الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صورة متأخرة من داخل الستار الحديدي

صورة متأخرة من داخل الستار الحديدي
16 فبراير 2012
أهدى أحمد المستيري كتابه “شهادة للتاريخ” وهو عبارة عن ذكريات وتأمّلات وتعاليق حول فترة من التاريخ المعاصر لتونس والمغرب الكبير (1940 ـ 1990) وثورة 2010 ـ 2011، الى أرواح الشهداء والضحايا الأبرياء عند التصدي للغزو الاستعماري وأثناء معارك التحرير الوطني في مواجهة طغيان الحكام واستبدادهم، وأولئك الذين سقطوا إبان ثورة الشباب والكرامة في ديسمبر 2010 ويناير 2011. والمؤلف (87 عاما) هو محام ومناضل سياسي من الرعيل الأول، واضطلع في عهد حكم الحبيب بورقيبة بمناصب هامة في الدولة، فكان وزيرا للعدل وللدفاع وللداخلية والمالية، ثم سفيرا بمصر في عهد عبد الناصر، وبالجزائر في عهد احمد بن بلة، وكان ايضا سفيرا بالاتحاد السوفياتي ثم اصبح معارضا للحبيب بورقيبة وأسس حركة “الديمقراطيين الاشتراكيين” قبل ان ينسحب من الحياة السياسية طيلة فترة حكم زين العابدين بن علي. ويشير احمد المستيري في تنبيه للقراء بأنه حرّر هذا الكتاب عن تاريخ حياته باللغة العربية، فهي لغته الأصيلة والوطنية، ولكنه يضيف بأنه تعلم وتثقف باللغة الفرنسية التي صارت في الواقع لغة العمل والاتصال لعدد كبير من المواطنين في تونس والمغرب الكبير والقارة الافريقية، لذلك فكر بأن يضع بين يدي القراء نسخة من هذا الكتاب باللغة الفرنسية، على أن هذه النسخة ليست ترجمة حرفية وكاملة للنسخة الأصلية، والقراء المستعملين للغتين ادركوا أنه لا توجد فوارق بين النسختين في ما يخص سرد الوقائع والتعبير عن الأفكار، ويؤكد المؤلف انه فكّر طويلا وتردّد كثيرا قبل تأليف كتابه، نظرا للظروف الخاصة التي حفّت بانسحابه المبكر من الحياة السياسية أواخر القرن الماضي، وما اكتنف تلك الظروف من مختلف التضييقات والغياب الكامل لحرية التعبير، بالإضافة إلى شتى القيود المسلطة على وسائل النشر في البلاد التونسية. فكّر وتردد ثمّ أقدم على كتابة هذه “المذكّرات” قبل فوات الأوان، كما يقول، ولم يبق له أمل في الإشراف على نشرها حتى انه فكر في تركها من بعده لذريّته ومن يسميهم “أبنائه الروحيين” كي ينشروها في الوقت المناسب وبالشكل الذي يرونه حين يصبح الظرف سانحا. وقد أدرك المؤلف لمّا أخذ في سرد ذكرياته، كم أنّ هذا “الجنس من الأدب” عسير وكم أنّ تناوله يصطدم بالمخاطر، لا سيما لرجل سياسة مثله لم يحترف الكتابة، واكد انه شعر بشيء من الفزع عندما قرر ان يتوجّه إلى جمهور القرّاء قد يكون من بينهم معاصرون ومؤرّخون... وهكذا شرع المؤلف في الغوص في خضمّ ذكرياته ومخزون وثائقه الخاصّة، وأخذ يتساءل، في حيرة، عن قدرته على نقلها بأمانة وبالصورة المفيدة، للأجيال التي لم تعشها. لذلك سلك في الغالب طريق التسلسل التاريخي، إلاّ أنّه حاد في بعض الحالات مراعاة لمقتضيات العرض، ممّا دعاه إلى تصنيف أبواب هذا الكتاب حسب الفترات الزمنية وفي أحيان أخرى حسب الموضوع. وفي جميع الحالات، يجد القارئ، في سياق سرد الأحداث، ما