساتنا وبالطبع كل ما لا يستطيع أن يدركه عقلنا الباطني وغير الباطني. هنا حوار معه، بدأناه باستفهام حول «روح الفوضى العميقة» التي يقال إنها أساس كلّ شعريةٍ ذات معنى.. سألناه فأجاب: ** انتظامُ سياق المعنى في الكلماتِ، قويّاً أو ضعيفاً، هو ما يُنْشِىءُ النثرَ على خصائصِهِ بإضافاتٍ بلاغةٍ، أو بتجريدٍ من البلاغِةِ. النثرُ نظامٌ. النثرُ مؤسّسٌ لـ «عبودية» الكلماتِ في إنشائها خطاباً للسلوكِ العُرف، المتصالحِ، القائمِ على الإتّفاق. النثرُ متساهلٌ، لأنّه يفي بأغراضِهِ في تساهلِهِ. الشعرُ نظامٌ أيضاً، لكنّ «قواعدَه» مُتخفّفة منْ ثقلِ أيّ عَقد. إنه حسابٌ بأرقامِ الخيالِ خارج التحصيلِ الرياضيّ لمحاصيلِهِ؛ إرهابٌ في المنطق؛ انحرافٌ بالمقدّمات؛ تعطيلٌ للبرهانِ في ضبطِ القرائنِ. لا معنى للشعرِ إنْ لم يسْعَ إلى إهانةِ «الإتّفاق» ونقْضِ المصالحة. لن أمضي في الزّعمِ أنه «يؤسّسُ» لحريةٍ على تضادّ من تأسيسِ النثرِ لـ»عبوديّةِ» المخاطبةِ كاتفاقٍ مروَّضٍ من الكلمات. لكنّه غير مُعْنى باستخلاصاتِ الأحكام، ضارٍ، حنونٌ في ضراوته. فإن كان النثرُ «تقْوى» الخطاب، فالشعر نزيلُ العناد في اللاإيمان إلاّ بمكْرِ المروقِ، وسحره. النثرُ حلولٌ. لا حلولَ في الشعر كالحلولِ في النثر. الشعر فوضى «ملتزمة» بأخلاقِ السحر. لا آباء للشعر * دائماً تضع قارئ شعرِكَ في أرضِ «البلاغةِ الشعريّة» المستثناة والممتنعة عن أهلِ الشعرِ الآخرين. هل تعمّدتَ أن تؤسّسَ لحداثةٍ خاصةٍ بك، تظلُّ تستجليها عبر كاتدرائيّةِ هذه اللغة العنقوديّة الإدهاشيّة المكتنزةِ بمدالِيلها الخام والمبتكرة وذات النَفَس الملحميّ المفتوح؟ بترجمةٍ أخرى، هل أصررّت وتُصِرّ على أنك شاعرٌ وروائيٌّ بلا أسلافٍ؟ ** التأسيسُ كلمةٌ تُذعرني. إنها عودة إلى «النَّظْم» بقواعدِ النثرِ كعَقْدٍ واتّفاق في المخاطبة على أحكام النفع. لا شيء من هذا في «مَذْهبيَ» المارق. الشعرُ، في خاصيَّته، جسارةٌ منْ ذهولِ المعاني عن نفسِها؛ بلا آباء، بلا أسلاف إلاّ الغامض، الذي بزغ على خيال الإنسان الأوّل في رهبتِهِ من أعراضِ الكونِ، وخشوعِهِ للكونِ وتماهيه مع الكون. للنثر آباءٌ لبناء القواعد كلاماً، والقواعد نظاماً، والقواعد مقايَضاتٍ، والقواعد تبعيَّةً للنظام، والقواعد لبناء المدنِ في اجتماعِ المصالحِ للمدن. الشعرُ حَذَرٌ من القاعدة؛ حَذَرٌ من بناء مدينة بنظامِ أمنٍ، ونظامِ قضاءٍ، ونظامِ سجونٍ. آباءُ النثرِ ضروراتُ تشريعٍ، فلماذا آباءٌ للشعر؟ من نَسَبوا أبوّةً إلى الشعريّ، كأنّما وجدوه في أساسِ مُذْهِلهِ، يتيماً يُرعى كرعاية آباءِ النثر للنثرِ بخصائص المنافع. لا يحوج الشعرَ أبٌ. هكذا وجدْتُه، هكذا أنتسبُ إليه بأبوَّتي لي، لا بأبوّة أحد. حريةٌ لا تحُوجها أبوَّة. ربما الكثيرون لا يريدون الخروج من كهف النثر الأب، إلى حرية الشعرِ الخالقِ لمشيئات الآباء، فإن خرجوا برهةً، عادوا إلى الكهف. هذا من جهة اعتقادي في الشعر. أمّا الرواية، فلها حُكْم آخر يُسعِدُني إحضاره: كلّما حَدَّثكَ عربيٌّ عن