الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قضــايا بـلا شعــراء

قضــايا بـلا شعــراء
6 ديسمبر 2007 04:07
منذ أمد طويل غادر الشعر ديوان العرب، وكفّ الشاعر عن أن يكون لسان حال الأمة والناطق الرسمي باسم قضاياها· فقد خلت المنابر من الحناجر الصارخة المحرضة، وذهب الشعراء مذاهب شتى في التعبير استقرت في منزلة بين اثنتين: الغموض والتهويم· وبذلك بدت القضايا التي طالما نشأ في مناخاتها أو على إيقاعاتها شعراء رواد، خرساء، لا ألسنة تنطق بها أو بالنيابة عنها· والملاحظ هنا أن كل القضايا العربية أفرزت تياراتها الشعرية الخاصة بها، ابتداء من نكبة فلسطين إلى حرب 67 (شعراء الأرض المحتلة) إلى جنوب لبنان (مجموعة شعراء الجنوب)، لكن منذ ثمانينات القرن الماضي وما شهدته من تحولات كبرى، منها الانتفاضتان الفلسطينيتان الأولى والثانية وحرب الخليج الأولى ومن ثم اتفاقات اوسلو وغزو الكويت ثم احتلال العراق··· انكمش الشعر العربي كتيار مرافق للتحولات الكبرى، أو نتاج لها، أو دال عليها ما خلا بعض الأصوات الفردية· لماذا؟ هذا السؤال نبحث عن إجابته في هذا الاستطلاع· بيضون: الأدب غير السياسة يقول الشاعر اللبناني عباس بيضون: لا نستطيع أن نجزم بأن الادب يبقى في موازاة الظرف السياسي، أو أن الغليان السياسي يفضي بالضرورة الى غليان أدبي، أو أن نجد تلازماً بينهما· فالادب لا يتمثل الاحداث السياسية إلا على طريقته، وغالباً ما لا يتوافق مع الظرف السياسي· اذ يتأخر مهلة كافية قبل أن يستوعب الحدث السياسي، وقبل أن يجد له مقابلا عاطفياً وخياليا ورمزياً وأدبياً· يتراءى أن السؤال على هذه الصورة يفترض أن السياسة هي كل شيء، وأن الأدب والثقافة من متفرعاتها· هنا لا بد من الاشارة الى أنه لكل من الثقافة والسياسة عالمهما الخاص رغم التفاعل بينهما· إذن لا يمكن أن نستنتج من دون أن تكون المعادلة محسومة لجهة انكماش الادب وعلاقته بانكماش السياسة· بالنسبة اليّ ما زلت غير واثق من أن الادب شهد صعودا في الثمانينات ثم انكمش في التسعينات· فالاغلب أن الشعر في ما أرى لم تختلف حاله كثيرا من الثمانينينات الى التسعينات سواء لجهة عدد الشعراء أو المستوى الذي لم يحن الوقت بعد لتقييمه· ثم إن موجة الثمانينات هي موجة قصيدة النثر، وهي لا تزال نفسها في التسعينات والى يومنا هذا· شبلي: البوصلة والدرب أما الشاعر اللبناني عمر شبلي فيقول: لم ينكفئ الشعر، وإنما الشعراء انكفأوا· أعني أن الشاعر العربي لم ينخرط في حركة الفعل القومي انخراطاً يجعل السلوك مرآة للقصيدة· لقد كان التغلبي يحفظ معلقة عمرو بن كلثوم كنص مقدس، لا لأنها أفضل الشعر العربي، وإنما لأن صاحب القصيدة قال قصيدته يوم كان سيفه يقطر من دم عمرو بن هند لأن أمه أهانت أم الشاعر ليلى بنت المهلهل، وقتها اعتبر الشاعر عمرو بن كلثوم أنه يدافع عن شرفه اللصيق بتكوينه البدوي فجاءت القصيدة ترجمة للغضب الهادر في أعماقه· كان شعره سلوكاً وانعكاساً لسلوك القوم: الشاعر العربي يفهم قضية فلسطين وقضية العراق مثلاً فهماً