به الحاجة، من تحاليل وتعاليق صدرت في وقتها أو عقبها إضافة إلى ما يرد في الهوامش من شروح وتعاليق ومعلومات عن بعض الشخصيات، أو الإشارة إلى الوثائق المدرجة ضمن ملاحق الكتاب. أما فيما يخصّ تصنيف الكتاب، فهو يشتمل على مقدّمة وثلاثة أقسام، ففي المقدّمة نبذة عن الوسط العائلي الذي نشأ فيه، وإطلالة على قسم من طفولته ونشأته وعهد الدراسة، وحياته المهنية وعن خطواته الأولى في الحياة العامّة، أما القسم الأول فقد خصصه للحديث عن عهد الحماية الفرنسية وكفاح التحرير الوطني، وفي القسم الثّاني تناول عهد الاستقلال وبناء الدولة والإصلاحات الأولى ومشاركته في الحكم كوزير وكسفير، ويشمل القسم الثّالث الفترة الممتدّة من 1971 إلى 1990 ونشاطه في المعارضة وبالخصوص على رأس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين. كما خصص المؤلف بابا للحديث عن علاقته بالحبيب بورقيبة، وفصلا آخر عن استقالته من الحكومة ثم رجوعه الى الحكم فخروجه منه. يوميات سفير وفتح المؤلف في الكتاب سجل ذكرياته كسفير في عديد البلدان، وقد تمت تسميته سفيرا بموسكو عام 1960، وهو يصف وصفا دقيقا ومفصلا ما عاشه ورآه، فقد غادر تونس في 11 اغسطس 1960 متّجها إلى موسكو، عبر باريس وزيوريخ وبراغ، ولا يغفل احمد المستيري عن ايراد حتى من جاء لتوديعه بالمطار من أعضاء الحكومة والسلك الدبلوماسي (ومن بينهم السفير السوفياتي الجديد). ولمّا نزل من الطائرة بمطار “فنوكوفو” بموسكو، كان الطقس باردا للغاية وهو بلباس الصيف، ونزل في فندق “أوكرانيا”، حيث قضى أسابيع في معالجة مشاكل السكن واللباس والتموين إلخ... وقد اصطحب معه، بالاضافة إلى الدبلوماسيين، الكتبة الإداريين والمترجمين وسائقي السيارات مع عائلاتهم، عملا بالنصائح التي تلقّاها من هنا وهناك، وقد تبيّن له في الواقع، أنّ البعض منها فيه شيء من المبالغة... ويجزم المؤلف ان النظام السوفياتي هو نظام “كلياني”، بوليسي وبيروقراطي، يسيطر على تصرّفاته هاجس الرّيبة من الأجانب والديبلوماسيين بالخصوص، لا سيما إن كانوا من الدّول الرأسمالية. ويضاف إلى ذلك أنّ الإقتصاد السوفياتي ونظام المجتمع السوفياتي يخضعان خضوعا كاملا إلى الدولة والحزب الشيوعي، ويقتضي ذلك أنّ الأسواق (باستثناء سوق “الكلكوز” حيث يبيع الفلاحون منتوجاتهم مباشرة إلى المستهلك بأسعار خيالية) والدكاكين والمحلات الصغيرة التي تبيع المبردات، كلّ ذلك تابع للدولة وكذلك أيضا بالنسبة للتشغيل، فإنّك ـ وفق ما جاء في الشهادة ـ لا تستطيع، إن كنت ديبلوماسيّا، أن تشغّل مواطنا سوفياتيّا خادما في البيت أو سائقا أوسكرتيرا على الآلة الراقنة إلاّ بالطرق الرسميّة المعتمدة للغرض. ويعطي الكتاب صورة دقيقة عن نمط حياة وعمل الديبلوماسيين في موسكو في الستينات من القرن الماضي، فبصورة عامة تخضع الجالية الأجنبية، من دبلوماسيين وصحافيين، إلى تراتيب خاصة سنتها السلطات السوفياتية منذ زمن، وكونت للغرض هيكلا خاصّا، معروفا ومشهورا، هو “أوبيديكا” تابعا لوزارة الخارجيّة، يلتجئ إليها الأجنبي، مثلا، إن أراد كراء