الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بليلة من آذار ·· انغلاقـات الجسد بالموت

بليلة من آذار ·· انغلاقـات الجسد بالموت
6 ديسمبر 2007 04:20
راقصة، لاعب إيقاعات، وسينوغرافيا تحيط بهما· الجسد المأسور بالظل، الظل المأسور بالضوء، الضوء المأسور بالمكان، والمكان المأسور بالحرب· هذا هو الانطباع الأول الذي تخرج به من العرض الذي قدمه لنا ثنائي ''خوخ'' المؤلف من خلود ياسين رقصاً وخالد ياسين على الإيقاع· العرض المعنون ''بليلة من آذار'' والذي قدم على مسرح مونو في بيروت، يحاول أن يطرح تساؤلات عن قيمة الجسد في مكان محاط بالموت، محاط بالحرب· هكذا يقدم العرض نفسه من خلال بطاقة التعريف الموزعة قبل الدخول· يكتسي العرض شكل الرقص المعاصر، المرافق بإيقاعات شرقية· ويقترح لنفسه زمناً هو زمن الحرب· تلفتنا السينوغرافيا التي عمل عليها فادي يانيتورك· هذه السينوغرافيا التي تعمل لاكساب المكان طابعاً قاتماً وضيقاً لدرجة أنه يضفي هذا الضيق على داخل المشاهد· الرقص والموت لا نعلم أين تدخل الحرب، لكنك تحس بها تحيط بك في هذا المكان الذي يشبه الملجأ· تدخل إلى صالة العرض الصغيرة ''عشرة أمتار طولاً، وثلاثة أمتار عرضاً''، فتحس بأنك تلتصق بالجدار· تتذكر أيام القصف، أيام النزول إلى الملاجئ، ها أنت محبوس هنا قرب الجدار مع أربعة وعشرين مشاهداً في مساحة ضيقة· تختار السينوغرافيا أن تضيّق المساحة عليك أكثر فتسدل الستار عليك مباشرة على بعد أقل من متر واحد عن عيونك· أنت الآن محتجز في مكان لا تتجاوز مساحته المترين المربعين، مع عشرة من المشاهدين الآخرين· يقترح عليك العرض أن تستمع إلى تسجيل صوتي قبل البدء بالعرض· التسجيل هو عبارة عن مونولوغ لفتاة تتكلم عن حياتها الخاصة، عن شعورها بالضيق، عن شكوك معينة حول جسدها، حول رغباتها، وحول قدراتها· ثم يرفع الستار عن لاعب إيقاع، وراقصة، وظليهما· في هذا المكان الضيق أكثر ما يثير انتباهك هو النور·· النور الذي يصنع ظلاً، الظل الذي يخفي النور· على إيقاعات شرقية تحاول الراقصة أن تتمايل فتبدو أنها مكبلة· تلك هي الفرضية الفنية التي يبنى عليها العمل: القدرة أو عدم القدرة على التعبير عن الجسد في هذا المكان الضيق· هنا نستدرك أن ضيق المكان لا يقتصر على المساحة، والاكتظاظ فيها، بل هو ذلك الإحساس الداخلي بالضيق· أجساد الحرب تطرح بطاقة التعريف المرافقة للعرض سؤالاً: ''أي أجسادٍ تنتجها الحرب؟ هل نختارها أم تختارنا؟'' ذلك تساؤلُ في مكانه، ويبدي ترابطاً أساسياً مع العرض·· إلا أن العرض لا يتبنى الإجابة عنه فيكتفي بطرحه·· يمكننا أن نقرأ السؤال على الورقة، ثم نشاهد العارضين ''الموسيقي والراقصة'' يقومان بأداءٍ تفسيري لهذا السؤال، الأمر لا يتجاوز هذا الحد·· نشاهد تباعاً انقلابات المزاج الراقص بين السعادة، الحزن، الخوف، الكبت، الاختباء، الإغراء، والاشتهاء الجسدي··· كما نسمع هذه التقلبات المزاجية من خلال الإيقاع، إلا أن أكثر ما يلفت هو الاصرار على عدم القدرة عن التعبير الصريح· نشاهد الحركات المقطعة، نشاهد الجسد يقاوم حركاته، لكن من غير ألم· هو اعتياد على عدم التعبير، هو اعتياد على غياب الجسد إذاً· يقدم العرض لنا جسداً غير قادر، غير قادر على إجادة التحرك، هو جسد يقاوم نفسه، يقاوم تعبيره عن نفسه· هو جسد سجين نفسه· ''بليلة من آذار'' يقدم لنا جسداً مأسوراً، جسدا مسجونا داخل مخاوفه· العرض يعمل كشاهد على واقع الأسر الذي يحكم أجسادنا نحن الخائفين من الموت الآتي على صهوة الحرب· ليؤرخ لنا للزمن الذي يصبح فيه الظل أكثر حضوراً من الجسد، عندما تصبح العتمة أكثر إشراقاً من النور· هذا ما يولده لنا النص البصري، والسمعي الذي يقدمه لنا العرض· هو نصٌ يدعي إلى التساؤل، ويكتفي به· إلا أنه لا يدرك أن يسائل نفسه عن حاله، عندما يطرح السؤال عن الجسد المأسور ينسى أنه هو المعني بهذا الأسر· يكتفي العرض في هذا المكان بالتوثيق للأسر، بتاريخه، ليلعب لعبة المراقب الغير معني باتخاذ موقف· هنا تصبح الشهادة شهادة زور· عندما يكون المأسور هو نفسه المؤرخ، ويدعي التأريخ المحايد، تكون تلك شهادة زور· فالمأسور إما مستسلمٌ وإما ثائر على أسره· لكن العرض الذي نحن بصدده هنا يبتعد عن كلا الخيارين متملصاً من المسؤولية، هارباً من الإجابة، مرتدياً ثوب السائل عن حالة الجسد، في حين أنه هو المعني الأول في الإفصاح عن أسره، في فضح آسريه، أو في الاستسلام لهم· لهذا يأتي العرض فاتراً، لا يحمل إيجاباً ولا سلباً، هو عرضٌ غير معنيٍّ بقضيته، هم مشاهدون غير معنيين بالعرض·
المصدر: بيروت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©