السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكايات زمن الموت

حكايات زمن الموت
16 فبراير 2012
صارت الرواية صنعة. نعم.. هي صنعة تمت إلى الشكل والتلاعب في كيفية سرد الأحداث. روائيون يقدمون ثيماتهم باعتباطية، وآخرون يحسبون أنهم يقدمون وجبة فيها كل نوع من الأطعمة، الشعر مختلطاً بالحكاية، والنثر الشعري ممزوجاً بحدث لا يمكن أن تلم به بسهولة، ونوع ثالث من الروائيين من تراه يحسب للجملة حساباً، وللتركيب أهمية، وللصياغة مضاناً. نعم.. هي صنعة يمسك فيها الروائي عيني القارئ نحو سطور ما كتب كما يمسك الصانع معصم الراغب في الجمال والمتعة.. كلاهما يعشق النظر بعينين فاحصتين، عشق ذاك لجمال صنعة اللغة، وعشق هذا لجمال صنعة الذهب. نعم.. هي صنعة، لم تعد حكاية تروى، بل صارت حكاية كيف تروى، وما بين الروي والكيفية مسافة شاسعة، مسافة أشبه بمن يعرف الطريق إلى الجنة ومن لا يعرفها أبداً. نعم.. هي صنعة لا تتخذ من الحكاية ثيمتها بل تعتمد على ما يجاور هذه الثيمة من معلومات وخرائط، وأحداث ثانوية نظنها، إلا أنها رئيسية حين تغذي الحدث فتزيد من مصداقيته. هي صنعة، تشترك فيها اللغة، والجغرافيا، والتاريخ، والفلسفة وعلم النفس، والفيزياء والكيمياء.. الرواية أم العلوم الإنسانية والصرفة، الرواية أم الإلهام والتجلي ومتعة الروح. صارت الرواية سيمفونية بيد صانع ماهر، سيمفونية تمتلك نظاماً هارمونياً دقيقاً، كل آلة فيها تعرف متى تعزف لحنها، في أي لحظة، وفي أي مكان من هذا الجسد الموسيقي، الروائي يعرف متى يقدم الحدث، ومتى يشير إلى حدث آت، ومتى يكرر ما هو أساسي ومتى يشير إلى ما سبق أن رواه. دخلت الرواية منذ زمن ليس ببعيد في عالم المراجع والمصادر، فصار العالم ذاك جزءاً مهماً من صنعة الرواية، جزءاً مهمته تقريب الحدث من الواقع كي يمتلك مصداقيته الكبرى. قادني إلى هذه المقدمة ما قرأته للروائي اللبناني ربيع جابر، وهي روايته “دروز بلغراد/ حكاية حنا يعقوب”. تاريخية الحدث مما يلفت النظر حقاً هو غلاف الرواية الذي يحيلنا إلى التاريخية، إذ بدا الغلاف بوصفه إشارة أو علامة على تاريخية الحدث حيث نجد خمس صور تعيدنا إلى عصر من العصور الماضية، هذا لا شك فيه، بالمقابل هناك مساحة واسعة على الغلاف تحتلها خريطة لعالم قديم بدت فيها المسالك بين المدن القديمة متداخلة، مشتبكة، مفتوحة للهجرة والمهجرين، عالم أطلسي مخيف في أسراره ومصائره، عالم من السفر والوحدة والقسوة، غير أنه بمقابل ذلك يبدو عالماً جميلاً مليئاً بالمغامرة والمصائر المجهولة، وعذوبة الألم الحكائي الذي سيقدم بين دفتي الرواية “دروز بلغراد”. في الحقيقة لا يهمني أن تهدى هذه الرواية إلى من يريد ربيع جابر أن يهديها، ولا يهمني أن يقدم لها بهذا التنويه. “هذه الرواية من نسج الخيال، وأي شبه بين أشخاصها وأحداثها وأماكنها مع أشخاص حقيقيين وأحداث وأماكن حقيقية هو محض مصادفة ومجرد عن أي قصد”. بل العكس من ذلك فإن هذا التنويه يقودني كقارئ إلى أن هذه الرواية ليست من نسج الخيال وفيها من شبه لأشخاص ولأحداث ولأماكن. ويصدق حدس القارئ العنوان الداخلي الأول في الرواية حيث نجده “الجبل الأسود 1872” وبذلك يحيلني ربيع جابر إلى تاريخية الحدث، هنا إذاً يصدق حدس