الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شيرنسكي درّست وزراء تونس وسفراءها

شيرنسكي درّست وزراء تونس وسفراءها
6 ديسمبر 2007 04:17
أنتستازيا شيرنسكي عجوز روسية عاشت حياتها في تونس التي وصلتها عندما كانت في الثامنة من عمرها، بعدما فرت مع والديها وأختيها من بلادها إثر قيام الثورة البولشفية· في كتابها ''المحطة الأخيرة'' تروي أنستازيا حكاية الهروب والغربة· حكاية هروب اليوم وقد مرّ 88 عاما على تاريخ وصولها الى مدينة بنزرت التونسية، أصبحت أنتستازيا في الخامسة والتسعين من عمرها، تحمل السنين ومعها حياة مليئة بالأحداث والتقلبات، أما الكتاب فقد أرادته شهادة على عصرها، وهي شهادة امرأة فقدت وطنها وأرضها، وعاشت برفقة أفراد أسرتها مأساة إنسانية مؤلمة· الكاتبة ولدت عام 1912 في ''أوكرانيا''، وكان جدها جنرالا (لواء) في جيش الكسندر الثاني، ووالدها كان ضابطا ساميا في البحرية الملكية الروسية· وعند قيام الثورة البولشيفية عام 1917 فرّ كل أفراد العائلة هربا من الجيش الأحمر· وكانت من ضمن 6388 فردا حملتهم 33 باخرة تابعة للبحرية الروسية· وبعد وصولهم الى تركيا وجهتهم فرنسا الى ميناء مدينة بنزرت· أحداث مغيبة تروي انتستازيا وقائع ما جرى فتقول: ''قليلون هم من أهالي مدينة بنزرت الذين يتذكّرون البواخر الروسية المحملة بالمهاجرين الروس الفارين من جحيم الجيش الاحمر··· ولكن عند وصولنا مثّل ذلك حدثا هاما وقتها'' مضيفة: ''ان ثورة 1917 عصفت بعائلتنا وقلبت حياتنا رأسا على عقب''· وقد قضت أنتستازيا أربع سنوات على ظهر السفينة الحربية التي فرت على متنها، قبل الوصول إلى بنزرت· وتروي في كتابها يوميات من طفولتها فتقول: ''كنا ندرس اللغة الروسية وهي لغة شاعرية رائعة، وكنا في مدرستنا على ظهر الباخرة الحربية الراسية نحفظ قصائد مطولة لأكبر وأعظم شعراء روسيا ونتولى إلقاءها عندما نقيم بعض الحفلات''· وتضيف: ''نحن الاطفال كنا ننظر بفضول ودهشة لشواطئ بنزرت الرملية، ولأشجار النخيل الباسقة، ولصوامع المساجد، وللطرابيش الحمراء التي كان يضعها التونسيون فوق رؤوسهم''· الوطن يضيع مجددا ثم جاء يوم حزين في حياة أنتستازيا في 29 أكتوبر 1929 عندما صدر قرار فرنسي للمهاجرين بمغادرة البواخر الحربية، بعد أن اعترفت باريس رسميا بالاتحاد السوفييتي''· كافح والد أنتستازيا لكسب قوت يومه، واستأجر بيتا متواضعا، وبعد حياة الأبهة والعز في روسيا القيصرية، عرفت الأسرة أياما عصيبة، وتقول الكاتبة إن أمها لم تكن تجد حرجا في القيام بتنظيف الصحون لدى العائلات الفرنسية الميسورة· كما عملت الأم، المتحدرة من أصول أرستقراطية، خادمة ترعى الأطفال، وتسهر على راحتهم، وتتولى حتى اطعام كلابهم مقابل الحصول على بعض المال، ورغم الفقر فان العائلة المهاجرة لم تكن تشعر بالمرارة· اندماج وتمسك بالهوية تشير المؤلفة إلى أن الروس الفارين من الثورة البولشيفية قد اندمجوا في الحياة العامة بعد وصولهم إلى بنزرت وأصبح الكثير منهم يشتغل في أعمال مختلفة، والبعض منهم فضل الانتقال لتونس العاصمة سعيا وراء الرزق، كما تولى البعض منهم تدريس الموسيقى والرقص· وتؤكد انتستازيا ان الروس قاوموا مرارة الهجرة والاغتراب بتمسكهم بهويتهم الثقافية والحضارية، فالموسيقى مثلا كانت حصنا يحميهم من الذوبان، كما أن تمسكهم بالدين أعطى لحياتهم في الهجرة معنى· وتشرح أن الروس المهاجرين فقدوا كل شيء، حتى احترامهم لأنفسهم أحيانا، فاقتصرت اللحظات التي يسترجعون فيها كرامتهم على أوقات الصلاة· معلمة رياضيات درست الفتاة المهاجرة بجد وصنفت الاولى في امتحان البكالوريا (الثانوية العامة) على كامل البلاد التونسية· وبعد ذلك بدأت، وهي في السابعة عشرة من عمرها، تعطي دروسا خصوصية لأبناء الميسورين من الفرنسيين وهو ما مكنها من الحصول على قليل من المال، وما سمح لها بشراء بعض الكتب والملابس وادخار مبلغ بسيط آخر· وأصبحت أستاذة رياضيات ودرّست بالمعهد الثانوي ببنزرت الى أن بلغت سن التقاعد، وقد درس على يديها من أصبح وزيرا أو سفيرا، وتلامذتها هم اليوم من الكوادر العليا في الدولة· تزوجت أنتستازيا من روسي مهاجر مثلها وأنجبت منه ابنا عمره اليوم 71 عاما وابنتين استقر بهما المقام في فرنسا· وبعد وفاة والديها وزوجها، أصبحت اليوم هي المهاجرة الروسية الوحيدة الفارة من الثورة البولشيفية، التي بقيت على قيد الحياة في بنزرت، ولذلك فإن كتابها يعد وثيقة تاريخية هامة· العودة المتأخرة كان للتحقيق الذي بثه التلفزيون الروسي عن حكايتها عام 1989 أن منح المرأة المهاجرة شهرة واسعة في بلادها، وهي اليوم تتلقى مئات الرسائل من أبناء بلدها، كما يهطل عليها سيل من رسائل الروس الذين فقدوا بعض اقربائهم اثر الثورة البولشيفية، وعقدت أنتستازيا صلة متجددة مع أقربائها، ويتوافد على بيتها المتواضع في بنزرت عدد كبير من الروس للاستماع الى شهادتها·· تقول: ''مرت الاعوام ومات كل من هاجـــــر معي وحتى أسماءهم المنحوتة فوق قبـــــورهم قد أتى عليها الزمن ومحا بعض حروفها··'' وبعد ان كانت انتستازيا مصنفة في عهد الاتحاد السوفيتي ضمن ''الخونة للوطن'' أعيد اليها اعتبارها وتمت دعوتها لزيارة روسيا· بين أمتع فصول الكتاب ذلك الذي خصصته للحديث عن زيارتها لبلدها، وهي الزيارة التي استمرت شهرا بعد هجرة وغربة استغرقت 67 عاما· ففي عهد الرئيس االسوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف حصل انفتاح في روسيا وسمح لأنستازيا بالعودة الى المنزل الذي ولدت به والذي اصبح اليوم مدرسة· قالت لها مديرة المدرسة وهي تستقبلها بالورود: ''أدخلي فانت في بيتك''· لقد جاء هذا الفصل كانه قصيدة شعرية امتزج فيها الحب بالالم·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©