السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أما زالوا يلعبون كرة الطائرة؟

أما زالوا يلعبون كرة الطائرة؟
20 ابريل 2016 03:23
ترجمة وتقديم مازن معروف لا تلاقي أعمال غاو كسينغجيان (1940) تقديراً في الصين يليق بسمعته كحامل لجائزة نوبل للآداب (2000). وفي شنغهاي مثلاً، ستجد قراء يبتسمون بشيء من الخبث والسخرية حين يحاول المرء التكلم عن روايته الأشهر «جبل الروح». هؤلاء لا يرون في براعته اللغوية، أو أسلوبه المنفتح في السرد، ما يؤهله لان يندرج ضمن قائمة الكتّاب الأكثر تأثيراً في الأدب الصيني المعاصر. باختصار، هو اليوم أقل الكتاب المحتفى بهم في وطنه الأم. في مقابل ذلك، فإنه الكاتب الآسيوي المدلل لدى الفرنسيين، وذلك منذ أن اختار باريس لتصبح منفاه الاختياري. أعماله تلقى رواجاً ملحوظاً في أوروبا والولايات المتحدة، تتقدمها روايته الأشهر «جبل الروح» التي كتبها بعد أن شخّص طبيب مرضه في أحد الأيام على أنه إصابة بسرطان الرئة، وقال له إن أمامه أشهراً قليلة ليعيش. هذا قبل أن يكتشف بأن التشخيص لم يكن صائباً، رغم أن الطبيب نفسه كان قد شخص حالة والد غاو كسينغجيان بسرطان رئة وكان الأمر صحيحاً وتوفي الوالد بعد أشهر قليلة بالضبط كما توقع الطبيب. كسينغجيان هو أيضاً فنان تشكيلي ومخرج. وله كتابات مسرحية ودراسات نقدية والعديد من الترجمات. أما القصة القصيرة «تشنج» فهي مأخوذة من مجموعته القصصية «أن ابتاع قصبة صيد سمك لجدي». تشنج تشنُّج. معدته تبدأ في التشنّج. ظن طبعاً أن في وسعه السباحة أبعد من ذلك. غير أن معدته وعلى بعد كيلومتر واحد من الشاطئ تبدأ بالتشنج. في البداية يعتقد بأنه مغص، وسيزول لو تابع السباحة. لكن ومع استمرار معدته في الانقباض، يكف عن السباحة ويتحسس بطنه بيده. الجانب الأيمن مشتدّ، ويعرف بأن الأمر تشنُج في المعدة سببه المياه الباردة. لم يقم بإحماء كاف قبل أن ينزل إلى الماء. بعد العشاء، غادر بمفرده النزل الأبيض الصغير وأتى إلى الشاطئ. كان ذلك في بداية الخريف، عند الغسق، وكانت رياح ولم يكن هناك سوى بضعة أشخاص في الماء. الجميع إما يثرثر أو يلعب البوكر. خلال منتصف النهار كان الرجال والنساء ممددين في كل مكان على الشاطئ. أما الآن فليس هناك سوى خمسة أو ستة أشخاص يلعبون الكرة الطائرة، وامرأة بثوب سباحة أحمر. وأبدانهم كانت جميعها تنقّط – إذ إنهم قد خرجوا للتو من الماء. الأرجح أن المياه بدت باردة جداً بالنسبة لهم في يوم خريفي كهذا. وعلى امتداد الساحل، لم يكن هناك غيره في البحر. كان قد انطلق مباشرة في البحر دون أن ينظر خلفه، معتقداً أن المرأة تراقبه. أما الآن فلا يمكنه رؤية أيّ منهم. ينظر إلى الخلف، باتجاه الشمس التي في طور المغيب. قريباً ستغرب خلف التلة، حيث الجناح المطل على الشاطئ لمستشفى التأهيل. أما أشعة الشمس الصفراء البراقة والمتلكئة فتؤلم عينيه. لكنه يستطيع رؤية الجناح المطل على الشاطئ على قمة التلة والمعالم الخافتة لرؤوس الأشجار فوق طريق الساحل. أما مستشفى التأهيل الذي على شكل قارب يستطيع رؤيته من الطابق الأول وصعوداً، وكل ما دون ذلك لا يستطيع أن يراه، بسبب مد البحر وأشعة الشمس المباشرة. أما زالوا يلعبون الكرة الطائرة؟ يخبط الماء. أمواج بقمم بيضاء في البحر الأخضر المِداد. أمواج مدّ تحيط به لكن لا قوارب صيد في الأرجاء. يستدير بجسده، فتحمله الأمواج. وبعيداً إلى الأمام، ثمة بقعة معتمة تطفو في الجزء الرمادي الداكن من البحر. يسقط بين الأمواج فلا يعود بمقدوره رؤية سطح البحر. البحر المنحدر قاتم ويلمع، يفوق الساتان نعومة. والتشنج في معدته يزداد سوءاً. مستلقياً على ظهره وعائماً على الماء، يدلّك المنطقة القاسية من بطنه إلى أن تخف وتيرة الألم. وقطرياً إلى الأمام، فوق رأسه، تتراءى له غيمة ريشيّة، لا بد أن الريح في تلك الناحية أشد بأساً. مع صعود الأمواج وهبوطها، يُحمَلُ ثم يُنزَل بين موجة وأخرى. لكن لا جدوى من أن يطفو هكذا وحسب. عليه أن يسبح بسرعة نحو الشاطئ. مستديراً، يبذل قصارى جهده ليضغط ساقيه إلى بعضهما، وبذلك، يتصدى للريح والأمواج ويحسن سرعته. لكن معدته التي كسبت قليلاً من الراحة تؤلمه مجدداً. الألم هذه المرة يأتي أسرع. يشعر أن ساقه اليمنى تيبست، وتعبر المياه فوق رأسه. يرى فقط مياهاً حبريّة خضراء، صافية، وفوق ذلك، ساكنة عدا خيط الفقاعات المتسارع الذي يزفره. يبرز رأسه من المياه ويغمض عينيه محاولاً نفض المياه عن رموشه. مازال عاجزاً عن رؤية خط الساحل. الشمس غابت. والسماء فوق التلال الرقراقة تتلألأ بألوان الورود. أما زالوا يلعبون الكرة الطائرة؟ تلك المرأة، الأمر برمته سببه لباس البحر الأحمر الذي ترتديه. وهو يغرق من جديد، مستسلماً للألم. يخبّط سريعاً بذراعيه، لكن وبتنشقه الهواء، يبتلع جرعة من المياه، مياه البحر المالحة، وعندما يسعل يشعر كأن إبرة أقحمت في معدته. عليه أن يستدير مجدداً، أن يستلقي على ظهره وذراعاه وساقاه في تباعد. بهذه الطريقة يمكنه أن يستريح وأن يسكّن الألم بعض الشيء. السماء غدت رمادية. أما زالوا يلعبون الكرة الطائرة؟ هؤلاء ذو أهمية الآن بالنسبة له. هل لاحظتْه المرأة بلباس البحر الأحمر يدخل الماء، وهل سينظرون إلى البحر؟ تلك البقعة المعتمة خلفه في البحر الداكن الرمادي.. أيكون قارباً صغيراً؟ أو أنه طوف أفلت من مرساه، وهل ثمة من يكترث بما حل به؟ عند هذه النقطة، لا يسعه سوى الاعتماد على نفسه. حتى وإن صرخ، فلن يكون هناك سوى صوت أمواج المد، ذلك الصوت الرتيب الذي لا يهدأ. لم يكن الإصغاء لصوت الأمواج بمثل هذه الوحدة من قبل. يتحرك بموازاة الموج غير أنه فوراً يثبِّت نفسه. بعد ذلك، تيار شديد البرودة يقبض عليه بإحكام ويحمله واهناً معه. يستدير على جنبه، ذراعه اليسرى تخبط، فيما يده اليمنى ضاغطة على بطنه، وقدماه تركلان، ويقوم بالتدليك. الألم لا يزال قائماً، لكنه بات الآن من الممكن تحمله. يعرف الآن أن عليه الاعتماد فقط على قوة ركل ساقيه كي يشق طريقه خروجاً من التيار البارد. سواء أمكنه أم لا، فإن عليه تحمله. إنها الطريقة الوحيدة ليخلص نفسه. لا تأخذ الأمر على محمل الجد. جدياً أم لا، فإن ثمة تشنج في معدته وهو بعيد بكيلومتر واحد عن الشاطئ، في المياه العميقة. ليس متأكداً ما إذا كان كيلومتراً بالضبط، لكن يحدس بأنه كان يعوم على خط مواز للشاطئ. قوة ركله بالكاد تتناسب وقوة التيار الدافعة. عليه أن يكافح للخروج من التيار، وإلا لن يستغرق الأمر الكثير من الوقت قبل أن يغدو كتلك البقعة السوداء الطافية على الموج والمتلاشية في البحر الرمادي الأسود. سيتحمل الألم، سيسترخي، سيركل بأقصى ما يستطيع، لن يتوانى عن ذلك والأهم أنه لن يهلع. بدقة كبيرة، عليه أن ينظم ركلاته، تنفسه، وتدليكه لمعدته. لن يتشوش بأية أفكار، ولن يسمح للخوف بأن يداهم تفكيره. الشمس غابت بسرعة شديدة، ولون رمادي سديمي منسحب فوق البحر، لكنه لا يرى أية أضواء على الشاطئ الآن. حتى خط الساحل لا يراه بوضوح، ولا انحناءات التلال. قدماه ركلتا شيئاً ما. يهلع، ويشعر بمغص في معدته – حاد وموجع. يحرك