الكتابة وفتنة الجنون

''أعتقد أن الخوف من التوغّل في ليل الجنون هو ما يرغمني على الكتابة''· هكذا حدّد جورج باطاي موقفه من الكتابة وما يطلبه منها· عاش جورج باطاي طيلة حياته مأخوذاً بفكرة الجنون، كان من هؤلاء الناس الذين يقيمون على الحافة بالضبط، خطوة واحدة ويتلقّفه ليل الجنون· لم يكن الجنون مجرّد هوس بالنسبة إليه، بل كان قدرا رافقه العمر كلّه· منذ ولادته يوم 10 أيلول 1897 بمدينة بيلوم الفرنسية تراءت قدّامه ظلال الجنون وحشية مروّعة· فلقد كان والده مصاباً بالعمى وبالسيفلس، وسرعان ما عصف الشلل بساقيه وأقعده ثم تخطّفه الجنون· هكذا كان اللقاء الأول مع الجنون فجائياً عاصفاً· هذا الأب الأعمى المقعد المجنون وما كان يأتيه من فعال سيفتح عيني الطفل على الويلات ويغرس فيه انجذاباً حادّاً نحو النهايات والأقاصي· وستلقي هذه المحنة المبكّرة بظلالها على معظم مؤلفاته منذ كتاب ''تاريخ العين'' الذي أصدره سنة 1928 إلى كتاب ''أمّي'' الصادر سنة ·1966 مرّة أخرى سيكون الجنون بانتظار باطاي إذ حالما اطلع على نيتشه عشق مؤلفاته ورأى فيه قدر العبقرية حين يجتذبها الجنون· ولم يكن جنون نيتشة دون مخلفات لقد عمّق إحساس باطاي بأن حياته ليست سوى رحيل ممضّ بمحاذاة الجنون· لذلك كتب: ''لست فيلسوفا، بل أنا قدّيس، وربما أنا شخص مجنون''· هذا الاعتراف لن يمرّ دون أن يتلقّفه الخصوم العيابون الطاعنون الذين جحدوا فضل باطاي رغماً عن كونه أثرى المكتبة العالمية بالعديد من المؤلفات· وإنه لأمر مذهل أن يتزعّم اثنان من ألمع مثقفي فرنسا الحملة ضدّ باطاي· كان أندريه بروتون زعيم السورياليين أوّل من قاد حملة الجحود سنة 1929 في البيان الثاني للحركة السوريالية فكال إليه أشنع النعوت واتهمه بالجنون والانحراف والوضاعة والخسة· وسيكون جون بول سارتر قائد الحملة الثانية· كتب سارتر سنة 1943 مقالاً ساخراً بعنوان ''صوفي جديد'' نعت فيه باطاي بأنه مجنون، مجذوب مصاب بداء العظمة· وختم مقاله قائلاً إن باطاي ''لا يرجى شفاؤه وحالته من اختصاص الطب النفساني·'' واضح أن هذا الإصرار على الزجّ بباطاي في عداد المجانين مردّه التحاسد، لأن الناظر في رواياته ومؤلفاته، يدرك في يسر أنه قد دفع العقل إلى النهايات وأوقف الفكر في حضرة مستحيلاته وغزا مناطق اللامفكر فيه· كان فكره رحيلاً مدوّخاً بين هاويتين: الموت والأيروسية· هذا في رأيي ما سيجعل الكتاب والفلاسفة الجدد من أمثال فيليب سولاريس وميشال فوكو يمجّدونه ويعدّون مؤلفاته طريقا مؤدية· كتب ميشال فوكو: ''نحن اليوم على بيّنة من أن باطاي أحد أهم كتاب هذا القرن''· أما مارغريت ديراس فكتبت قبل موت باطاي بسنوات: ''يصاب النقد بالوجل لمجرّد ذكر اسم جورج باطاي· ستمرّ السنون، ويواصل البشر حياتهم واهمين أنهم سيتمكنون يوماً ما من الكلام عن باطاي، لكنهم سيموتون قبل أن يجرؤوا على فعل ذلك خوفاً على سمعتهم من مواجهة هذا الثور''·