الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كتاب الألفية الثانية

كتاب الألفية الثانية
16 فبراير 2012
“إن هذا البحث وإن أسخط قوما، وشقَّ على آخرين، فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين، الذين هم في حقيقة الأمر عدّة المستقبل، وقوام النهضة الحديثة، وذخر الأدب الجديد.. والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر، وهي إلى الثورة الأدبية أقرب منها إلى أي شيء آخر، وحسبك أنهم يشكون في ماكان الناس يرونه يقينا، وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه”. من تمهيد طه حسين لكتابه “في الشعر الجاهلي” في طبعته الأولى. حين حظي كتاب طه حسين “في الشعر الجاهلي” بالمرتبة الأولى في استفتاء موسع أجرته الصفحة الثقافية في جريدة عربية عام 2000 حول الكتب المثيرة في الألفية الثانية والقرن العشرين لم يكن ذلك مفاجئا بالاحتكام لخطورة أطروحة طه حسين واحتكاكه بواحد من ثوابت الثقافة العربية والنظريات الشعرية السائدة. وتدلنا تلك الفقرات المختارة من تمهيد طه حسين لكتابه “في الشعر الجاهلي” 1926، على ما يمكن أن نعده الهدف المعلن لمشروعه الفكري والمشغّل الفاعل في ما طرح من أفكار بصدد صحة الشعر الجاهلي، وفي تاريخه على وجه الدقة. إذ لم تكن نظريات النص قد شاعت في حينه ما جعل محور المشروع هو تاريخ الشعر لا نصوصه، وإن كانت الاستعانة اللاحقة بها في البحث تبدو محاكمة نصية، لكنها في حقيقة الأمر ترد في سياق جدلي تابع للمناقشة التاريخية التي يواصل فيها طه حسين مشروع الرعيل الأول من المستشرقين وما أبدوه من آراء حول الشعر الجاهلي خاصة وأعلامه من الشعراء والرواة وحقيقة وجوده في بيئة شفاهية كالتي قيل ـ وانتشر ـ فيها. الفعل ورد الفعل لكن الجديد في مشروع طه حسين كامن في (الطريقة) التي اقترحها لدراسة الشعر الجاهلي والبحث فيه. وهذا يفسر رد الفعل الذي قوبل به الكتاب والمحاكمة التي جرت للمؤلف وما جرى من تنقيح له بعد صدوره لاحقا بعنوان جديد هو “في الأدب الجاهلي” متخلصا من النقاط الاربع التي سجلت ضده في المحاكمة والتي يتصل أغلبها بالموقف من قضايا تاريخية ودينية لا حول الأطروحة ذاتها. ولقد كانت محاكمة طه حسين من أشهر محاكمات الرأي والفكر في تاريخنا الثقافي المعاصر. ويبدو من قراءة محاضرها ان طه حسين كان متأففا وضجرا من الاستجواب وغلبت على إجاباته عبارات رخوة غير مؤكدة مثل: هذا فرض وليس من السهل إثباته، وما أظن ذلك.. وهذا يعني بتأويل الملفوظ أن المؤلف كان مفتونا بمنهج أو طريقة أراد بها تغيير الرؤية التي يتعامل بها الدارسون لقضايا الأدب وفنونه. كما يراهن على أن عمله سيسهم في إنجاز تلك المهمة التي جاءت في سياق تنويري شاع في الثلث الأول من القرن الماضي، وكان ثمرة اطلاعه شخصيا على الدراسات الحديثة في الغرب ومناهج الفلسفة والتاريخ خاصة. وبعودة إلى المقتطف الذي انتزعناه من تمهيده للكتاب نجده يشير إلى مفردات دالة على الإطار الثوري لمشروعه، كذكره للمستنيرين كمتلقين معاضدين للبحث، والمستقبل الذي يدخرهم له، ووصفه النهضة بالحداثة والأدب بالجدة، بل يصل في فقرة لاحقة إلى الرهان على نتائج اتخاذ ذلك المذهب في البحث ويصفها بأنها إلى الثورة الادبية أقرب. وقد فات ذلك الكثير من مناقشيه ومجادليه وشاكيه للمحاكم، فقد جهدوا بعيدا عن الهدف الثوري لعمله في استقصاء زلاته التاريخية أو حدوسه وافتراضاته التي لم يكن يهتم بها كثيرا قدر اهتمامه باقتراح (الطريقة) التي يريد لها أن تشيع في دراسة الشعر وتاريخه والحقائق المتوارثة التي دأب الدارسون على ترديدها دون رأي أو نقاش. إذا كانت الطريقة هي المنهج المتبع في البحث عادة، فيمكن القول إن طه حسين اجترحها من مصدرين او مرجعين مهمين هما: 1 ـ فكر العلامة ابن خلدون في مقدمته حين اعترض على طريقة المؤرخين في سرد التاريخ واعتبرهم مدونين للأحداث لا مؤولين لمغازيها ودلالاتها وعِللها قبل ذلك. وهو مرجع لم يشر إليه المؤلف صراحة لكن تاكيده على طريقة البحث والاستنتاج وإعمال العقل تؤكد تأثره بكاتب كان له حصة كبيرة في جهده الأكاديمي حيث درس الفكر الخلدوني في إحدى مراحله بباريس وبإشراف عالم اجتماع شهير هو دوركهايم. ولعل هذا يفسر الجانب الاجتماعي في الحِجاج الذي أورده في بحثه وكذلك تأكيده على طريقة التعامل مع ما هو مستقر من الحقائق بصدد شعر العصر الجاهلي وشعرائه. 