الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مديح السينما الداكنة

مديح السينما الداكنة
12 ديسمبر 2007 23:30
بالنسبة لمخرج ذي مراس وحنكة وهاجس إبداعي متواصل مثل ستيفن سودربيرج صاحب الفيلم الشهير: ''تهريب'' traffic فإن التعامل مع اللونين المحايدين الأبيض والأسود، يمكن أن يتحول إلى عقدة سينمائية إذا صح التعبير، فبعد إخفاق فيلم ''كافكا'' الذي صوره بالأبيض والأسود في بدايات توليه دفة الإخراج ـ العام 1991 تحديدا ـ وبعد تحقيقه لفيلم مدوّخ أثار انتباه الجمهور والنقاد الأوربيين قبل الأمريكيين العام ،1989 ونقصد به فيلم ''جنس وأكاذيب وشريط فيديو''sex, lies, and videotape فإن الخروج بصيغة إخراجية مناسبة لفيلم ''الألماني الطيب'' ذي الأجواء الكآبية والمعبرة بقوة عن زمن الأربعينيات من القرن الماضي، يمكن أن يتحول إلى مصيدة بصرية وفخ تقني، رغم كل التاريخ الإخراجي اللامع لسودربيرج المشهور بالتنويع في مواضيعه السينمائية· إنزال درامي التحدي الذي جابهه المخرج بثقة هذه المرة، تمثل في الضرورة الجمالية والأمانة البصرية لأجواء السينما الوثائقية والحربية المرافقة لصورة برلين المهدمة وسط خرائب النازية وأطلالها، فبعد سقوط الرايخ الثالث وانطفاء أسطورة هتلر وإلى الأبد، كان لابد للوليمة السياسية أن تتوزع بين الحلفاء الثلاثة: بريطانيا وأمريكا وروسيا، ومن هذه المحطة بالذات يبدأ فيلم ''الألماني الطيب'' بإنزال درامي أشبه بومضات تسجيلية في المدينة الداكنة، أو في الأرض الحرام، كما كان يطلق على برلين في ذلك العهد· يكتشف المتفرج مع اللقطات الاستهلالية للفيلم أنه واقع تحت تأثير ''خبرة مشاهدة'' أكثر من كونه موعودا بفيلم كلاسيكي عن الجاسوسية أو عالم الاستخبارات الغامض، كما الأفلام الراسخة تاريخيا في هذا الاتجاه مثل ''كازابلانكا'' أو ''الرجل الثالث'' المقتبس من رواية شهيرة لغراهام غرين، هذا الشعور بالريبة في التعامل مع الطبيعة الوثائقية لفيلم ''الألماني الطيب'' يعززه النسق البصري فيه، فمع استخدام كاميرات لم تعد موجودة سوى في متاحف السينما، فإن التعاطي مع الصورة يأخذ شكل الانتباه لقدرات المخرج والممثلين، عوضا عن الاستغراق في الحبكة والتماهي مع سرديات القصة· حنين للماضي التقني عندما يستخدم المخرج الكاميرات نفسها المستخدمة في حقبة الأربعينات، فهذا يعني اعتماده المطلق على العدسات الثابتة، وانتفاء أي أمل في تقنيات التقريب والتباعد (الزوم إن، والزوم آوت)، كما ستظل الميكروفونات معلقة على رؤوس الممثلين، ، بالإضافة إلى الغياب التام للجرافيك والخدع البصرية، تحديات مثل هذه ستعني أمرين لا ثالث لهما: إما أن المخرج مسكون بهاجس حنيني للسينما البائدة، أو أنه مغرم بوثائقيات الحرب وما يعتمل فيها من بروباغندا عسكرية ومشاهد سينمائية متخلصة تماما من تبعات السينما المعاصرة، بما تحمله هذه من عناصر إبهار وجذب وتوابل بصرية مقحمة، إنه حلم السينما الخالصة لكل مخرج معاصر ما زال يرزح تحت شروط السينما التجارية ومناخاتها الملوثة بالتغييب والهدر والترفيه الجماهيري· مزارات الحب والذاكرة يبدأ فيلم ''الألماني الطيب'' مع لحظة وصول الصحفي الأمريكي جيك غيسمر (يقوم بدوره جورج كلوني) إلى برلين لتغطية مؤتمر بوتسدام الذي عقده الحلفاء بعد سقوط ألمانيا وجلاء كوابيس الحرب العالمية الثانية عنها، وذلك لتقرير مصيرها وسط أوروبا الجديدة والمطهرة من الإرث النازي والفاشستي، ونكتشف في سياق الفيلم أن زيارة الصحفي هي الثانية لبرلين بعد أن عمل فيها كمراسل قبل اندلاع