محلّ للسكنى أو للشّغل أو شراء سيّارة سوفياتيّة أو توريد سيارة أجنبيّة، أو لإنتداب خادمة في البيت، أو للحصول على “تأشيرة خروج” من التراب السوفياتي، أو رخصة للسياحة خارج منطقة موسكو، أو لشراء تذكرة لمسرح “بولشوي”، أو لإقتناء بعض الموادّ المفقودة (والّتي تباع في المخزن الكبير “قوم”) أو لتوريد بعض المواد الغذائيّة ومواد التنظيف من الخارج، أو لحجز تذكرة سفر بالطائرة، أو لإنجاز خدمة بسيطة في البيت كإصلاح عطب في أنابيب المياه... إلى غير ذلك من الشؤون العاديّة اليومية.. ويشير الديبلوماسي والسياسي التونسي احمد المستيري إلى ان السلطات السوفياتيّة توجّه هذا الهيكل، بصورة إنتقائيّة، وهي تتكيّف في معاملاتها مع الرعايا وسفارات الدول، حسب طبيعة العلاقات بين الحكومة السوفييتيّة والحكومة المعنيّة والمناخ الذي يسودها، وقد يتغيّر... وفيما يخصّ سفارة تونس بموسكو، كانت معاملة “أوبيديكا” للسفير التونسي معاملة يصفها المؤلف بانها كانت طيّبة نسبيّا، وهو يذكر مثلا، لمّا طلب منها توفير عمارة للسّكنى وتركيز مكاتب السفارة، بقي ينتظر شهرين تقريبا وطاقم السفارة كله يقيم في الفندق مع عائلاتهم، وقد عيل صبرالسفير الجديد وفي حديث خاصّ مع سفير تايلاندا، تذمر له من وضعه، فضحك وقال له: “إنّك أسعد حظّا منّي، وماذا أقول أنا؟ وأنا أنتظر منذ عامين...”، ومن المعلوم انّ تايلاندا كانت عضو بارز في حلف CEATO الّذي تتزعّمه أميركا في جنوب شرق آسيا ... وتقول السلطات السوفييتيّة لمنتقديها إنّ مؤسّسة “أوبيديكا” مخصصة لخدمة الدبلوماسيين في تعاملهم مع النظام السوفياتي، كلّما اعترضتهم صعوبات، في شؤونهم الخاصّة، لا يجدونها في “الأنظمة الرأسماليّة”... ويشير المؤلف إلى انه وطاقم السفارة تحصلوا في آجال معقولة على محلات السكنى، وبالنسبة إلى السفارة (مقرّ إقامة السّفير والمكاتب) وضعت “أوبيديكا” على ذمّتهم، بعنوان ايجار لمدّة 99 سنة، بناية كبيرة، تحيط بها حديقة شاسعة، وتشتمل على مرافق متعدّدة، ومستودعات للسيارات. شهادة للتاريخ والمطالع للكتاب يجد فيه تفاصيل كثيرة وجزئيات تفيد القراء والمؤرخين عن المجتمع السوفييتي في تلك الفترة الهامة من التاريخ المعاصر، فالكاتب بصفته شاهد عيان يشير إلى أنه ورغم حاجز اللغة والحواجز الأخرى الّتي وضعها النظام قصدا، فانه ادرك وفهم كل ما يدور حوله، وهو يلح على الصعوبات التي كان يواجهها كلّ أجنبيّ يرغب في ربط أيّ علاقة شخصيّة مع أيّ فرد من ذاك المجتمع، بما فيه اللّذين يتعاملون مع السفارة التونسية ، بحكم وظيفتهم أو مهنتهم، مثل السائق وخدمة البيوت والكتبة والاداريين الرّوس الّذين يشتغلون في السفارة. ويكونون وجوبا من أعوان المخابرات السوفياتية “ك. ج. ب” (K.G.B) وهم مطالبون ـ كما بلغ للمؤلف ـ بتقديم تقارير إلى رؤسائهم، يوميّا في بعض الأحيان، أمّا الموظّفون والمسؤولون السياسيون، فعندما يلتقون به، يحضرون وجوبا المترجم (وهو عون من ال”ك. ج. ب.” ولو كانوا يتقنون اللّغة العربيّة أو الفرنسيّة، وحتّى لو كانوا من رتبة وزير مساعد أو مدير عام