الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الانقلاب» في الفلسفة

«الانقلاب» في الفلسفة
20 ابريل 2016 03:24
محمد سبيلا تنحدر فكرة الثورة من علم الفلك، وتتدحرج تدريجياً لتنتقل من العلم إلى السياسة، ففكرة الثورة تعود إلى كوبيرنيف عالم الفلك الذي أحدث ثورة كبيرة في هذا العلم، وحقق الانتقال الفكري الكبير في تاريخ الإنسانية من مركزية الأرض Géocentrisme إلى مركزية الشمس Héliocentrisme في نظام الكون، ممهداً الطريق نحو اكتشافات وأفكار كبيرة حول طبيعة الكون وبنيته وامتداده. من أهم كتب كوبيرنيف كتاب تحت عنوان (في دورة الأفلاك السماوية -Des (revolutions des orbes celestes. ومن الواضح أن عنوان الكتاب يتضمن الكلمة التي ستلعب فيما بعد دورا حاسما في المجال السياسي، وهي كلمة ثورة، وذلك في إشارة إلى التحولات العميقة التي ستنتقل دلالاتها من العلم إلى السياسة، والتي ستلحق بها لفظة أخرى فيما بعد وهي لفظة انقلاب. لست هنا في حاجة إلى التذكير بالانقلابات العربية المترادفة، والتي أصبحت علامة مميزة و«صناعة عربية» بامتياز، لأن موضوعة الانقلاب في الفلسفة ذات نكهة أخرى مختلفة جذريا، لأنها تتعلق ب (جيغا نتوماشيا) الأفكار أي بصراع فكري شرس بين الجبابرة، جبابرة الفكر. وأكتفى هنا بالإشارة إلى «انقلابين كبيرين في تاريخ الفلسفة: انقلاب أو قلب ماركس لهيجل، وقلب نيتشه لأفلاطون. فطرفا الفريق الأول متقاربان زمنياً، وطرفا الفريق الثاني متباعدان بما يقارب ألفي عام. طبعا هناك انقلابات فلسفية أخرى لا تقل حدة، كالانقلاب الذي قاده فويرباخ والذي نجده يذوب في الانقلاب الذي قاده ماركس، وكذا الانقلاب الكوكبي الذي أحدثه كوبيرنيف. قلب ماركس لفكر هيغل هو قلب للنسق الهيجلي بكامله بمصطلحات ماركسية. إنه قلب للعلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، أي بين إنتاج الحياة المادية وإنتاج الحياة الفكرية والروحية للمجتمع، قلب للعلاقة بين الواقع والتمثل أو التصور، وضمنه بين الأرض والسماء. فالقشرة الأخلاقية أو الإيديولوجية للمجتمع، إنما هي انعكاس من زوايا ومنظورات مختلفة، لبنيته الاقتصادية-الاجتماعية وليس العكس. يقول ماركس، « إن التغميض الذي تعرض له الديالكتيك على يدي هيجل لا ينفي بتاتا أن هذا الأخير كان هو أول من عرض الأشكال العامة لحركة الجدل بصورة شاملة وواعية، لكن الجدل يوجد لديه قائما على رأسه، ويتعين قلبه من أجل اكتشاف النواة العقلانية تحت القشرة الصوفية الغامضة». القلب الثاني الكبير في تاريخ الفلسفة نجده لدى الفيلسوف الألماني نيتشه، الذي اعتبر فلسفته بمثابة مطرقة يفتت بها الأوهام والضلالات والمثل، ويعتبر أن فلسفته هي قلب للأفلاطونية. والأفلاطونية حسب نيتشه هي الجذر الفكري للمسيحية بسبب التماثل بينهما من حيث البنية الفكرية مع فارق واحد هو: أن المسيحية هي أفلاطونية جماهيرية أي أفلاطونية للشعب، أي للعموم. الأفلاطونية في هذا المنظور هي رمز لكل فكر يحتقر الحياة والعالم الأرضي ويستوهم عالما آخر مثاليا، وهذا هو ما يطلق عليه نيتشه النزعة العدمية Nihilisme، بمعنى نزعة إنكار الواقع والأرض والتطلع إلى عالم آخر مثالي وكمالي.. لكن لا ضمان لوجوده. النيتشوية هي بالضبط نقيض هذا التصور الأفلاطوني لأنها قائمة على تمجيد الحياة وتثمين العالم الواقعي وعلى حب القدر أو المصير Amor fati. هذان الانقلابان الكبيران في تاريخ الفكر الفلسفي متماثلان إلى حد كبير، وإن كان منطلقهما ومصادراتهما مختلفة. فقلب ماركس للديالكتيك الهيجلي هو قلب لكامل فلسفة هيجل وإن كان ذا طابع معرفي وإبستمولوجي في أساسه لأنه قلب للعلاقة (المعرفية) بين الواقع والفكر.. في حين أن قلب نيتشه للأفلاطونية ذو ملامح ميتافيزيقية أكبر. هذان«الانقلابان» الأساسيان في الفلسفة يجمعهما انتماء آخر هو ما يسمى فلسفة التشكك أو التوجس التي يرجعها البعض إلى ديكارت الذي اعتبر الشك جوهر فعالية الفكر، والبعض الآخر يرجعها إلى فويرباخ الذي دفع بالتشكك إلى حدوده الميتافيزيقية القصوى، بينما ينسبها البعض الآخر إلى ماركس أو نيتشه أو فرويد، وهم المفكرون الثلاثة الذين أشاد ميشيل فوكو بدورهم الكبير في إحداث تحولات فكرية كبرى في الفكر الأوروبي، وبالتالي في الفكر الكوني. فهؤلاء المفكرون لم يقتصروا على إضفاء معنى جديد على الظواهر الإنسانية.. بل غيروا طبيعة العلامة ذاتها وغيروا الطريقة نفسها التي كانت تؤول بها العلامات، وهم الذين أحدثوا ثورة في طريقة فهم وتأويل الظواهر التاريخية والثقافية والنفسية في المجتمع عبر تأويلها تأويلاً إرجاعياً أو اختزاليا لا عبر تأويل تضخيمي (amplificateur) بتعبير الفيلسوف بول ريكور. وهذا التأويل الإرجاعي الذي قام به هؤلاء الفلاسفة يمت بقرابة فكرية قوية مع فكرة القلب او الانقلاب لأنه يرجع الظواهر الاجتماعية والأخلاقية والنفسية إلى جذورها وأسسها التحتية الانتاج- الحياة- اللاوعي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©