الحرب، وأن ما يراه حوله من صور الحطام والدمار شكلت في فيما مضى صورا زاهية للذاكرة، ومزارات بهية للحب، خصوصا بعد علاقة حميمة عاشها مع سكرتيرته الألمانية لينا براندت (تقوم بدورها كيت بلانشيت)· عندما يصل غيسمر للمطار يتلقفه السائق تولي (يقوم بدوره توبي ماغواير)، يقوده هذا السائق إلى القطاع الأمريكي من برلين، ومع مرور المشاهد الأولى للفيلم نكتشف مدى فساد ووصولية هذا السائق القادر على بيع نفسه وأصدقائه من أجل المال، ففي وسط عسكري ممزق ومهدور بين الأمريكيين والبريطانيين والروس، تتحول برلين فجأة إلى مدينة رخيصة ومنذورة للجشع الذاتي والخلاص الفردي، فعشيقة غيسمر السابقة تتحول إلى بائعة هوى، ويتلقفها السائق تولي كي يصل من خلالها إلى زوجها (براندت) الهارب من الروس والأمريكان معا، خصوصا وأن هذا الزوج يحمل أسرارا خطيرة حول المعتقل الرهيب في مناجم (دورا)، وهي المناجم ذاتها التي شهدت تجارب بشرية وفظائع دامية، ذهب ضحيتها 3000 شخص من أجل القنبلة التي اخترعها وأشرف عليها العالم الألماني فرانز بيتمان وهي ذات القنبلة التي أسقطتها طائرات الرايخ (بي2) بعد ذلك فوق العاصمة البريطانية لندن، فالروس يريدون العثور على الزوج الذي عمل سكرتيرا لدى بيتمان كي يصلوا لسر القنبلة، أما الأمريكان فيريدون ترحيل بيتمان إلى أمريكا والاستفادة من خبراته العسكرية، ولن يحدث ذلك إلا بتصفية السكرتير حتى لا يشي بخبير القنابل فيقع تحت رحمة المحاكمة المنتظرة لمجرمي الحرب النازيين· وعندما يوشك السائق (تولي) على الوصول إلى السكرتير (براندت) وتسليمه إلى الروس مقابل مائتي ألف مارك، يقوم الأمريكان بتصفيته جسديا وإيهام الجميع بأن الروس هم الذين قتلوه، وعندما يكتشف الصحفي غيسمر خيوط هذه المؤامرة، يسعى جاهدا لتهريب السكرتير وزوجته إلى القطاع البريطاني من برلين، وبعد اكتشاف المخابرات الأمريكية لخطة التهريب تقتل السكرتير وبدم بارد قبيل دخوله معبر الخلاص· الشحنة التعبيرية عموما فإن فيلم ''الألماني الطيب'' يخاطب ومن خلال ثيماته البصرية الداكنة تلك الاستحقاقات البشرية الدفينة والموزعة بين الشر كدالة مهيمنة (بكسر الميم)، وبين الخير كدالة مضطهَدة (بفتح الهاء)، وهي دوال تنتقل وتتناوب وتتبدل حسب الظروف السياسية وانهيار القيم في الأزمات الكبرى، ورغم أن سودربيرج استطاع في هذا الفيلم أن يوثق للخراب الإنساني، وأن يميط اللثام عن الوجه القبيح للحرب، إلا أنه استطاع أيضا أن يصل لمشارف السينما النقية من خلال الأداء التعبيري الفاره لممثليه جورج كلوني، وكيت بلانشيت، فكلوني الذي يعشق هذا اللون من الأداء الصارم، وينتصر للسينما المتوهجة والعريقة، رأيناه وهو يتولى عملية إخراج فيلم ''ليلة سعيدة ، حظ سعيد'' الذي يقارب ''الألماني الطيب'' من ناحية تقنيات التصوير والانتصار للشحنة التعبيرية على حساب الإبهار البصري، كما أن بصماته الأدائية تذكرنا بالراحل الكبير همفري بوجارت، أما كيت بلانشيت التي ذكرتنا بأداء الراحلة الفذة أنجريد بيرجمان فقد وفقت تماما في التعبير عن حياة المرأة الممزقة بين عاطفتها الأنثوية الأصيلة وبين العالم الخارجي المعقد والشرس والملوث بقهر السياسية وعنف الذكورة، استطاعت (بلانشيت) أن تضفي على الفيلم جوا خاصا من الرومانسية المعذبة، والجامعة بين الرقة والدهاء، وبين الإغواء والانتقام، تناقضات قد تبدو متباعدة ظاهريا، ولكنها في العمق، ومن خلال أداء مبهر، من بلانشيت تبدو وكأنها في وفاق أبدي ورباط المقدس·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©