2 ـ منهج رينيه ديكارت الذي صرح الكاتب بأنه كان وراء تفكيره في مناقشة قضية الشعر الجاهلي، وهو منهج يفهم منه طه حسين مبدأ الشك بالحقائق السابقة على اي بحث “وأن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما” كما يقول، مركزا على مبدا الشك كطريق لليقين. وهو ما شغل ديكارت وبيكون وتعدل على يدي كانْت، ولكن طه حسين ـ وهذا مبعث نقد الكثيرين لمشروعه ـ لم يعدَّ الشك لحظة منهجية تكتيكية أو افتراضية كما أرادها ديكارت، بل صارت لديه غاية مهمة في مركز الطريقة أو منهج البحث، ولعل هيمنة الشك كإجراء وآلية بحث على فكر طه حسين تبدو واضحة في كثرة ترديده لهذه المفردة حتى في سياق الحديث عن مسلمات أو حقائق يراها هو؛ فيصدر الحديث عنها بالقول “ما من شك في..”، وأحسب أن الفرق كبير بين جعل الشك وسيلة للوصول إلى اليقين والحقيقة، وبين اعتبارها غاية كما فعل طه حسين ورتب عليها إنكار جاهلية الشعر الجاهلي وإنكار وجود شعرائه أيضا. مسألة الانتحال ولا بد لنا في إطار المرجعيات أن نذكر عنصرا آخر له في أطروحته أثر بيّن لم يسمّه، وهو توصلات أساتذته ومن قرأ لهم من جيل المستشرقين الأوائل وتركيزهم على قضية الانتحال في الشعر الجاهلي، وتعدد أسبابه وكيفياته وشكهم في ذمة الرواة أحيانا، وفي ذاكراتهم التي كانت سبيلا لجمع وتدوين الشعر القديم في عصر متأخر عن قوله، وأثيرت القضية طويلا في سياق نظريات المشافهة والكتابة، وما يتداعى من النظم الشفوي والرواية والنقل من اختلاطات مقصودة أو غير مقصودة. ويشير طه حسين إلى الانتحال كواحد من أسباب الشك بجاهلية الشعر الجاهلي، ويرى أن العرب شأن غيرهم من الأمم عانوا من الانتحال ونسبة النصوص إلى غير قائليها او الزيادة فيها وتغييرها، ومن أسباب الشك الأخرى يورد طه حسين العامل السياسي واختلاف العرب والمسلمين بصدد الحكم وتناحرهم وتوزعهم في شيع وأحزاب لها أعلامها وشعرها ومبرراتها التي لا تتوانى عن اختلاقها في النصوص القديمة لدعم موقفها ورؤيتها. ويورد في فصل خاص العامل الديني وهو ما أثار المتزمتين حول أطروحته ورأى فيه سببا في اختلاق بعض النصوص لتعضيد فكر ديني أو مذهبي على حساب سواه، بل لتأكيد رأي فقهي او حكم ما ، كما اعطى للقصاص والرواة دورا في انتحال الشعر وادعائه ونسبته لغير قائله لأنهم امتهنوا الشعر وسيلة للكسب. وكذلك النحاة الذين يريدون تأصيل ظاهرة لغوية أو إعرابية فيصطنعون الشواهد وينظمونها بكونها قد قيلت زمن فصاحة العرب في جاهليتهم. أما المفسرون فيوردون الشعر الجاهلي لتغليب وجهة نظرهم وهو ما يراه طه حسين خطأ كبيرا. ويرى أن الشعر الجاهلي لا يصلح أن يُستشهد به على تفسير القرآن وتأويل الحديث؛ لأنه لا يمثل الحياة الجاهلية كما صورها القرآن بل يرى العكس، ويقترح تكرارا أن يُستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله. فهو في رأيه لا يصلح مرآة للحياة الجاهلية؛ لأنه مكتوب في عصر لاحق. ولا يعدم الأدلة اللغوية أيضا على هذا الرأي. وحين يناقش وجود شخصيات شعرية لها في الذاكرة الشعرية العربية موقع كبير كامرئ القيس وعمرو بن كلثوم وطرفة وغيرهم يصل إلى إنكارها لأسباب يوردها محتكما غالبا إلى حيواتهم وبيئاتهم التي لا يمكن أن يكتبوا اشعارهم فيها بالطريقة التي وصلت إلينا، وغياب المفردات الفاعلة في الحياة في شعرهم مستندا إلى ما بين لغة عدنان وقحطان من فرق، وإلى الأخبار التي وقع في تناقض معرفي حين جعلها مستندات نظرية وهو الذي يشكك في ما تجيء به الأخبار عنهم. ولا يخفى أن ثورة طه حسين المدفوعة بإغراء الشك الديكارتي جعلته يحول الكوجيتو من (أنا أفكر فأنا موجود) إلى (أنا أشك فأنا موجود)، وقد استبق حيثيات بحثه بإعلان نتائجه معبرا عن حالته أثناء كتابته بالقول: “إني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك”، لكنه يصف شكه في موضع لاحق بانه شك أدبي. وربما كان اختلاط منابع الشك مسألة معرفية مقلقة فالمصطلح والمفهموم مقترضان من حاضنة فلسفية ومجريان في حقل شعري ومستندان إلى هدف تنويري اجتماعي يرفض القناعات المتوارثة ويشجع على البحث الحر. لكن ذلك كله لاينفي عن الكتاب ريادته في الجرأة المطلوبة لتحريك ساكن القناعات وثابت المعتقدات وبالي الطرق والمناهج والرؤى. وهذا ماحدا بنا لأن نفتتح به هذه القراءات الاستعادية والاستذكارات لكتب مدوّية..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©