الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وداعاً لـ المسألة الألمانية

3 مايو 2009 03:47
لا تتذكر ''هانا جليس'' الشيء الكثير عن سقوط جدار برلين اللَّهم إلا تلك القطع التي حافظ عليها والداها في البيت كجزء من ذكريات ماضٍ بعيد، لكنها تتذكر بقوة أن النهاية المفاجئة للحرب الباردة قبل عقدين من الزمن هي التي أتاحت لها، ومعها جيل كامل من الألمان الشرقيين والغربيين، قضاء فترة دراسية ممتعة في باريس ما كانوا ليحلموا بها من قبل• فقد التقيت ''هانا'' قبل يومين عندما وجه لي فريقها المشترك من الطلبة الألمان والفرنسيين دعوة لحضور منتدى حول سقوط جدار برلين بمعهد الدراسات السياسية في باريس، والحقيقة أن أجواء الصداقة والانسجام التي خيمت على الملتقى وطبعت العلاقات بين الطلبة الذين لم يشهدوا انقسامات أوروبا خلال الحرب الباردة، ولا العداوة الطويلة بين ألمانيا وفرنسا التي امتدت لعقود بل قرون عديدة تدل بوضوح على مدى التغير الكبير في الساحة الأوروبية بعد سقوط الشيوعية• فالتغير السياسي الذي أتت به نهاية الحرب الباردة كان واضحاً منذ البداية عندما أبدى المعارضون في ألمانيا الشرقية شجاعة منقطعة النظير دفعتهم إلى الزحف على مدينة ليبزيج في التاسع من أكتوبر عام 1989 في بلاد لم تكن معروفة بالتسامح مع التحركات المدنية لتتوالى بعد ذلك مجموعة من الأحداث في ألمانيا الشرقية هي التي سرعت من سقوط الجدار• وبالطبع لم يقتصر الأمر على ألمانيا بل امتد إلى دول وعواصم أوروبية أخرى اندلعت فيها المظاهرات الشعبية وأرغمت الأنظمة القائمة على التنحي مثلما حصل في براغ وصوفيا وبوخارست، ولأول مرة في التاريخ تنهار إمبراطورية بكاملها دون إراقة قطرة دم واحدة، باستثناء رومانيا• وباختفاء الإمبراطورية السوفييتية استأنفت بولندا وهنجاريا وباقي بلدان أوروبا الوسطى توجهها التقليدي نحو الغرب ليُتوج ذلك بانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وارتفاع مستوى معيشة السكان فيها بعدما أصبح باستطاعة السباكين البولنديين مثلا العمل في باريس ولندن، وبعدما بات طلبة أوروبا الوسطى قادرين على تأمين منح دراسية في جامعات كأكسفورد والسوربون• لكن بالإضافة إلى التغيرات السياسية والاجتماعية التي كانت متوقعة عقب انهيار جدار برلين ظهرت تغيرات أخرى أكثر عمقاً كان أهمها التغيير الكبير الذي طرأ على العقلية الألمانية وتطورها على امتداد نصف قرن بعد هزيمة هلتر، فضلا عن تبدل آخر تمثل في حل الإشكال المستعصي الممتد على مدى قرنين من الزمن والذي يطلق عليه اسم ''المسألة الألمانية'' من خلال بحث سبل إدماج ألمانيا داخل فضاء أوروبي مستقر دون التسبب في حروب أخرى، وقد كان لافتاً عودة هذا الإشكال مجدداً إلى الساحة مؤخراً بعد افتخار ألمانيا الموحدة بسكانها البالغ عددهم 80 مليون نسمة، وهو عدد أكثر بالثلث تقريباً من سكان فرنسا وبريطانيا• وقد بدأت تتبلور تلك التغييرات في العقلية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية بتخلي الألمان عن أسلوبهم الصارم في ممارسة السلطة والخضوع التام لها بعدما تعلم المواطنون العاديون في ألمانيا الغربية تحدي التراتبيات القديمة والتمرد عليها، فكان أن ظهر الحزب الأخضر المكون أساساً من ربات البيوت والأمهات وغيرهن من الذين دخلوا البرلمان وجعلوا من إنقاذ البيئة انشغالهم الأول• وقد تعلمت الحكومات الألمانية المتعاقبة التي عانت من انعدام الثقة التي تركها هتلر التعاون مع نظرائها الأوروبيين للوصول إلى مواقف مشتركة وحشد التأييد لمبادراتها في مجال السياسة الخارجية إلى درجة أنهم كانوا يُرجعون الفضل في سياسات كثيرة كانت من اقتراحهم إلى نظرائهم الأوروبيين• وبمرور الوقت تحول هذا الأسلوب التوافقي في اتخاذ القرارات إلى نهج معتد لدى المجموعة الأوروبية، بحيث لم يكن هناك لاعب قوي ينفرد باتخاذ القرار على الساحة الأوروبية مثلما كان الدور الأميركي في حلف شمال الأطلسي• وبالنسبة للمجموعة الأوروبية التي أصبحت الآن الاتحاد الأوروبي كانت تلك الطريقة الجماعية في اتخاذ القرار حاسمة في الحفاظ على اللحمة الأوروبية ودفع مسيرتها لتصبح أقل من بناء فيدرالي لكن أكثر من مجرد كونفدرالية شكلية• وبدون مشروع الثمانينيات الرامي إلى تعميق عمل المجموعة من خلال إقامة سوق مشتركة بحلول عام 1992 ما كان للاتحاد الأوروبي أن ينجح في إدماج ألمانيا داخل الفضاء الأوروبي العام ووضع حد للمسألة الألمانية باستعادة أوروبا لثقتها في المسؤولية الألمانية وفي تمثيل أصوات الدول الصغرى في هياكل الاتحاد الأوروبي بشكل ملموس• إليزابيث بوند مؤلفة كتاب ما بعد الجدار ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©