ساقيه بلطف، هناك دوائر لسع على كاحليه. لقد عبر بمجسات قنديل بحر، ويشاهد كائناً أبيض - رمادي، كمظلة مفتوحة بشفاه غشائية عائمة. بإمكانه وبسهولة الإمساك به واجتثاث فمه ومجساته. خلال الأيام الماضية تعلم من الأطفال الذين يعيشون على الشاطئ كيف يمسك بقنديل بحر ويبقي عليه. وتحت حافة نافذته في غرفة النزل، تقبع سبعة قناديل بحر مملحة وقد اجتُثت أفواهها ومجساتها. ما إن تعصر المياه خارج الجسم، حتى لا يبقى سوى صفائح من جلد ذاو، جثة. هو أيضاً سيصبح محض قطعة من الجلد، ليس بمقدورها العوم إلى الشاطئ. فليدع المخلوق وشأنه. لكنه يريد أن يعيش ولن يمسك بقنديل بحر أبداً، إذا ما تمكن من بلوغ الشاطئ، فلن ينزل البحر مرة أخرى. يركل بقوة، ويده اليمنى تضغط على معدته. لا يفكر بشيء إطلاقاً، إلا أن يركل بإيقاع، بنسق واحد، مندفعاً عبر الماء. يمكنه رؤية النجوم، الرائعة البراقة، بكلمات أخرى، فإن رأسه الآن يركز للاتجاه إلى الشاطئ. تشنج معدته تلاشى لكنه يواصل دعكها بتأن، حتى وإن أبطأه ذلك. عندما يخرج من البحر ويصبح فوق الشاطئ، يجد المسبح مهجوراً بالكامل. المد يواصل قدومه، ويفكر بأن المد ساعده. الريح التي تضرب جسده العاري أشد برودة مما كانت عليه في البحر، فيرتجف. ينهار على الشاطئ، لكن الرمل لم يعد دافئاً. ينهض على قدميه، ويشرع فوراً في الركض. إنه مستعجل لإخبار الناس بأنه قد نجا من الموت للتو. في القاعة الأمامية للنزل مجموعة من الأشخاص يلعبون البوكر. ينظرون عن عمد في وجوه خصومهم أو أوراق اللعب التي يحملونها، ولا أحد يكلف نفسه عناء النظر إليه. يتجه إلى غرفته، لكن شريكه غير متواجد في الغرفة، والأرجح أنه يثرثر في الغرفة المجاورة. يسحب منشفة من على حافة شباكه، منتبهاً إلى أن قناديل البحر، المكسوة بطبقة من الملح والمهروسة بحجر، لا تزال ممتلئة بالماء. بعد ذلك، يرتدي ثياباً نظيفة وحذاء، الأمر الذي يمنحه دفئاً، ويعود إلى الشاطئ. صوت البحر واسع. الريح أقوى وخطوط الأمواج البيضاء الرمادية تتدفق فوق الشاطئ. مياه البحر السوداء تواصل انتشارها بسرعة، ولأنه لم يقفز في الوقت المناسب، يتبلل حذاءه. يمشي مبتعداً قليلاً، على امتداد الشاطئ، وبموازاة المسبح المعتم. لم يعد هناك من نجمة واحدة مضيئة. يسمع أصواتاً، لرجال ونساء، ويميّز ثلاثة أشخاص. إنهم يدفعون دراجتين هوائيتين وثمة فتاة جالسة على مقعد إحدى الدراجتين. العجلة تغرق في الرمل والشخص الذي يدفعها يبدو كما لو انه يكافح. لكنهم يستمرون في الكلام والضحك. صوت الفتاة التي على المقعد فرح بشكل خاص. يتوقفون قبالته، ممسكين بدراجتيهم. أحد الشابين يأخذ كيساً كبيراً عن رفرف الدراجة الأخرى ويسلمه للمرأة. قبل أن يبدأ والشاب الآخر بخلع ثيابهما. شابان نحيفان، عاريين تماماً، يحركان أذرعهما، بزهو تقريباً، صارخين «المياه فعلاً باردة، المياه فعلاً باردة». وهناك الضحكة السعيدة، المقوقئة، للفتاة. «أتريدان أن تشربا الآن؟» تسأل الفتاة متكئة على دراجتها. وهكذا، يأخذان زجاجة نبيذ من الفتاة، ويتعاقبان على الشرب منها، قبل أن يمرراها إلى الفتاة، ويعودا إلى البحر. «هاي، هاي!» «هاي...» المد يتدفق بصخب إلى الأمام ويستمر في الارتفاع. «عودا بسرعة الآن!» تصرخ الفتاة، لكن لا يجيب عليها سوى صوت تحطم الأمواج. عبر الضوء الباهت المنعكس على البحر الممتد الآن فوق الشاطئ، يشاهد الفتاة المتكئة على دراجتها الهوائية وهي تسند نفسها بعكازتين إبطيتين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©