ثقافياً، وهذا وحده ليس كافياً· صحيح أن الثقافة هي البوصلة ولكن لابد من الدرب، ولا قيمة للبوصلة بدون درب· لذلك لا بد من توافر عنصر الانشداد الذي يجعل المتلقي جزءا من الشاعر، وبالتالي كأنه يشاركه في كتابة القصيدة وهذا غير متوافر في الشاعر العربي المعاصر· فباسم الحداثة ينأى عن جمهوره المشدود باستمرار لجذور تكوينه الفكري والروحي، ثم إن الشاعر العربي تغرب كثيرا حتى لكأن القضية التي ينتصر لها ليست أكثر من لعبة فكرية أو محاولة للدخول في أندية التمويل التي احتلت مساحة الشعر العربي في معظمها· شوشة: الشاعر ليس حزباً ويؤكد الشاعر المصري فاروق شوشة أنه كلما تواكب الشعر مع الاحداث السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية السائدة فقد شعريته وصار خطبا سياسية وشعارات ربما تصلح لحركة نضالية أو حزب سياسي ولكنها لا تصلح لشاعر طامح لإضافة معنى جديد للغته وثقافة أمته، وما أفسد كل الشعر الذي قيل في المرحلة القومية أنه أصبح إعلاميا زاعقا حول الاحداث والقرارات والمواقف السياسية· والشعر ينبغي أن يكون شعرا، والذين يريدونه شعرا للأحداث السياسية يريدون تطويقه وتحجيمه، والشاعر ليس حزباً أو حركة سياسية أو قراراً لكنه شاعر فقط· سالم: مجتمع راكد ويعتبر الشاعر المصري حلمي سالم أنه ليس شرطاً أن يكون الشعر حاضرا أو غائبا لمجرد ارتباطه أو عدم رتباطه بأحداث وتحولات وطنية سياسية، والسؤال هكذا يكون مقلوبا أو على الأقل نابعا من عدم متابعة، ثم إن هناك شعرا كتب ويكتب الآن عن القضايا الفلسطينية واللبنانية والعراقية· غير أن الأهم أن الشعر الحقيقي على مدى التاريخ، لا يرتبط بحادثة سياسية مهما كبرت وإنما بتحولات كبرى في المجتمع العربي، وهذا ما حدث في الشعر العربي الحديث في ربع القرن الأخير، والشعر الذي يكتبه الشعراء الشباب الآن مرتبط بتحولات المجتمع العربي من مجتمع مفعم بالحياة الى مجتمع راكد يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومن مجتمع متبوع الى مجتمع تابع، وهذه التحولات ارتبط بها الشعر العربي في الجيلين الأخيرين وعبر عنها بكل أسى ولوعة· الخميسي: إنتاج هزيل ويشير الشاعر المصري أحمد الخميسي إلى أن هناك عملية تفكيك كاملة للعقل العربي، وهي عملية جهنمية وقعت على المستويين الاجتماعي والسياسي بغرض محو أي مشروع قومي عام، وها هي تصل للأدب والشعر بالترويج المدفوع الثمن لمدرسة فكرية كاملة تقول إن الادب والشعر خصوصا انعزل وانكمش واسقط القضايا الكبرى من اهتماماته ولم يعد الوطن موضوعا له، ويبدو أن هذه المدرسة نجحت في مسعاها، فلا تكاد تجد الآن الشاعر أو الأديب الذي ينشغل بهموم وقضايا مجتمعه كيوسف إدريس أو يحيي حقي أو صنع الله إبراهيم، وكل ما هنالك هو إنتاج هزيل يعبر عن الانغلاق على الذات والجسد! فاطمة ناعوت: الفن للفن وتعتبر الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت إن الخطاب مابعد الحداثيّ، الذي بدأت صيحاتُ النداء به بأوروبا في نهايات الستينيات من القرن الماضي، ووصلنا نحن العرب