الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تجاذبات العقل والخرافة

تجاذبات العقل والخرافة
16 فبراير 2012
جذبت المهرجانات والاحتفالات التي تقام في مصر للأولياء المسلمين أو القديسين المسيحيين الكثير من المستشرقين الاوروبيين فقد تحدث عنها الفرنسي شابرول في احد مجلدات كتاب “وصف مصر”، وكان شابرول أحد علماء الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وتابع الموالد بنفسه، خاصة مولد السيدة زينب ومولد سيدنا الحسين سيد الشهداء رضي الله عنهما، وقد اعجب نابليون باحتفالات المولدين واجتذبت هذه الموالد المستشرق الانجليزي ادوار وليم لين في كتابه عن عادات وتقاليد المصريين المحدثين، ثم وضع ماكفرسون كتابا كاملا عنها. واذا كان المستشرقون والرحالة قد اعجبوا بالمولد من باب العجائب والغرائب، فإن الباحثين المصريين والعرب يتناولونها بالدراسة العلمية، كما هو الحال في كتاب د. عائشة شكر “مولد الاولياء والقديسين” الذي كان في الأصل رسالة دكتوراة مصحوبة بجانب ميداني عن الموالد في محافظة الدقهلية ـ دلتا النيل ـ وقد تميزت هذه المحافظة بأن بها اكثر من مئة مولد تقام لشخصيات من المتصوفة، فضلا عن عدد من الصحابة والشهداء مثل مولد محمد بن ابي بكر الصديق، والي مصر زمن الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه والذي قتله رجال معاوية بن ابي سفيان بأسلوب غاية في البشاعة، وتضم المحافظة كذلك عددا من الموالد للقديسين من الشخصيات المسيحية مثل مولد السيدة العذراء بدقادوس ـ مسقط رأس الإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي ومولد مار جرجس في ميت دمسيس. ولاحظت الباحثة ان الجمهور الذي يتردد على الموالد سواء كانت للاولياء المسلمين او القديسين من المسيحيين، هو جمهور من المسلمين والمسيحيين على السواء، وان الناس لا يترددون في طلب البركة من صاحب المقام أيا كانت ديانته، وبعضهم يذهب إلى الموالد بنية الشفاء من بعض الامراض، حيث يعتقدون ببركة بعض الاولياء وشفاعتهم وقدرتهم على مداواة الامراض المستعصية، وهناك الكثير من الكرامات للأولياء يرددها المريدون. تنقيبات شلبي الروائي الراحل خيري شلبي يذهب في تقديم هذا الكتاب إلى أن الموالد ظاهرة مصرية قديمة، تعود الي زمن الفراعنة، حيث حاول المصريون قهر الموت بتسجيل سيرة الميت وايجابياته على المعابد والبرديات، ومنها ظهرت “العدودة” التي تتردد في الجنازات للمسلمين والاقباط، العدودة تعني ذكر مناقب الميت ومحاسنه، وهذا هو سر الغناء الشعبي الذي يتردد في الموالد، ويلاحظ خيري شلبي أن الموسيقى التي يتم الغناء عليها واحدة، وتعود إلى الأصول الفرعونية وتتردد في موالد المسلمين والاقباط ويتم تركيب الكلمات عليها. موالد أولياء الله من المسلمين تقيمها الطرق الصوفية وبتصريح من الجهات الامنية والرسمية، لكن المؤسسة الاسلامية الرسمية “الأزهر الشريف” لا علاقة لها بتلك الموالد، اما موالد القديسين فلابد ان تحظى بموافقة الكنيسة وهي التي تقرر حالة الشخص الذي سيقام له المولد: ان كان قديسا يستحق ام لا؟ أما الطرق الصوفية فهي تقيم المولد لمن تشاء ومن تراه وليا من اولياء الله. والمعروف ان علماء الاسلام لا يقرون إقامة الموالد ويعتبرونها من البدع، وينصحون بعدم اقامتها ويحذرون مما يجري في الاحتفالات لكنهم لا يحاربون إقامة هذه الموالد ودورهم يقف عند النصح فقط وقد تغاضوا عن ذلك في السنوات الاخيرة باعتبار الموالد موسما للبهجة وللفرحة لدى البسطاء وهناك فريق من المثقفين يرفض تلك الموالد باعتبارها نوعا من الجري وراء الخرافات وتغييب العقل، وظهر تيار من السلفيين المتشددين يحارب هذه الموالد ويعد إقامتها كفرا صريحاً، ويدعو إلى هدم الاضرحة، وقد حاولوا ذلك في الشهور الماضية. في الجانب الآخر ظهرت اصوات متشدة داخل الكنيسة المصرية تعتبر الاحتفالات بالقديسين وما يصاحبها من غناء ورقص أمرا لا يليق بمقام الكنيسة ولا جلالها الديني والروحي. ورغم هذه الاعتراضات والمحاذير والمخاطر فإن الأهالي يصرون على الاحتفال، ولا ينكر الدارسون ان هذه الموالد تلبي احتياجا اجتماعيا ونفسيا للمترددين عليها، وهناك اطباء نفسيون ينصحون مرضاهم بالتردد عليها، وهي كذلك مصدر انتعاش اقتصادي للكثير من الحرف، فضلا عن بعض التجار الذين ينشطون فيها بتقديم ما لديهم. وهناك تحديات تواجه تلك الموالد، لكن لاسباب عديدة سوف تبقي وتستمر وحدث تطور مهم في السنوات الأخيرة حيث صارت الكنيسة تطلق على الاحتفال بالموالد “عيدا” مما يعزز انتشار هذه الموالد. والمهتمون بالادب الشعبي والدراسات الانسانية يرون في الاحتفالات والحكايات الشعية التي تتردد حول القديسين والاولياء تعكس قدرة الابداع التلقائي والجمعي على التوفيق والمواءمة بين تقاليد وتوصيات الاديان السماوية بجلالها وسموها والمعتقدات الشعبية اذ يعتبر جمهور الموالد الاولياء والقديسين ابطالا شعبيين ينتمون اليهم ويعبرون عنهم ويجسدون فيهم المثل العليا والقيم التي تضمن للمجتمع تماسكه وتوازنه، وهناك تشابه في بعض عناصر الحكايات التي تظهر مثل إعانة الولي او القديس لكل محتاج او مظلوم يستجير به أيا كانت ديانة المستجير، وهذا ما ساعد على إقبال عدد كبير من المسلمين على مولد أو عيد السيدة العذراء باعداد لا تقل عن المسيحيين المشاركين فيها، ويرى فريق من الدارسين في ذلك مظهرا للتسامح والبعد عن التعصب والتزمت. التسامح والتعصب ورغم رؤية عدد من العقلانيين ان الموالد رمز للخرافة ففي المقابل يراها آخرون رمزا لاشاعة مجموعة من القيم الايجابية، حيث الاقبال على الحياة في مواجهة الاكتئاب او اليأس، والانفتاح على الاخرين بدلا من الانغلاق على الذات والعزلة، وانتشار قيم التسامح بدلا من التعصب والتزمت، والتوكل على الله بدلا من التواكل والايجابية في مواجهة السلبية، وتثبت الدراسة التي بين ايدينا ان السنوات الاخيرة شهدت اقبال عدد كبير من الشباب على الموالد وعلى الطرق الصوفية، وكانت اسرهم تسعد بذلك وتشجعهم، حيث يعني ذلك البعد عن التيارات الدينية المتشددة التي تقود حتما إلى الاصطدام بأجهزة الامن والجهات القانونية مما يشكل خطرا عليهم بينما هناك قدر كبير من الامان في التعامل مع الطرق الصوفية والذهاب إلى الموالد حيث يجدون متنفسا لطاقتهم وجهودهم، سواء في الاعداد للاحتفال قبل بدايته او اثناء انعقاده بلياليه المتعددة، ومعظم الموالد التي يتناولها الكتاب تستمر ثلاث ليال. ويرى كثيرون ان الاحتفال بالموالد تأكيد لحالة التدين التي تغلب على المصريين منذ اقدم العصور، فقد لاحظ ذلك واثبته “هيرودوت” وكثيرون، وبرغم اختلاف الديانات من المصرية القديمة وحتى اعتناق الاسلام فإن طابع التدين لم يتغير. اجريت هذه الدراسة على مساحة جغرافية محددة هي محافظة الدقهلية لكن يمكن تطبيق ملاحظاتها ونتائجها على كل مصر والمصريين. الكتاب: موالد الاولياء والقديسين المؤلف: د.عائشة شكر الناشر: سلسلة الدراسات الشعبية - قصور الثقافة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©