جسارةِ ماضيه خيالاً، أعادك إلى «ألف ليلة وليلة»، وعن جسارة اللغويّ، أعادك إلى التوحيديّ والجاحظ والمعرّي وابن عربي وما استتّبع أو تابَعَ، بل أغرَقَك في بيانِ التصوّفِ وخزائنِ المعاني في مكنونِ التعبير والتَّدبير. فخرٌ - ككل فخرِ العربيّ – بما فاتَ حاضِرَه أن يُنْجد خيالَه ولسانَه. ذهبتُ إلى هناك، لا باستتباعٍ، بل بالإقامة في الأصل: الخيال واللغة. حوّلتُ كل رواية إلى معجم في تدوين الوجود على نهجِ الحريّة مبذولةً بلا حسابٍ من الخيالِ واللغة. نحن كتَّاب. نحن مدوّنو صناعة الوجود بالكلمات وبخيال الكلمات. لكن يُحزنني أنّ هذه البدهية البسيطة تُقصى وتُهمَل وتُحتقَر في الكثير من الرواية. لم أجد أكثر احتقاراً للخيالِ واللغةِ من العرب مُعادِلاً لفخرهِم بخيال «ألف ليلة» وأشعار آبائهم. ما كان صالحاً «هناك» في طبقة الفخر، لم يعد صالحاً «هنا» في طبقة الفَقْر. لم أتورّط في التشبّه بمذهبٍ للرواية. بنيتُ كلَّ ذرةٍ في كياني الأدبيّ قراءة للرواية منذ صغري، حتى أدركتُ أنها حريةٌ كالشعرِ، لا يحُوجها أبٌ أو مِثال. كل شيء ممكنٌ فيها. ما يتجاور وما لا يتجاور. ما يُقال نثراً أو نظماً، ما يكون حَكْياً مشافهةً أو بلاغةً في إنشاء المُلغِز المحيّر. آمنت بالروايةِ معجماً، وهو ما أصنعه. جُبنُ النقد * قرأتُ أكثر مِن مرةٍ إنًّ النقدَ الجدّي ابّتعد ويبتعدُ عن تجربتِك الإبداعية، مُمارساً، وعن عمْدٍ، نوعاً من الإقصاء والتجاهل. لماذا يا تُرى؟ ما تفسيرك كشاعرٍ فريدٍ ومفارقٍ طبّقت شهرته الآفاق؟ ** أنتهى (هل بدأ؟) نقدَا الروايةِ والشعرِ العربيّان، اللذان كان مطلعهما، في الأصل، على هرولة خلف البسيط المدرسيّ، المعلوم، كنهاية تلفيقِ التاريخِ لتجانُسِ مجتمعاتنا، وخيالِ مجتمعاتنا، وتآنسِ معتقداتِنا بمعتقداتِنا، واحتفاء قُدسِيّنا بخصائص القتل كالأنظمةِ القتلِ للمجتمعات. كان النقد العربي، في الشعر، مطمئناًّ إلى خُلاصاتٍ أُوْليَاتٍ من التعريف السهل، البسيط للشعرية؛ مُطمَئناًّ إلى تقاسيم «الأغراض» وتبويبها بقواعد النقلِ عن الأسلافِ إلى ترجماتٍ من أعمالِ مطالعِ القرن الماضي. ذاكرةُ النقد الشعريّ اللاحق قصيرةٌ، على مقاسِ تعاليم المدرسة بعْدُ، ويسلك بسهولةِ ما عرَفَهُ تلقيناً من المدرسة. خروجُ بعض النقادِ بمناهج في النظريّ لا يُحسنون تصريفها من النقد الغربيّ على نماذج الشعر العربيّ، أبقاهم في درجة حفظِ الدَّرس بلا أي إتقانٍ للحكمِ به على نصّ لا يتملَّق محفوظاتهم. كل «غريب» عليهم من الشعر يُهمَل، لأنّ مناهج العقلِ النقديّ اقتصرتْ لديهم على ما لا يحتاجُ إلى مغامرة في التحليلِ، أو مجازفةٍ باستحصالِ المُستطْرَف. جبنٌ نقديٌّ مفرطٌ في جبنه، إن تحيَّر قليلاً، سدَّ أذنيه، وإن بُوغِت بالمدهش، أغمَضَ عينيه: نقادٌ كالحياةِ العربية في يقينِ انهيارها: بعثٌ للمعلومِ الراحل؛ فخرٌ بمذابح الأنساب؛ إهانةٌ لمقدورِ العقلِ على ابْتكار آلِهته خارج الإرثِ الحاكمِ، تبسيطاً وتنْميطاً وضبْطاً بالمذاهب الآمنة للغة. التحليلُ اللغويّ انتهى منذ زمنٍ بعيدٍ في مسلكِ الذوقِ النقديّ المُبتذل، الفارغِ إلاّ من إنشاء مدحِ الرسومِ الدوارس. على أية حال، تسلَّم النقدُ الانطباعيّ في الصحافة مهنةَ النقدِ التحليليّ المتراجع، حتى حدود ما ينبغي أن يُحتقر عليه. والنقدُ الانطباعي هذا، المكلَّف بالتسويقِ الممكن عموماً، أو التملُّق للقرابات والصداقات، هو بين رهبة من نصٍ تحدٍ، ونصٍ غير مروَّض كالإنشاء المعروف في أشعار اليوم واضحةَ المقاصد، مبوّبةً. نعم، أُهملتُ. أعرف، بلا تواضع، ما الذي كانت ستثيره روايات لي مثل «الأختام والسديم» سبقت جنونَ ظهور «الدولة الإسلامية» بخمس عشرة سنة، لو كانت بلغةٍ أخرى غير العربية، ومثل «كهوف هايدرا هودا هوس»، و «حوافر مُهشّمة في هايدرا هودا هوس»، و «السماء شاغرة فوق أورشليم» بجزأيها، و «حورية الماء وبناتها». أعرف. أعرف. نعم أُهملتُ، لكن أنقذَني القراءُ من الإهمال النقديّ. أنقذَني الجسورون في امتحانِ ذائقتهم المتطلّبة. الوقوف في الشفق * في معظم قصائدك الطويلة، والتي استغرَقَ بعضُها كتباً بحالها، أحسّ كقارئ أنك تذهب إلى الأقصى والمُتعالي منذ المقاطع الأولى، هكذا محمولاً على طاقةٍ شعريةٍ متدفّقة لا تعرف السكونَ، بل هي أبداً تغذُّ السيرَ بهذا الحَرَاك المغامر، الجارف، الشامل، تتجدّد أحداثه وصوره وعناصره وكائناته وخوارطه بصورةٍ متواصلةٍ.. ماذا عن هذه «النشيدية» فيك؟ ** يُغوِيني أن أكتبَ القصيدَةَ حتى نفاد غرَضِها؛ أن أُبادلَ في زمنها المتَّسِع تاريخاً للكلمات بتاريخٍ للكلمات؛ أن أقايض المعاني بالمعاني؛ أن أقابل مرايا الخسران فيها بمرايا الفوز؛ أن أمتحنَ الضرورات والنوافل معاً؛ أن آخذها معي إلى حافّة كل شيء؛ أن أُرقّقها وأثخّنها؛ أن أمتحنَ نفْسي بها من شاهقِ إنشائها قصيدةً، وأمتحنها بي من ضراوة حنيني إلى لا معقول الشعر، وإلى لا موصوفه؛ أن أبلُغَ بها اللاعودةَ. لا بحث في قصيدتي عن منفذٍ للنجاةِ، أو حلّ لمعضلة. هي، أبداً، ذلك الوقوف في الشفق الذي يَعْرَق في تأمُّله الكونُ من ثقلِ غامِضِه. * كإنّي بك لا تستسيغ كتابة القصيدة القصيرة، أو القصيدة /‏‏ اللقطة، أو القصيدة /‏‏ الومضة، كما تُدوولت عربياًّ منذ عقود. أكثر من ذلك، بعضُ شعرائِنا، نظّر لما يُسمّى «قصيدة البياض»؛ وهي كما تعرف، نهجٌ شعريّ استلّهَمَ قصائدَ لـ»ستيفان مالارميه»، شاعر الرمزية الفرنسيّة الكبير، ووريثَه في مضمارِ الإفراط في تكثيفِ القصيدة: أندريه دو بوشيه، الشاعر الفرنسي الذي كان أوّل من بلّور مصطلح «قصيدة البياض».. بماذا تُعلّق؟ ** أحترمُ كل مذهبٍ في إنشاء القصيدة، أَعَلى اختزالٍ يستوفي كانَ، أم على سَعَةٍ تُستوفى. لكنّ طبعي طبعُ الإشراف من كل حافّةٍ على الهاوية بلا مُستقَرّ، أو إلى المدى مُنفلتاً من الحدودِ الجهات. يستهويني، ليس فقط تحديدُ ما أنا فيه من حالٍ هي حالُ برهةِ الشعر بزوغاً، بل رسمُ الطرقِ الى تلك الحال، ومجاري البواعث الأبعد سائرةً إلى مصبّها في تلك الحال. للقصيدة مرْكزٌ بمحيطٍ من حوله على بُعد فِتْر ،أو بمحيطٍ من أعمار نشآت الأشياء