متأخرا عن ذلك العهد، أفرز فكرة سقوط السُّلطات· ومن أهم السلطات المُهدَر دمُها سلطةَ الأيديولوجيا· وكثير من أبناء جيلي أعجبتهم هذه الفكرة وباتوا يتأففون من طرح القضايا الكبرى في أشعارهم انطلاقا من مذهب إدجار آلان بو ''الفن للفن''· وطرح القضايا الكبرى والأيديولوجيات خَفتَ كثيرا بعد مرحلة الشعر السبعيني· لكننى أناقضً ذلك وأرى أن كثيرا من الشعر الجديد مازال يحمل، بقوة، هموم الوطن والعروبة، على نحو مغاير لما درج عليه الشعرُ الملتزم الصريح مثل التجربة الستينية وما قبلها وشعراء اليوم، وأنا منهم، يطرقون تلك القضايا ولكن بمعول خفيّ، حاد جدا وجارح، لكنه مراوغ· ويدخل إشكاليات الوطن والأمة، عبر أبوابها الخلفية وقد لا ترى اليوم في أشعارنا مفردات مثل: فلسطين والعراق والقومية والعولمة وإسرائيل والتطبيع والنكسة والانكسار والوطن ولكن ستجد كل ذلك متخفّيا داخل فنجان القهوة والباص ومحطة المترو والجريدة وكل ما شابه من مفردات الحياة البسيطة· تليمة: تنوع وتجدد ويرى الشاعر المصري عبد المنعم تليمة أنه لا يصح ربط النتاج الشعري والتيارات والاتجاهات في هذا الفن ربطا آليا بالانتقالات الاجتماعية والسياسية لأن الفن يرتبط بمرحلة تاريخية كاملة، والشعر العربي المعاصر هو شعر النهضة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بمعنى أنه عبر عن الغايات الكبرى للنهضة وأهمها التحرر الوطني وتحديث المجتمع ونلفت النظر الى أن هذا الشعر كان في تياره الأساسي قبل هزيمة 67 يكاد يكون صوتا واحدا مباشرا لأن التحرر كان في صدارة السعي النهضوي· أما بعد الهزيمة فقد تحررت الأصوات الشعرية وتنوعت التيارات وكثرت الجماعات وفي كل هذا ثراء لأن نفس الفرد بالغة التعقيد والتركيب وحركة المجتمع عالم من المواقع والعلاقات والمصالح، وربما التمعن فيها والانكفاء عليها من قبل الشعراء الجدد بدا للبعض انكماشا وانزواء بينما هو تحرر وتنوع وتجديد· رمضان: ثلاثة نماذج ويتذكر الشاعر المصري عبد المنعم رمضان التمايزات التي أطلقها الناقد المصري غالي شكري، فقد رصد ثلاثة نماذج للشعراء: شاعر بلا قضية وقضية بلا شاعر ثم شاعر له قضية، وكما استقر في ذهن غالي شكري أن النموذج الثالث هو المنشود استقر في أذهاننا جميعا ''يقصد شعراء السبعينات'' الأمر نفسه، فأصبحت فكرة شاعر له قضية تطاردنا، وبما أن الشاعر العربي ظل طوال القرن العشرين ومنذ عهد الأحياء شاعرا عاما كان لابد للقضية أن تكون عامة، لذلك فإننا حتى الآن لا نستطيع الربط بين ''القضية'' وما هو خاص·· وقصيدة النثر من فضائلها أنها التفتت بشدة الى كل ما هو خاص، وتكاد تكون ازدرت ما هو عام· ويبدو لنا، بسبب الشاعر الخاص وقصيدة النثر، أن الشعر أصبح محصورا ومحاصرا ومنكمشا، بلا قضية، والأصح أننا في حاجة الى إعادة النظر في مفاهيمنا جميعا وأولها مفهوم ''القضية''· مرعي: تسميات قطيعية وترى الشاعرة اليمنية نادية مرعي أن الشعر لم ينكمش بل تمدد واستشرى في كل أصناف وأنواع التعبير الإنساني بما في ذلك الإعلام والفنون بأشكالها المختلفة، بل أرى الشعر وآلياته وأساليبه وتمظهراته، وانعكاساته في كل مظاهر الحياة الإنسانية الحالية· أما بالنسبة للقضايا العربية وشعرائها فتلك حقب أو مراحل وتقسيمات نقدية لا علاقة لها بحتمية بالواقع، فليس بالضرورة أن يكون أي شاعر كتب قصيدة في نكبة فلسطين أو الانتفاضة أو ما قبل أو ما بعد ذلك من كبوات الواقع الإنساني كله شاعر تلك الكبوة أو ذلك المسمى أو التيار· أتفق معكم أن هنالك قطعانا ظهرت كمراحل شعراء الانتفاضة·· شعراء النكسة إلخ·· وهذا تعميم قطيعي من بعض النقاد فالشاعر يكتب ويعبر في كل المراحل، وحضوره ليس مرتبطاً بمرحلة ما بعدها يذوي أو ينتهي ويموت· المزغني: لا أستطيع الاجترار ويقول الشاعر التونسي المنصف المزغني: لدي اعتقاد مبدئي أنّ الشاعر ليس صحفيا، أي أنه لا يتولى متابعة الأحداث، وإنما هو إنسان يحاول أن يتحسس مواجع أمته، ويحاول أن يعبر عنها بالهمس والصراخ والسخرية· والحقيقة أنّ صوت الشاعر في أيامنا هذه بدأ يخفت، والشارع نفسه بدأ هو أيضا يلتفت إلى قضاياه الذاتية، وكأنّ السياسة لم تعد المهيمنة على فكره ومشاعره وهواجسه، لذلك صار ينأى فشيئا عن هذه القضايا ويتجه إلى تفاصيل ذاته والى شؤونه الخاصة· ومنذ التسعينات وإلى اليوم أصبحت القنوات الفضائية التي يثار فيها النقاش كثيرة، وصار ما يمكن أن يقوله الشاعر بجرأة يقال نثرا· لذلك صار على الشاعر أن يكون قادرا على أن يقول كلاما يتفوق على ما يقال في هذا الطوفان من الكلام والتحاليل ومن الصور التلفزيونية التي باتت قادرة على مسح الصور الشعرية· ربما تعب الشعراء في الحديث عن هذه القضايا، ويمكن القول إن ما يجب أن يقال قد قيل، لذلك لماذا نكرر، فالشاعر ليس من صفته أن يكرر، فهو ليس نشرة إخبارية· ربما ثمّة يأس أو ثمّة فراغ، لذلك فإن الشاعر انتهت كلماته ولم يعد له جديد، فلو عدنا إلى شعراء الجاهلية أو المتنبي أو ابن الرومي مثلا لوجدنا الكثير من شعرهم لا يزال صالحا ليوم الناس هذا، فقصيدة ابن الرومي في وصف خراب البصرة التي قيلت قبل ألف عام أو أكثر لا زالت صالحة، لذلك أعتقد أن الأمة، إذا كانت تحتاج إلى شعراء، فإن هؤلاء قد قالوا الكثير، فالمسرحي برتولد براشت كان يقول ''لو مثلت مسرحياتي بعد عشرين عاما فليس معنى ذلك أنها خالدة ولكن ذلك يعني أن المجتمع لم يتغير''· وإني أتساءل: ماالذي تغير في وجه الهزيمة؟ لا شيء بل ازداد هذا الوجه خجلا، وركاكة، وبرودة، وهذا كله لا بد أن ينعكس على أعصاب الشاعر· أنا من ناحيتي لم تعد تثيرني أشياء كثيرة، وبت أعتقد أني قلت ما عليّ أن قوله ولا أستطيع الاجترار والتكرار· كان الشاعر يلعن ويسب والآن فان اللعنات موجودة والملعون ما زال يقف بكامل لياقته ويتصدر ويصفق له· نحن نعيش مسرحية هزلية حقيقية، ولا أرى داعيا كبيرا لمزيد التنديد· الواقع مر، واللغة المرة قد قيلت· رزوقة: شعراء بلا قضايا ويسأل الشّاعر التونسي يوسف رزوقة: قضايا بلا شعراء؟ بل إنّ ذاك هو المنشود شعريّا، أن تظلّ هذه القضايا على شائكيّتها ونبل جوهرها النّضاليّ، معلّقة وبمنأى عن شعراء الهنا والآن، ذلك أنّ القصيدة الملتزمة متى انخرطت في الشّأن الدّعائيّ، من أجل قضيّة ما، عادلة أو غير عادلة، تفقد نسغها الإيحائيّ وأدبيّتها بسبب شحنتها الحماسيّة المباشرة وسرعان ما تنتهي مجرّد خطاب تكريسيّ قد يخدم الإيديولوجيّ تعبويّا إلى حين لكنّه ينأى عن أن يكون شعرا· وبالتّالي فإن شعراء الحداثة وما بعدها ليسوا مطالبين، وإن طولبوا بذلك عسفا، بأن يكونوا أبواق دعاية في سوق عكاظ على النّحو الّذي عهدناه سابقا لدى نظرائهم من شعراء الحماسة واستعراض العضلات الكلاميّة الجوفاء· إنّ مثل هذه القضايا النّاريّة الكبرى لا تهمّ، في رأيي، عدا السّاسة الّذين أشعلوها وهم من ثمّ مطالبون بإطفائها، أمّا الشّعراء فلهم تفاصيل صغيرة أخرى، أعمق من هذه القضايا ذات الصّلة بدراما الدّمار ومشتقّاته، ينتظمها وعي شائك بضرورة أن تنهض القصيدة القادمة بإنسانها الاستثنائيّ، الجديد حتّى يكون هذا الأخير شاعرا، بشكل أو بآخر، بما تفشّى حوله من جهل وجهالة في هذه الألفيّة الثالثة ولن يكون كذلك، إلا متى نبش الشعراء، بعمق، في صندوقه الأسود لتشخيص محتواه وما ترسّب فيه من إرث متخلّف ومن كبائر هي سبب مثل هذه القضايا الحارقة· وبناء على ما تقدّم، فإنّ الشّعراء لن يضيفوا شيئا إلى هذه القضية أو تلك، ما لم يلتفتوا إلى التّفاصيل الصّغيرة التي تحكم أهواء الإنسان وتتحكّم في مصيره لتنعكس سلبيا، فيما بعد، على سلوكياته المختلفة لتظلّ القضية، أيّة قضية، والتي هو محورها، على علاّتها، يغذّيها هو، أبا عن جدّ، ببنزين العنجهيّة والبطولة الوهميّة وما إلى ذلك· من هنا، نرى أن نظريّة ''شعراء بلا قضايا'' هي الأكثر أهمّيّة من نظريّة '' قضايا بلا شعراء''، على خلفيّة أنّ الجمهور المستهدف اليوم، ما عاد يحفل، في هذا الفضاء الاتّصاليّ، المعولم، بشعراء يقفون في طابور المطبّلين لقضّية ما وهو يرى في هؤلاء المطبّلين، تنافرا وتقاتلا، لا من أجل الجوهر والوطن، وإنما من أجل أشياء أخرى لم تعد تخفى على أحد· المنصور: تبدلات هائلة ويعتبر الشاعر اليمني محمد المنصور أن ثمّة تبدلات وإزاحات هائلة حدثت للمجتمعات العربية، مشت صلب الثقافة العربية في جانبها الإبداعي المتمثل في الشعر، فقد تحول كفاعلية إبداعية جماهيرية أولى حاملة للخطاب والهم المجتمعي والقضية باتجاه انسحب فيه صوت الشاعر من الخارج وقضاياه· لم يعد الشعر في عصر هيمنة الصورة التي تحتكر صناعة وتوجيه الأحداث حاملاً ومعبراً عن الموقف، كما لم يعد القارئ ينتظر من الشعر ذلك بل من الشاشة الصغيرة والإنترنت والمطبوعة الصحافية· ففي حين أنه لم يعد بمقدور المبدع أن يحاكي الوضع السائد، فضلت القصيدة العربية الجديدة أن تنأى بنفسها عن مباشرة الحدث كما كانت تفعل من قبل· بافقيه: فشل الحداثة ويقول الشاعر السعودي علي بافقيه: يبدو لي أن كل القضايا العربية تنتمي إلى قضية جوهرية واحدة سواء أكانت المسألة في لبنان أو فلسطين أو أي زاوية عربية على الخريطة· جميعها تعيش تناقض وصراعات العصر· فانكماش القضايا الكبرى من