الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصيدة نازك الملائكة في يوميات الجرح العراقي

قصيدة نازك الملائكة في يوميات الجرح العراقي
6 ديسمبر 2007 04:12
من مفارقات الحياة أن تكون مصر التي كتبت عنها نازك الملائكة قصيدتها ''الكوليرا'' عام 1947 والتي شكلت ولادتها الإبداعية وحضورها الباذخ، أن تكون مصر أيضاً المحطة الأخيرة والحاضنة لرحيل هذه الظاهرة الثقافية عام ،2007 المحطة التي استوعبت عزوف نازك عن الأضواء وعزلتها التي تنجح في أن توقد في الذاكرة الثقافية فيضاً من التساؤلات المؤرقة المربكة التي تبحث عن إجابة لحياة مبدعة قررت طواعية أن تصمت· مفارقة ثمة تساؤل يقف على مفارقة طريفة تنبثق من قصيدة ''الكوليرا'' نفسها، فهذه القصيدة - التي عصفت بعمود الشعر ضمنتها نازك أحاسيسها المرهفة وهي ترقب حركة اجتياح الكوليرا أرض النيل عام 1947 - نجحت في أن تجعلك إزاء حركة عصف الموت بالأنوات المتحركة على مسرح النص وعبر رصد متقن لتفاصيل الحدث التراجيدي الذي عكس في بنيته المسكوت عنها وجه نازك ونبرات صوتها المنتحب المتفجع وحركة عينيها الدامعتين التي كانت ترقب من شرفات بغداد تلك العذابات فتصوغها تعاويذ وأمنيات، تنجح هذه القصيدة في أن تطرح تساؤلاً مفاده: أولم تكتب نازك عن كوليرا الاحتلال وعذابات إنسان بلاد وادي الرافدين وهي ترنو إليه من شرفات القاهرة؟! بالضرورة انتحبت وتشظت رؤاها المتعبدة في محراب بغداد التي أباحت جسدها شراسة القذائف وحمم الموت· هي تساؤلات قفزت إلى ذهني وأنا أتأمل مناخات قصيدة ''الكوليرا'' - المتشذرة تدوينيا إلى أربع شذرات - وأرصد براعة النص في الانفلات من إساره الزمني ليكون بلورة سحرية يمتزج في بنيتها وجه مصر عام 1947 تحت حمى الكوليرا بوجه العراق تحت حمى الاحتلال ،2007 قارن مثلاً الشذرة الاولى: (سكن الليل/ اصغ إلى وقع صدى الأنات/ في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأموات/ صرخات تعلو، تضطرب/ حزن يتدفق يلتهب/ يتعثر فيه صدى الآهات/ في كل فؤاد غليان/ في الكوخ الساكن أحزان/ في كل مكان روح تصرخ في الظلمات/ في كل مكان يبكي صوت/ هذا قد مزقه الموت/ الموت الموت الموت/ يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت)· من اللافت أن المتن يشاكل بين الشعري والتشكيلي عبر التلوين الواعي لسطح النص باللون الأسود المستجلب من (الليل + عمق الظلمة + الظلمات) واللون الرمادي المستجلب من (حزن يتدفق يلتهب) ليصوغ ''جورنيكا'' جديدة تعكس عمق الدمار النفسي التي خلفتها خطوات الموت المتداركة (فعلن/ فعلن/ فعلن) (الموت، الموت، الموت) التي تشبه وقع ''بساطيل'' المارينز على جسد بغداد وصرير مجنزرات الاحتلال، إلا أن السطر الأخير الذي أضاء وجه النيل بحضارته الباذخة قد منح القصيدة هويتها المكانية والزمنية، وهو في الوقت نفسه يمكن أن يستدعي في مكنونه المائي حضارة وادي الرافدين (دجلة والفرات) لتكون (يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت) صرخة أنثوية بوجه الموت الذي يسحق ببلادة الجمال والحضارة، ويصل التماهي بين اللحظة المنصرمة والراهن المعاش ذروته في الشذرة الثانية إذ تجتاز عتبات الزمن لتجعلك وجهاً لوجه مع عذابات اليومي الراعف الذي يشهد موتاً مجانياً ووأداً جماعياً، تأمل الآتي: ''طلع الفجر/ اصغ إلى وقع خطى الماشين/ في صمت الفجر، أصخ، انظر ركب الباكين/ عشرة أموات، عشرونا/ لا تحص أصخ للباكينا/ اسمع صوت الطفل المسكين/ موتى، موتى، لم يبق غد/ في كل مكان جسد يندبه محزون/ لا لحظة إخلاد لا صمت/ هذا مافعلت كف الموت/ تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت)· المتخيل