السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البساطة والتعقيد

البساطة والتعقيد
12 ديسمبر 2007 23:23
أسعدتني ''الاتحاد'' بدعوتي لكتابة زاوية أسبوعية في الملحق الثقافي، كنت دائما أخشى من الالتزام بكتابة دورية منتظمة، مع أني أعشق التواصل الجمالي الممتع مع القراء في مواقيت معلومة· فقد تربيت على مقالات أحمد حسن الزيات وطه حسين والرافعي وزكي مبارك في الأعداد التي كان جدي يحتفظ بها من الرسالة القديمة، وأدركت مقالات مندور ولويس عوض في مطلع الشباب، وسحرني كل منهم بعالمه الذي يتراوح بين الجدية والمرح، والتألق أو البساطة الفاتنة· لكن تجربتي في الكتابة، بعد أن اكتملت أدواتي الموهومة، وفى مقدمتها لقب ''دكتور'' كانت أليمة، إذ وجدت نفسي مغروسا في بؤرة التنظير لتيارات البنيوية وما بعدها، بما يتطلبه ذلك من عرض الكشوف المعرفية، ومعاناة الصياغة الاصطلاحية، وممارسة عملية لتجديد أسلوب النقد وتحديث لغته، بحيث يبعد بالضرورة عن الكتابة التلقائية الممتعة، ويحرم من لذة البوح الشخصي الحميم، التماسا للدقة المنهجية والصرامة العلمية· كان طلابي في الجامعة هم أول نقادي المتضررين، دائما تتعالى شكاياتهم من لغة الكتاب الذي أقرره عليهم ويجمعون على عدم فهمه، كنت أعرف أنني أشقّ عليهم بهذه المناهج والنظريات التي لم يألفوها من قبل، وأبذل جهدا مستميتا في تبسيطها لهم وتذويبها في شكل مستساغ، مما يخلق مفارقة حادة بين المستويين· فتشتد حاجتي إلى جسر للتواصل بينهما· وجاءت مشاركتي في تأسيس مجلة ''فصول'' للنقد الأدبي مطلع الثمانينات مع الصديقين، المرحوم عز الدين إسماعيل والعزيز جابر عصفور، لتقدم لي فرصة ذهبية، أنشأت فيها بابا بعنوان ''تجربة نقدية'' خصصته للمطارحات التطبيقية، ونشرت في أول عدد بحثا بعنوان ''إنتاج الدلالة في شعر أمل دنقل'' كان شاعرا محرما ذكره في جميع وسائل الإعلام المصرية حينئذ لقصيدته الصارخة ''لا تصالح'' لكنني أفسدت المقال بمقدمة نظرية لم يفهمها أمل نفسه فلم يتحمس للدراسة، وظلت هذه عاداتي السيئة في تعويق التفاهم الحر مع القراء في المجالات المتخصصة والعامة، حتى دعيت في التسعينات للكتابة في مجلة ''المصور'' القاهرية، فحلّت عقدة لغتي نسبيا، وأخذت أداعب القراء بمقالات نقدية مفهومة وإن كان مجال انتشارها محدودا، فلما دعيت للأهرام تذكرت موقف يحيى حقي الذي رفض الكتابة فيه لأنه ''ملقف'' ملقى في جميع الطرقات وهو يبغي ''الستر'' في صحيفة محدودة الانتشار، لكني لم أجد مناصا من حسم اختياراتي الأسلوبية، أخذ القراء يتوسطون بيني وبين الكلمات والصياغات، اشتد اهتمامي بآليات التواصل الجمالي وقابلية الفهم، وكنت كلما سألت بعض أقربائي من المتعلمين عما يفهمونه من مقالي يرددون ''كلامك حلو لكننا لا نفهمه'' فأجتهد في اجتياز الفجوة بين الجمال والبساطة· أعادتني الصحافة إلى لذة القراءة التي كنت أمارسها مع شيوخي الأوائل، لكن ظلت المعادلة الصعبة التي تؤرقني هي كيفية الجمع بين روح المنهج العلمي الدقيق وحرية الممارسة الشيقّة للكتابة الأدبية عن الأدب ذاته، بشعره وسرده وفنونه الجديدة، كتابة تكون الوجه الآخر للقراءة الحرة، تنبثق وتحتكم إليها، ترى هل تنجح هذه المحاولات؟ لكم كامل الحرية في القراءة والحكم·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©