القصيدة العربية هو حصيلة لفشل الحداثة العربية أو بوضوح أكثر فشل المشروع التنويري العربي الذي بدأ منذ أواخر القرن الثامن عشر مع الشيخ محمد عبده ومشروعه لتجديد الفكر الديني والثقافة العربية السائدة مروراً بكل المحاولات الفكرية والثقافية والسياسية · هذا الفشل المروع يجعل الشاعر العربي الآن يقف أمام أنقاض جميع المحاولات التنويرية أو النهضوية موقف الخـــــاسر وجدانيا وحضاريا وهو يتفرج على ثقافة تتشبـــــث بأسمالهـــــــا البالية ويتمزق أمام ثقافة تذود عن حياضها الآسنة بشجاعة خرافية لاتمت إلى علوم العصر وتحدياته· والعلوم المعاصرة التي بدأ العرب يهتمون بها ماهي إلا تكنولوجيا يابسة فقط أما العلوم الإنسانية مثل التربية والسياسية والثقافة والاجتماع والقانون والنفس والحقوق والطفولة فهي علوم خارج منطقة المعرفة العربية مع أن هذه العلوم الإنسانية لصيقة بالثورة الصناعية وبمقارعة تحديات العصر مثلما أن مقاومة الشعوب من اجل التحرير في هذا الزمن بالذات لصيقة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكي تكسب تأييد الشعوب وتعطي ثمارها· شمس الدين: شعر الكارثة ويقول الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين: لم يغفل الشعر العربي منذ الكلاسيكية الجديدة التي تمثلت بالثلاثي أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران عن البعدين الوطني والاجتماعي· في المجتمعات العربية، كان دائماً في الصوت الشعري صدى وانعكاساً للحدث السياسي أو الاجتماعي، سواء برز هذا الحدث على هيئة حركة سياسية مناهضة للاحتلال أو صراعاً سياسياً داخلياً· عكست، على سبيل المثال، قصائد شوقي الصراع السياسي في بلده مصر (قصائده في سعد زغلول)، وكذلك ما نظمه من قصائد مضادة عقب حادثة ''دنشواي'' يوم ''تصيد'' الانكليز أبناء الصعيد كما لو أنهم عصافير· ولا ننسى قصيدة خليل مطران عن الحرية· قبل هؤلاء كان محمود سامي البارودي شاعر القومية العربية بامتياز، لحقه شعراء في سوريا ولبنان والعراق من مثل بدوي الجبل وعمر أبو ريشة والشاعر القروي رشيد سليم الخوري ومعروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري، ولا ننسى سليمان العيسى الشاعر الذي نذرشعره للوحدة العربية· كانت تلك الأشعار تتسم بالحماسة والاندفاع المتفائل نحو تحديد مفهومي الوحدة والنصر على أعداء الداخل والخارج· بعد ذلك جاءت نكبة فلسطين سنة 1948 وما لحقها من حركات تحرر في مصر وسوريا والعراق· حينها شكلت المسألة الفلسطينيـــــــة العامل الأكثر ضغطاً على أصابع الشعراء· ما يذكر في هذا السياق أن الالتزام القومي والوطني على العموم في الشعر بقيت تشوبه شوائب فنية حيث يغلب الصراخ على اللعبة الفنية، والحماسة القومية على التأمل· في فلسطين مثلاً برز شعر المقاومة ومعه أسماء ذاع صيتها من مثل محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وعز الدين المناصرة· هؤلاء مروا بمرحلة من الحماسة والخطابة الشعرية قبل أن تخفت في ما بعد بعض الأصوات، ويلعب البعدان: التأملي