ينجح المتن في أن يكون بنية سحرية تهتك ناموس الزمن فتخترق عذابات إنسان وادي النيل لتصل إلى عذابات إنسان بلاد وادي الرافدين وهو يئن تحت وطأة كوليرا الاحتلال وهيضة المجنزرات وحمى المفخخات التي هتكت حرمة المكان وأباحت دم الإنسان العراقي نهاراً جهاراً· ويتعزز هذا التأويل في الشذرة الثالثة التي يمكن أن تكون الكوليرا فيه رمزاً مشفراً للمحتل الغاصب، قارن الآتي: (الكوليرا/ في كهف الرعب مع الأشلاء/ في صمت الأبد القاسي/ حيث الموت دواء/ استيقظ داء الكوليرا/ حقدا يتدفق موتورا/ هبط الوادي المرح الوضاء/ يصرخ مضطربا مجنونا/ لايسمع صوت الباكينا/ في كل مكان خلف مخلبُه اصداء/ في كوخ الفلاحة في البيت/ لاشيء سوى صرخات الموت/ الموت الموت الموت/ في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموت)· من الواضح أن المتخيل الشعري يخلق من الحركات الإعرابية بنية ايقاعية ودلالية تحيل إلى سكون الأمكنة التي كانت مترعة بالحياة (الوادي + كوخ الفلاحة + البيت + كل مكان) ليبقى المرفوع الوحيد هو (الموت) ولاتنطلق في تلك الفضاءات المرمدة إلا ألف الإطلاق المستمدة من مناخات الكوليرا المتمظهرة في (باكينا + مجنونا + مضطربا + موتورا) لتكون ازاء وجه الكوليرا الشائه المخاتل الشرس الذي يمكن أن يكون الوجه الآخر للمحتل الذي يغدق الموت على جسد المكان، وهو ما يتأكد في الشذرة الأخيرة التي تستبطن مكابدات الأنوات التي عصف بها الموت وأدواته، لتكون إزاء لوحة بانورامية لشراسة الحدث التراجيدي الذي يعكس اختراق المتخيل الشعري أقفاص الزمكان ليضيء عذابات الإنسان المعاصر، أنى كان، قارن الاتي: (الصمت مرير/ لاشيء سوى رجع التكبير/ حتى حفار القبر ثوى لم يبق نصير/ الجامع مات مؤذنه/ الميت من سيؤبنه/ لم يبق سوى نوح وزفير/ الطفل بلا أم وأب/ يبكي من قلب ملتهب/ وغدا لاشك سيلقفه الداء الشرير/ ياشبح الهيضة ما ابقيت/ لاشيء سوى أحزان الموت/ الموت الموت الموت/ يامصر شعوري مزقه مافعل الموت)· الضمير تبقى البنية الايقاعية الدلالية المتكئة إلى الحركات الإعرابية هي المتربعة على عرش الإيقاع الداخلي للمتن، الذي يجعلك ازاء أنشودة أنثوية في محراب الموت الجماعي، عكست من خلالها نازك الملائكة صوت الضمير الجمعي وفجيعته بما يحصل على الأرض، ومثل هذا الاختراق الدلالي للزمكان تجده في قصيدة (ثلاث أغنيات عربية) المتشذرة ترقيميا إلى ثلاث شذرات والتي أرخت لجرح فلسطين عام ،1948 حتى لتستشعر بان حبر الحروف لم يجف بعد، وانها لازالت مخضلة لحد الآن؟! تأمل مثلاً الشذرة الثالثة الموسومة بـ(النسر المطعون)، ولاحظ كيف جعلت من الزمن العربي فينيقا موؤودا يمكن أن يستوعب بين جنبيه جرح فلسطين 1948 وبغداد 2003: جنحاه مبسوطان فوق المدى من الخليج للمحيط السحيق في كبرياء الريش تحيا ذرى واعصر يقظى ومجد عريق أقام فوق الأرض لايرتقي نحو الأعالي في الفضاء الطليق واللانهايات تنادي وفي ندائها همس الخلود العميق أليس أمرا ذا دلالة أن تكتب رائدة الشعر الحر نازك الملائكة هذه القصيدة على أوزان عمود الشعر؟! ان هذه الدلالة ببساطة تفضح توق نازك إلى أن تهز عروش الذاكرة الشعرية والحضارية والثقافية التي انتهكت باغتصاب المكان، لتعكس تراجيديا الزمن العربي المنتهك· وخلاصة القول، إن قصائد نازك الملائكة قد نجحت في أن تكون مرايا سحرية نبصر من خلالها هزائمنا المشتركة، وهي مرايا تجعلك في مواجهة الحركة الدائرية للزمن العربي، فمأساة الأمس هي ذاتها مأساة اليوم· كما تجعلك إزاء قراءة جديدة للزمن العربي المعاش بكل ثماره المرة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©