بوزارة الخارجيّة (ولا يتردّد أحيانا، في مقاطعة المترجم لتصويب عبارة خاطئة)، والسوفياتي ـ وفق ما جاء في هذه المذكرات ـ لا يدعوك أبدا إلى الغداء أوالعشاء في بيته، إنّما يدعوك إلى مطعم أو إلى محلّ تابع للدولة. والدبلوماسي أو الصحافي الأجنبي الذي يتكلّم باللّغة الرّوسيّة، يخضع وجوبا لرقابة خاصّة ليلا ونهارا، وإن هو أفرط في الاختلاط بالمواطنين السوفيات، يتعرّض إلى “استفزاز” بوليسي (سهرة مجون، أو إتّجار في المخدّرات أو في العملة الصّعبة) لايجاد تعلّة لطرده من الاتّحاد السوفييتي. وكلّ ذلك لم يمنع المؤلف من التعرّف على المجتمع السوفياتي في الشوارع والمحال العموميّة ومن خلال الأعوان العاملين في السّفارة، وهم أناس ـ كما يصفهم السفير سابقا ـ طيّبون في مجمعهم يشبهون في سلوكهم مجتمعات البحر الأبيض المتوسّط، يحبّون اللّهو والموسيقى والرّقص، ويفرحون بملاقاة الأجنبي.. ويعلل المؤلف هذه الطباع بما عانوا منه طيلة سنوات الحرب، وقد مات منهم أكثر من عشرين مليونا. وفي عهد ستالين وجبروته، عاشوا ـ ولازالوا وقتها يعيشون ـ ظروفا قاسية في الملبس والمأكل والسّكن (باستثناء الطبقة المحظوظة “النومنكلاطورة” (Nomenklattura) التي لها العمارات السّكنيّة والمحلات التّجاريّة والمصحّات الخاصّة بها) . ولاحظ المؤلف بان السوفييتيين العاديين كانوا وقتها يواجهون قساوة الحياة ورداءة الطّقس بصبر وتجلّد، وأيضا بالميل المفرط إلى إستهلاك الكحول (للقادرين على شرائه). وحالة السّكر المطبق ليس عيبا حتّى عند كبار المسؤولين... وقد شاهد احمد المستيري في إحدى حفلات الإستقبال في قصر الكرملين، ضابطا ساميا برتبة ماريشال بين يدي سائقه يقوده حتّى سيّارته وهو في حالة سكر. هذا وكانوا ينظرون بشغف إلى الأجنبي وكلّ ما يأتي من الخارج... وكم من مرّة لاحظ المؤلف تهافت سكريترات السفارة والخادمات الروسيّات على أعداد قديمة من مجلات تم رميها في سلّة المهملات. وعبر المؤلف عن اعجابه بميل إلى الثقافة والمطالعة عند الطبقات الفقيرة (لأنّ التفاوت بين الطبقات موجود وزواله مبرمج عند الخروج من طور الإشتراكيّة إلى طور الشيوعيّة). فمثلا، شاهد العمال، سواء المكلّفين بتوفير الفحم لجهاز التّسخين أو المكلفين بالتنظيف ورفع الفضلات في السفارة، يطالعون الكتب في أوقات فراغهم. وهو نفس ما كان يفعله المواطنون العاديون الذين يستريحون في الحدائق العموميّة. وهم يبدون ولعا كبيرا وإهتماما بالإنتاج الثقافي الأجنبي: فعندما تزور موسكو فرقة موسيقيّة أو فلوكلوريّة أجنبيّة، تلاقي إقبالا شعبيّا منقطع النّظير، مع أنّ موسكو ولينينغراد (الّتي رجعت اليوم إلى اسمها القديم “سان بيترسبورغ”) تعجّان بالمتاحف المشهورة عالميّا، ومسرح “بولشوي” الغنيّ عن التّعريف. والجدير بالذّكر في هذا الصّدد أنّ أسعار الكتب والإسطوانات (في ذلك العهد) منخفضة جدّا وفي متناول المواطنين ذوي الّدخل الضّعيف. الكتاب: شهادة للتاريخ المؤلف: أحمد المستيري الناشر: دار الجنوب للنشر/ تونس
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©