وقِدَم الصيرورات. أُحبّ السعةَ. أُحبّ اشتقاقاتِ الأصل، وفروعَ الفروع، ومُجاوِرَ المجاور، وفروقَ الفروق. كل قصيدة عندي سيرةٌ ينبغي أن تُستوفى بأمَّهاتٍ، وجدَّاتٍ، وأسلاف، وأقاليم، وجهات، وتواريخ لمنابت أديان المعاني، ومذاهب الكلمات؛ سيرةٌ بأفولٍ أو ببزوغٍ لا يُختزلان. القصيدةُ حرة في توريثِ السطور خزائنَ الممكنات كلها، وهي لا تنتهي إلاّ بعد أن تستنفذَ عدالةَ الحظوظ التي امتلكتْها حرّيتُها تُها، تتنازل للنهاية راضيةً. ما الذي يجيز لي حُكْماً على السعة أنها لن تثقل على الوتر فترخيه؟ أو أنها لن تشتّتَ، وتبدّد، وتُنْهِك؟ لا أعرف. تلك مهمة الذائقةِ ربما. لكنّني ألتزمُ أخلاقَ كلّ تفصيلٍ أنه ضرورة، وكلّ تنامٍ أنه مبلغُ ما يحفظُ الشجرَ ةَ أوفى خواصّاً في نوعها. كلّ شيء آخر فيها، هو سمادٌ حافظٌ من الكلمات، وهواءٌ مُخْصِب من علائق البيان، وترفيهٌ من لوازم التوليد. * قيل إنّ الشاعر الحقيقي هو من يُبادر إلى تصفية الشعر من كلاميّته.. أنت ماذا تقول؟ ** الشاعر الحقيقي هو من لا يخاف إلاَّ السهلَ المبذولَ؛ الجسورُ في وضع الكلمات وجهاً لوجه أمام يقينها أنها كلماتُ اقتدارٍ على عدلٍ أو عسْف، وأنه يثيرها بوعدِ خياله أنها لن تكون كلماتٍ محضاً بعد الآن، بل قيامةً للممكنات. نحنُ كتَّاب. نحن عُمَّال اللغة وصُنَّاعها، مهنّدسوها في التصاميم وبنَّاؤوها. كيف نجيز إهمال آلاتها الأقوى، مُكتَفينَ بالرَّحى والبغل في معصرة المعاني؟ الكلماتُ تنتظر تقليباً بمحراثِ الجسارةِ، بذْراً بالجسارِة، سماداً من الجسارةِ، كي تنبت ثانيةً كحياةٍ. فلماذا تسحلُها المقاصدُ عاديةً، وتضبطُها تقليداً، وتُلْزِمُها زيَّ المخاطبات الشفهيّة؟ أفهم ما آلت إليه مذاهبُ في التعبير على سردياتٍ نثْرٍ في الخصائص من نظام العاديّ محكيًّا. لا يهمني قط كيف ينحو الشاعر إلى انتداب خياله على المعاني. يهمني عدُلُه في انتدابه، ووعدُهُ بحريتها. سردياتٌ ستظلُّ مهاوي نضوبٍ، وسردياتٌ تعرف أين تضرب، بتخطيطٍ قويّ في المداخِلِ إلى نصر معاركها. تصفيةُ الشعر من «كلاميّته»، هي الاقتدار على تهيئة المخارج من مآزقِ سهوِ الشعريّ عن نفْسه، معتقداً أنه حلمُ النثر المُنجز نثراً. الفقد يخترع السحر * سليم بركات.. أنت شاعرٌ لا يُغادِرُهُ تاريخُهُ الرعويُّ المُوغلُ في الخصوصية الذاتيّة، وشفافيّة النَفْس المُتَّكئةِ على جذعٍ تاريخيٍ يمتحُ من سحرِ الأمكنة الريفية الكردية وفراديسها المدهشة في الشمال الشرقي لسوريا. ما تفسيرك لأرضيّةِ هذا الوجود الحسّي الباذخ والمستنّفر على الدوام فيك. لكأنه ذوب روحك وحواسّك و»أركاديا» قصيدتك وفسيفسائها المتجدّدة: بشراً، حيواناً، طيراً، حجراً، جبلاً، حصاداً، غماماً إلخ... ماذا تقول؟ ** ما من مدهشٍ هناك. الأمكنة المدهشة هي هنا، في إعادة صوغها أمكنةً كالزيت في معصرة الكلمات. الحنينُ يخترعُ المكانَ مُدهشاً. الحبُّ يخترعُ الأشخاصَ مدهشين، الفقْدُ يخترع سحرَ الغائبِ مُدهشاً في لوعته. فقدتُ المكان. مذ خرجتُ من الشمال، عرفت أنني لن أعود إليه، كي أُبقيه معي كما اختزنتْه عيناي، واختزنَه قلبي. متقلبةٌ طباعُ الأمكنة، متجوّلة على الأحوال، رحَّالةً في نقائضها. أمينةً أحياناً، مُخادعةً أحياناً، وفيَّة أحياناً، غادرة أحياناً. ما يحفظ ولاءَها للخيال، هو القدْرُ الذي التقط الخيالُ من زمنها معافىً باختفائها. أأنا أنْسُبُ إلى الأمكنةِ ما هي عليه بتجريدٍ كالرسمِ التجريد؟. نعم، هي ما اقتدرتِ الفرشاةُ على رسمها بضربةٍ لامنتظمةِ الشكلِ في التشكيل؛ بضربةِ فوضىً على حِذْقٍ كبير من المران على المعاني التائهة. الرسمُ التجريد معنىً تائهٌ يعثُرُ عليه القيّافون في الرموز التائهة. الأمكنةُ تجريدٌ بكلِ حقائقها من نُظُمٍ، ومواثيق اجتماعٍ، وفسادٍ، وقهرٍ، وتشريعٍ للقهرِ، وحروبٍ من استيفاء الخلل في بناء الدولِ المصادفاتِ لشروط خرابها، أو انتحارها. كلّها تجريدٌ مؤلمٌ في حنوّ ألوانِهِ أو قسوتها. حنونةٌ مذ نقيم فيها بزمنٍ يخصُّ «الانتقائية» في مزاج الوجود، وقاسيةٌ بالزمن «الواقعي» فيها معضلةَ وجودٍ . أنا لم أغادر الأمكنة التي هناك، لأنها ما صَنْعتُها أمكنةً، هي جسدي ذاته. وغادرتُها، أيضاً، باللعب اللغوي على المفارقات، لأنها أمكنة لغوية: نثر ، أو شعر. أجرِّدها من براعات البيان أحياناً، أو انتدب عليها مباهجَ البيان. أعلّقها، وأعطّلها بعطالةِ الحزنِ في أنها لم تكن أمكنة تليق بقلبٍ عادل. أشرتَ إلى «الحسيّ». أنت مُصيبٌ في الحكمِ على إشارات الوجدان. حبّذا لو تمَعَنَّتَ في المراتب الأخريات من الحقائق القاسية متجاورةً في «صُلحٍ» ظاهرٍ، عنيفٍ في باطنه، على الحافّة من إسقاط كلّ شيء في هاوية كلّ شيء، لوجدتَ «الدينيَّ» في سطورٍ متجاورةٍ مع امتحانها «كحقائقَ» فيّ. لا تصريفَ للثواب والعقاب، والخلْق والأقدار ، في سُوْقِ ما أكتبه. إنها هناك، لكنّها جراحٌ من علائق الإنسان بنفسه، ووجوده، وبالآخر، وبنقده لسطوة الغيبيّ، وإدارة الغيبيّ لـ»واقعيّة» السلوكِ الإنساني. بتواضع: ستعيشُ الأمكنةُ طويلاً في كتبي التي ستعيشُ طويلاً، لأنّها كتبٌ ذاتيةٌ جدّاً، حسيَّة كالرغبة في ما لا نهاية له. هكذا أكتب. لا يعنيني الحلم برفاهةِ الذيوع، والسؤدد الآنيّ في الموضوعات «الجذّابة» أو المثيرة، أو الاستعراضية، التي «تربح»، في أحيان كثيرة، تعويضاً يسيلُ له اللعاب. مع أنني أتشوَّقُ الإطراءَ بلا ادّعاء التعالي، ويُفرحني، قطعاً، أن يُقال: أحسنْتَ، ويُريح دافعي، الذي لا تنازلَ فيه، أن أحظى بومضةٍ صغيرةٍ من الشهرةِ في غابةِ المشهورين. أنا إنسان. الوحشية تتقدم * كشاعرٍ، هل تحرص على أن تضع تجربتك دوماً في سؤال التأصيل الشعريّ الأنسب لاختباراتِ الحداثة الشعرية، وربما شعرية «ما بعد الحداثة»، حيث الشّاعرُ في «الما بَعْديّة» هُناـ يَعمَلُ بِلا نظامٍ، ولا قواعدَ يَرسو علَيها، وأنَّ شكلَ الكتابةِ يَبني عمارَتَه، أو يكشفَ عنها في أثناءِ العمل، وليس بعدَه؟ ** لا أعرفُ الحداثةَ. لم أَفهمْها. هذا الكونُ المجتمِعُ صغيراً في أزرارِ آلاتِ الإشرافِ على سياقِ العالمِ مرئيّاًّ، مكتوباً، مسموعاً على قدْرٍ هائلٍ بِلا أسرارٍ؛ بِلا ترقُّبٍ للاحتمالات؛ بِلا إثارة إلّا ذلك التبادل من مقايضاتِ الإهانةِ. لنْ أرجعَ إلى بعضِ التحليلِ للمصطلحاتِ اتَّفق قذفُها إلى خيالِنا عن الحداثةِ من غير أن تعني شيئاً. لذا أبالغُ، بحسنِ ظنّ، في عدم فهمي لها، لأنّها، حين أنظرُ إلى أمكنتِنا، ومجتمعاتِها، لا أرى إلاَّ الحقدَ على كلّ شيءٍ لا يكونُ صوْغَ ماضيه، منجزاً، منتهياً، نفاية من نفاياتِ الحياةِ موزَّعةً على تلالِ المستقبلِ القُمامة. يقينُ المعتقداتِ الأديان، والمعتقدات الإنذار بالعصبيّة للعرقِ، والمذهبِ، والمعتقداتِ من كراهيةِ الجهاتِ للجهاتِ، والمهاجرِ للمهاجرِ، والمقيمِ للمهاجرِ، والمهاجرِ للمقيمِ، وطعنُ الثقافات للثقافات. الوحشية تتقدَّم بثقة، لأنّ كلّ ما عداها، بُنيَ على نظريٍّ ركيكٍ اصطُلحَ على تسميتِه «إنجازاتٍ قومية»، وفخراً بالمآثر. لا إنتاجَ. ما الحداثةُ المُمكِنةُ في ظلّ اللّاإنتاجِ على كلِّ صعيدٍ؟ كلُّ لا إنتاجٍ عطالةٌ ينتهي إلى مظهرٍ أجوَف في نُقْلةِ «الثقافيّ»، فاحشٍ في مذاهب السهل المُبَشّر بجاذبيّةِ السّهولةِ، وحِكمةِ السهولة؛ المُبَشّر بالدّينِ المتسامحِ في ذبْح «الأدبيّ» من وريدِ القواعد حتّى وريدِ البيانِ. ها هو «الأدبيُّ» يستقرُّ جزءاً من مبادلاتِ الثرثرةِ على صفحات الإنترنت وقد استحالت شرعَ الكتابةِ وقانونَها: سيعودُ الأدبيّ شفاهياً كأصلِه في تواترِ الأشعارِ على ألسنةِ الرواةِ، وتواترِ الأقاصيصِ على ألسنةِ الحكّائينَ. سيجلسُ كلُّ»متأدّبٍ» أمامَ شاشةِ آلتِه يُخاطبُ الآخرَ المرئيَّ فيها بالنّصوصِ التي لا حاجةَ بِه إلى كتابتِها. هذا بعضُ الغضبِ، في الأرجح، باستطرادٍ لا أحسبُه قويّاً، إلاّ إنْ قاطعتُ نفْسي، بالإحالةِ إلى سؤالِك: «الما بَعْديّة». كيفَ ينجوَ الحالمُ الحقيقيُّ بأدبٍ لا سطوةَ لـ»عطالةِ» المصطلحِ الممزَّقِ عربيّاً، أعني مصطلحَ الحداثةِ، الغامضَ كهاتفٍ رفيع الطِّرازِ، قويّ التقنيّةِ في يدِ الخليفةِ البغداديّ؟ عصران متناحران، حتّى الإلغاء، لكنّهما «متصالحان» على نحوٍ غامضٍ. ربما أنا على سياقٍ من هذا: الوقتُ يمضي بالسّهولةِ الأدبيّةِ إلى سيطرةٍ كدينٍ وأنا أعاندُ التبشيرَ بأنبياءِ الرّكاكةِ. أنا لا أبني، بل أوطّدُ إمضاءَ عقودٍ لا تُنْقَضُ من أعاصير المعاني على حدائقَ العاديّ، أنا وفيُّ للقَلَقِ. سوريا * لنتحدّثَ عن قصيدتِك الملحميّةِ الطويلةِ «سوريا»، والتي جاءت في كتابٍ واحدٍ تَرثي فيه سوريا وجائحاتِ الحروبِ المتوالية فيها. كيف حدثَ أن خُضّتَ شعريّاً في هذه الوقائع الدمويّةِ والتاريخيّةِ الزلزاليّة، قبل أن يضعَ صانعوها حدّاً لنهاياتِها، انطلاقاً من أنَّ الكتابةَ على حربٍ ليست كالحروبِ الأخرى، كما يقال، تجيءُ أكملَ، وربما أعمقَ، بعد أن تنتهي لعبةُ هذه الحربِ، مهما طَالَتْ واستفحَلَتْ واهتَصَرَتْ واعتَصَرَت فيكَ؟ ** يُستَحسَنُ، لإنجازِ نصٍّ روائيٍّ، أن يستنفدَ الموضوعُ «المرحليّ» سيرة معطياتِه. القصيدةُ قد تستثني نفسَها باختطافِ برهةٍ لتخطيطِ وجدانٍ للكلماتِ، وإبرامِ اتّفاقٍ مع المعانيَ. أمّا حينَ تُلقي القصيدةُ بثقلٍ من اتّساع بنائِها على «موضوع»، فالأوفى أن يكونَ الموضوعُ مستوفىً كحالِ إحاطةِ الروايةِ بأغراضِ بناءِ موضوعِها اتّساعاً. فما الذي رأيتُه من الحالِ السّورية لأبنيَ نصّاً على توسُّل الإحاطة بتعقيداتها «غير المنجَزَة» بعدُ، وبخاصّةٍ إنْ مضَتْ تلكَ الإحاطةُ إلى طموحٍ «ملحميّ» يقتضي تجوالاً بالزمن سَحْلاً على «الزمن السوري»؟ على أيّة حال، انتظرتُ كانتظارِ كلّ سوريّ، طويلاً، ليسَ في امتدادِ الزّمن فحسب، بل في فداحةِ هاويتِه المُختزِلةِ قروناً من المفارقاتِ في حدائق الجحيم. انتظرتُ زمناً من اهتراءِ اللحوم على أجسادِنا، واهتراءِ الأنقاضِ على الجثث. لم تأتِ نهايةٌ ما بالمعنى الخاصّ بالنهايات، كنتائجَ يُمكنُ تقويمها. لكنّني أقولها بلسانٍ عُريان: سوريا انتهتْ. وأنا كتبتُ قصيدتي بالخواتيم المُختزلةِ في هذا الحُكْمِ القاتل. الكلُّ يعرفُ أنّ سوريا انتهت. لو توقَّفت الحربُ عند الحدود التي هي عليها، فقد انتهتْ سوريا. لو استعادَها الروسيُّ كاملةً من خصومِ الحاكم، سوريا انتهتْ. في أصلِ نشوئها بسنواتٍ قليلةٍ بعد استقلالٍ ركيكٍ، كانتْ دولةَ عائلةٍ؛ مؤسّساتِ عائلةٍ؛ اقتصادَ عائلةٍ؛ ثقافةَ عائلةٍ؛ ثقافةَ ربط الدولةِ بشرايين الحاكم، إنْ انسدَّت شرايينُه، اختنقَتْ الدولةُ. ظننَّا في الثورةِ المغدورةِ، أنَّ الجغرافيا السوريّة قد تُضيّق على هذا القَدْرِ أو ذاك، النهبَ العائليَّ المذهبيَّ. حروبُ المذاهبِ، وحروبُ الخَوَنةِ، وحروبُ الحلفاءِ الكَذَبة، والصادقين، أنهتْ ما كان مجرّدَ احتمالٍ لنشوءِ الدولة، ولو على مقاسٍ ركيكٍ (بلا أوهام)، بنظامٍ من تداولِ السّلطة. اكتمل القمرُ الدمويُّ في سماء الجغرافيا. انتهت – ليس اللّادولة التي كانتْ – بل علاقة الجماعاتِ»المتُهادِنة» منذ الاستقلالِ الركيك، القائم على تحاصُصٍ في»الأسماء الوطنية»: جبلٌ باسم طائفة. سهلٌ باسم طائفة. قومياتٌ نزيف. لم نعرفْ إلاّ «الكيان» القائمَ على عَسْفٍ، وجبروتٍ في القهر، بمواثيقَ لا معنى لها: كرديٌّ يُنشِدُ نشيدَ البعث العرقيّ قوميّةً. يهوديٌّ مُجبرٌ على درسٍ إسلاميّ. مسيحيٌّ يقرأ، كطالبٍ، تاريخَ نشأةِ دينٍ «أذلَّ» دينَه بتنحيتِه من هِدايةِ المعتقدِ. نشأ الكيانُ المذهلُ مجموعاً من جغرافيا الكراهيةِ للجغرافيا، ومن كراهيةِ العِرقِ للعِرقِ، ومن كراهيةِ المذهبِ للمذهبِ، ومن كراهيةِ الجهاتِ للجهات. الفسيفساءُ التي كانت مُلتحِمةً بصمغِ الحريقِ تفتَّتت، من أوّل سطلٍ للمياه اندلقت فوقَها، رماداً سائلاً كان وحدَه «تجانس» ما سُمّيتْ دولة سوريا. انتهت سوريا. حُكمي الشعريّ لا تحوجه إطالةٌ في تقدير النتائج؛ كانت دولةً من ثمارِ العَسْفِ في إنشاءِ الدّول، والمصادفةِ في إنشاءِ الدّول، والتلفيقِ بقصاصاتٍ من المعاهداتِ في إنشاءِ الدّول. لا تَجانُسَ في الخيالِ، لا تَجانُسَ في الحُلمِ، لا تَجانُسَ في الرّغبةِ في أكْلِ صحْنٍ من الفولِ. هذه ثاني مرّة أكتبُ في موضوعٍ من شروطِ التوسّع فيه أن يكونَ الموضوعُ «منجَزاً»؛ تاريخاً تمّ تحصيلُ وقائعه، وباتَ رهْنَ الفحصِ، والمحْصِ، والتحليلِ، على نسَقِ المسائل البرهانيّةِ في وضْعِ مقدّماتٍ ونتائج. كانَتْ المرّةُ الأولى عن الحربِ الأهليّةِ اللبنانية، التي «اختزلتُها» كاملةً في روايةِ «أرواح هندسيّة» من مائتَي صفحةٍ، لا غير. ذلك مستحيلٌ في المنطقِ. تلزمُ للإحاطةِ بتلكَ الحربِ مجلّداتٌ، أينَ منها تولستوي!!. وضعتُ نفسي في تحدٍّ، في مغامرةٍ، في مقامرةٍ، وكان المَخْرجُ تجريدَ الحربِ كلِّها في شخصٍ اسمه «أ. دهر» (باستعارة الحرف الأوّل من نشوء الحروف، مُلحقاً بالزمن)، وعمارة اسمها «أبو كير» (أي النفخ في النار ، كما يفعل الحدّاد). كتبتُ حرباً أهليّةً تجريداً، تصلح بتعميمِها على كلّ حربٍ أهليّةٍ حدثَتْ، أو ستَحدُثُ. قصيدتي «سوريا» المطوّلة هي، بدورِها،إحاطةٌ بخرائطِ الجغرافيا، والوجدانِ، بعد إعادةِ رسمِها كالحديثِ عمّا بعد سايكس – بيكو. اكتمل موضوع قصيدتي. لا رثاءَ فيها إلاّ رثاء الأخلاق. هي ملحميّةٌ بالقَدْرِ الذي أعدتُ الحُكمَ على أزمنةِ وجودِ سوريا دولةً ركيكةً هدَمتْنا بركاكتِها القاتلةِ، السّهلةِ، تُباعَ فيها وتُشرى، لقاءَ كرسيِّ الحاكمِ. هي قصيدةٌ على سِعَةٍ من الزمن – ذلك يعطيها حقَّ الملحميّة، بالتفاصيل، من انتحارِ الشجر حزناً، وانتحار الترابِ. صمت مؤدَّب كنتُ أعددتُ لحوماً للشواء ظهراً في الحديقة، متبَّلةً منذ مساء البارحة. لا أتوقّف عن الشواءِ في أيِّ فصلٍ كان. أنا مُدمنُ شواء. لكنَّ المطرَ لم ينقطع منذ الصباح. لم يهادن. ظنَنْتُ أنّني سأختلسُ ساعةً من وقتِ الوقت. سأتجاهلُ المطرَ غداً إن تساقطَ، حتّى لو أحرقتُ الغابةَ. لا بأس. سأبقى جالساً على منضدةِ المطبخِ كعادتي معظمَ النهار. الحياةُ رقيقةٌ رقّةَ ورقةِ الكزبرة وراءَ نافذةِ المطبخ. الحياةُ تنحسرُ، ويبقى مشهدُ الحديقةِ التي زارَها ثعلبٌ مرّة. النافذةُ تعترفُ بحقِّ الحديقةِ عليها، والحديقةُ تعترفُ بحقّ النافذةِ عليها. فتاتُ خبزٍ على العشب أرضاً، تحت الرذاذ. شحروران يتشاجران. صمتٌ - أسرابٌ من مخلوقاتِ الصمتِ، وكائناتِه، حول بيتِنا الجبليّ في غابةِ»سكوغوس». صمتٌ مؤدَّبٌ لا «تتهارشُ» كائناتُه ولا تتشاجر. درويش.. أبكاني * ربّما لأنك شاعرٌ بلا أسلاف، «استرهبك» محمود درويش قائلاً في ندوة جمعتكما في السويد: «بذلتُ جهداً كي لا أتأثر بسليم بركات».. فبقدر ما كان محمود في هذا الكلام صديقاً معجباً محبّاً لك، كان أيضاً شاعراً شُجاعاً ومُعترفاً بإبداعيّتك المتجاوزة.. ماذا تقول؟ ** لم يسترهبِنْي محمود، الذي فقدتُهُ بما تحملُ كلُّ لوعةٍ من أثقال الفَقْد. ما قالَهُ كلامٌ لا يقوله إلاّ قويٌّ واثقٌ. لكنه فاجَأني.. فاجأتني لا حدودُ الجسارةِ النبيلةِ فيه. إنّها ليست معهودة في «أكابر» أيّامِنا. أبكاني هذا الشاعرُ الحقبةُ، صديقي الذي لم أجد صديقاً بعدَه. كان من حولي كالهواء بعروضِهِ على رئتيَّ. أفتقدُهُ حقيقياً كما ينبغي أن يكونَ الحقيقي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©