والفني دورهما في صناعة القصائد· أما في الجنوب اللبناني وما تعرض له من اجتياحات وحرب أهلية، فيمكن القول إن تلك الأحداث التاريخية أنتجت ظاهرة فريدة من نوعها باسم شعراء الجنوب اللبناني الذين عرفوا كذلك باسم شعراء المقاومة· هؤلاء تميزوا عن غيرهم بالثقافة المتنوعة لدى بعضهم، وبالتنوع الأسلوبي، وعدم تغليب البعد الوطني على البعد الفني· في المقابل، ثمة ملاحظة، أن''كارثة'' العراق وانتصارات المقاومة في الجنوب اللبناني منذ عام 2000 لم تنتجا شعراً بعلو واحتدام كل من الحدثين المتناقضين· فلا الكوارث حركت شعراً مهماً في العراق، ولا الانتصارات التاريخية الاسطورية للمقاومة في الجنوب اللبناني أثمرت شعراً جديداً· هاتان الظاهرتان اختصرهما بالنسبة للعراق بالتخمين أن الشعر العربي الحديث والمعاصر طالع من رحم الكارثة والمرثيات والمأساة في ظل خفوت بوارق الأمل· أما بشأن الجنوب اللبناني، فثمة سبب برأيي مرده الى عدم تصديق الشعراء العرب أن بإمكان فريق أو مقاوم الانتصار على العدو· هنا تكمن الثغرة في الشعرية العربية المعاصرة· بالنسة الى تجربتي الخاصة فإني بعد حرب تموز الأخيرة صدر لي ديوان شعري بعنوان ''الغيوم التي في الضواحي''· في هذه المجموعة وجدتني كثير التأمل شديد القلق إذ بدأ اليقين يطرد الشك في نفسي بخصوص بداية الزمان العربي الآخر· فالنصر العظيم الذي أحرزته المقاومة منذ العام ألفين وصولاً الى حرب تموز أحيط كثيراً بغيوم مكفهرة في الداخل والخارج إذ دائماً قلب العالم من حجر والحق مر· الشيباني: تبدل وظيفة الشعر ويسأل الشاعر اليمني محمد عبد الوهاب الشيباني: هل هناك وظيفة محدّدة للشعر في وقتنا الراهن؟! بمعنى أن الوظيفة التي ظل لسنوات طويلة يؤديها الشعر، أو ما أراد منه أصلاً جمهور القراءة والتلقي لتأديتها؟ ويجيب: بكل تأكيد هناك تبدلات مهولة، أقلّها تلك الرؤية التي يبنيها المتلقي المعاصر حيال الشعر كمنتج للاستهلاك في وقتنا· لكن بدءاً من سقوط جدار برلين وصولاً إلى أحداث 11 سبتمبر، واحتلال العراق وتفكيك دولته جرى في النهر ماء كثير جرف معه ما كان ثابتاً بصلابة حتى وقت قريب وهو التمثيل الذي يصح تحضيره على حال الشعر· فليس ثمنه شعراء جُدد (لأرض المحتلة) لأن المفهوم الكلي بدأ بالتآكل مثلما تآكلت مطالب الحدود الجغرافية ومفاهيم الاحتلال· و(جنوب لبنان) لم يعد أرضاً للمقاومين الذين تجاوزوا ضيق الأيديولوجيا والطائفية والدين· والانتفاضة لم تعد بواجهة واحدة لأن أحجار الصغار محتارة وإلى أين ترمى· هل بوجه الدوريات الكابية للمحتل أم للقوّة التنفيذية، أو جهاز الأمن الوقائي· هل لفتح أم لحماس أم للمنظمة الميتّة؟ أخلص إلى القول، نحن بإزاء تبدّل مهول في وظيفة الشعر وفي الشعارات التي أفرزت موضوعات كبرى كتبت تحت مقوماتها وهي الآن تتآكل بقوّة لا يستطيع الإمساك بأي من تجسداتها· ريان: شعر الانكفاء ويقول الشاعر والناقد المصري د· أمجد ريان وهو من أبرز شعراء جيل السبعينات من القرن الماضي وأكثرهم متابعة وتنظيرا ودأباً وإنتاجاً في جديد الشعر العربي، وهو أحد الذين بشروا وروجوا لقصيدة النثر ولغياب الشعر عن القضايا الكبرى واحتفائه بالأشياء الصغيرة والبسيطة والخاصة، لذا بحثنا لديه عن حال الشعر وما يعانيه من خفوت وانكماش وغياب نهائي عن قضايانا في الفترة الحالية· ويقول ريان: ارتبط الشعر الكلاسيكي، والشعر الرومانتيكي بالمهام الوطنية والسياسية ارتباطاً مباشراً، للدرجة التي كان يتنازل فيها أحياناً عن كينونته الجمالية، وخصوصيته الإبداعية، ويمكننا أن ندرج حركة الشعر الحر بكاملها في إطار الرومانتيكية، وأن نتذكر وطنيات محمود سامي البارودي في عصر سابق، ثم الجواهري والبردوني في العصر الحديث، ومن قبلهما نصوص الشاعر أبي القاسم الشابى، وإذا تتبعنا المسألة في المرحلة المتأخرة يمكن أن نستشهد بشعر المقاومة لدى محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهـم، وأن نضع تجربة الشاعرين نجيب سرور وأمل دنقل داخل الإطار نفسه، ولا يمكن أن ننسى الدور الذي قام به شعر العامية في عملية النضال، وتجربة الشاعر أحمد فؤاد نجم دليل ساطع على هذا· وأضاف: أما في السبعينات وما بعدها فقد كان للحداثة دور كبير في إنضاج رؤية خاصة للإبداع الشعرى، كان الشاعر يسعى بمقتضاها إلى أن يعبر عن موقفه الفكري والسياسي، مصوغاً داخل الرؤي الجمالية في أعلى إمكاناتها، باعتبار أن التركيب الجمالي هو منطق الشعر ومنطلقه، وكان هناك شعراء كثيرون من هذا الجيل يمكن أن نعدّهم مسيسين، أو على الأقل تأثرت تجاربهم بالأيديولوجياً تأثراً واضحاً، ومن بينهم حلمي سالم و محمود نسيم، وغيرهما· وقال ريان إن أكثر من مئة وخمسين نسخة من ديواني ''أيها الطفل الجميل اضرب'' وصلت إلى الأراضي الفلسطينية وتم توزيعها هناك عام ،1992 وقصائد هذا الديوان تتعلق بالانتفاضة الفلسطينية تعلقاً حميماً، وكتب مقدمته بدر الديب، وصدر عن دار ''الغد'' المصرية التي كان يملكها الشاعر كمال عبد الحليم، صاحب القصائد والأغنيات الوطنية المشهورة، وأهم ما يمكن أن يتصف به هذا الديوان، هو أنه يختلف اختلافاً جذرياً عن النصوص البسيطة التي تكون أقرب للبيان السياسي، فالتجربة جمالية كثيفة، وتتجانس مع نصوص السبعينيين بصفة عامة، من حيث المجاز الاستعاري المركب الذي يتطلب درجة ثقافية معينة لدى المتلقي· وأكد ريان أنه بداية من التسعينات، وما بعدها، حدث تغير جمالي جذري، ليس على المستوى العربي فحسب، بل على مستوى الوجود الإنساني كله، وهو التغير الناتج عن انحلال كل الكيانات الكبيرة، في الفكر والحياة، وتفتت هذه الكيانات، إلى كيانات صغيرة تتمدد حتى تنفجر بدورها إلى مكوناتها الأصغر، وهكذا إلى ما لا نهاية والدول الكبرى، تنقسم إلى دويلات أصغر، أو تستيقظ في داخلها النعرات والدعوات الانقسامية لصالح الفئات المكونة والأحزاب تنقسم، والنظريات الاقتصادية والفكرية تنقسم، وتكاد المسألة تصبح قانوناً شاملاً ينطبق على كافة مناحي الحياة وظواهرها، وكافة الأنشطة الإنسانية في كل المجتمعات الإنسانية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©