القارئ الذي استطاع تأويل غلاف الرواية باتجاه التاريخية، ولكن هذه الإحالة المفاجئة إلى عام 1872 تنهي كل شك في أن الرواية قد لا تمت إلى مفصل تاريخي بعيد يربط بين الدروز بوصفهم فئة اجتماعية استوطنت جبلاً في لبنان وبين بلغراد المدينة التي تقع في الغرب الأوروبي، وما بينهما لابد من صلة يكشفها تاريخ الأحداث. ضمير المتكلم يقدم ربيع جابر روايته بضمير المتكلم “حنا يعقوب” المسيحي اللبناني الذي هو الآن في عام 1872 في حبس لا يعرف أهو حبس الهرسك أم في قلعة بلغراد، والحديد قيود تمنعه من النهوض. في سرد حنا يعقوب يشير باقتضاب شديد إلى لحظة ما هي مفصل الرواية بين السجن والفرار حيث معاناة 12 سنة متنقلاً بين السجون والأعمال الشاقة على يد الأتراك، في لحظة سرد هذا القسم الأول “الجبل الأسود 1872” يشير حنا يعقوب إلى: “عقلي مقسوم نصفين، نصف مذعور يرى في الظلام الأيدي والأقدام تحاول عبثاً أن تتخلص من القيود”. “ونصف ساكن لا يهتم ويشرد إلى البعيد، إذا كانت هذه ساعتي الأخيرة فأنا أطلب أن أرى أمامي الوجوه القديمة التي أحبها لا هذه الوجوه”. هذا القسم القصير “الجبل الأسود 1872” هو خلاصة الرواية ـ لا بمعناها الحكائي والسردي ـ بل بمعناها التركيبي، لذا نجد ربيع جابر قد أتى به من ص 209 من الرواية وجعله في صفحة 1 و2 و3 منها بما يعني أن ربيع جابر قد لعب على الشكل من انتهاء القسم الأول من الرواية زمنياً وهو عام 1872 وبذلك فإنه يبدأ روايته من قسمها الثاني وهو “بيروت 1860”، ولو تأملنا جيداً وبحثنا عن الأعوام الـ12 التي ظل فيها سجيناً لوجدناها في الفارق بين عامي 1872 و1860. تكرار الجبل الأسود ولو تساءلنا: لماذا إذاً قدم ربيع جابر ـ بالتكرار ـ الفصل “الجبل الأسود 1872” مكرراً إياه من صفحة 209 إلى الصفحات الأولى؟ لأجبنا أن الرواية تعتمد على أن تقدم هجرتين عاشهما حنا يعقوب، الأولى في خروجه من بيروت عام 1860 سجيناً مع السجناء الدروز الـ550 إلى بلغراد، والثانية في عودته إلى بيروت عام 1872 طليقاً بدون السجناء الدروز الـ550 الذين ماتوا في بلغراد إلا اثنان وهما: المسيحي حنا يعقوب وحمد الأعمى. ومن الغرابة حقاً أن يعيد ربيع جابر اثنين من كل هؤلاء السجناء، اثنين تبدو صلتهما بالسجناء الـ550 درزياً ضعيفة، أولهما كونه مسيحياً وثانيهما كونه أعمى، هذه المفارقة تستدعي التساؤل لماذا اختار ربيع جابر شخصيتين ناقصتي الاكتمال الدرزي، مسيحي في تضاد ديني مع الدروز المسلمين وأعمى في تضاد فسيولوجي. واعتقد أن هذا الاختيار كان من الذكاء ما يمكن أن نجد له تبريراً سريعاً كون حنا يعقوب مسيحياً ليس صاحب قضية معهم، وكون حمد أعمى ليس صاحب طريق معهم حيث تخلت عنه طبيعة التجانس مع البشر الأصحاء. قلت إن القسم “الجبل الأسود 1872” المكرر هو القسم الوحيد في الرواية الذي سرد بضمير المتكلم وأن جميع فصول الرواية الأخرى سردت بضمير الغائب، حيث اضطلع ربيع جابر كونه سارداً كلي العلم بسرد الأحداث.. وهنا نتساءل أيضاً لماذا عمد ربيع جابر إلى هذه التقنية؟ ونجيب أن هذا الروائي المدهش قدم لنا في هذا القسم حالة حنا يعقوب النفسية في اتخاذ القرار بين أن يبقى سجيناً وأن ينطلق باتجاه الشرق، باتجاه بيروت باتجاه الحرية، فما كان أحد يعرف ما سيقرره إلا هو ـ حنا يعقوب ـ وبذلك قرأ بل قدم حنا يعقوب إحساسه بلحظة الهرب والتي لا يستطيع أحد غيره أن يقدمها بمثل هذا الوصف الدقيق، ولذا كان لابد أن يستخدم ربيع جابر “ضمير المتكلم” الأكثر تمثلاً لتصوير الإحساس الداخلي للشخصية في تجلياتها. الطريقة الكلاسيكية لا يتردد ربيع جابر أن يقدم روايته بالطريقة الكلاسيكية معتبراً إياها “حكاية” حنا يعقوب، وليست حكاية الدروز في بلغراد، حين يقول: “هذه حكاية حنا يعقوب وزوجته هيلانة قسطنطين يعقوب وابنتهما بربارة، وفيها ما وقع للعائلة البيروتية الصغيرة من مصائب بسبب الحظ العاثر ووجود الرجل المتوسط القامة الحنطي الوجه الأسود الشعر والعينين بائع البيض في المكان الخطأ في الساعة الخطأ”، هذا النص المقتبس من الرواية “لحظة بدء الحدث الواقعي” يحمل معه كلاسيكية سردية تماماً ليقترب فيها من سرد ألف ليلة وليلة وبداياتها التوثيقية كونها تعتمد الخلاصة. حيث قدم ربيع جابر: 1 - العائلة: حنا يعقوب وزوجته هيلانة وابنتهما بربارة. 2 - المكان: بيروت. 3 - الحكاية: حظ عاثر. 4 - الزمان: الساعة الخطأ. 5 - الصفة: الرجل المتوسط القامة الحنطي الوجه الأسود والشعر والعينين. وفي مبحث الصفة أراد ربيع جابر وبذكاء أن يختار صفات درزية لهذا المسيحي الذي لم يكن أبيض البشرة ذا شعر أشقر بل كل سماته تبدو درزية في حال اختلاطه بالدروز فيما بعد. حنا يعقوب يبيع البيض عند الميناء، وزوجته هيلانة تعتني بقن الدجاج، وابنته بربارة لاتزال غير قادرة على المشي. يحاول ربيع جابر أن يقدم بدايات قصص متناثرة لشخوص يحملون هموماً وهي: حنا يعقوب البائع الذي يذهب ببيضه المسلوق كل صباح إلى الميناء، والشيخ غفار عزالدين الذي أتى على بغلته إلى “القشلاق ـ قلعة الأتراك” ليطلب الشفاعة من اسماعيل باشا الهنغاري في أولاده الخمسة وهم (محمود وبشير ونعمان وسليمان وقاسم) بعد أن فَقَدَ ولدين اثنين في الحرب بين الدروز والمسيحيين وهما (علي وبهاء الدين) ويلخص ربيع جابر الحرب: “وقعت حرب أهلية في الجبل الذي يظلل بيروت، وبعد معارك ومذابح دامت ثلاثة أسابيع كسر الدروز المسيحيين واستولوا على جبل لبنان، عدوى القتل انتقلت على الألسنة وفي الهواء إلى مدينة دمشق، أغار المسلمون بالبارود على حي النصارى وأحرقوه، جرت الدماء في أقنية الدواب وسط الدروب، الناجون نزحوا إلى بيروت”. سياق الرواية نلاحظ هنا أن ربيع جابر قد اختصر كل الأحداث التي هي خارج سياق الرواية والتي لا تعني تفصيلاتها أي قيمة للرواية سوى أنها لإظهار المسبب الذي دعا حنا يعقوب للإقبال على ترويج بضاعته “البيض” بين هؤلاء النازحين، والسبب هو ذاته الذي جعل الأتراك يرحلون 550 درزياً إلى بلاد بلغراد بإشراف القنصل الفرنساوي. قلت: قدم ربيع جابر مفاصل الحكايات وأسبابها والتلاعب بها والخديعة في بداية الرواية، كي يتخلص من قواعد بناء روايته ليبدأ رحلة الرواية الحقيقية، رحلة حنا يعقوب والـ550 درزياً الذاهبين إلى بلغراد أو إلى بلاد المغرب لهذا قدم حكايتين هما: 1 - حكاية حنا يعقوب. 2 - حكاية الشيخ غفار عزالدين. وعليه صار من الضروري أن يربط بين حكايتي هذين الشخصين. قصة الشيخ غفار عزالدين أنه ذاهب إلى اسماعيل باشا محملاً بالذهب ليطلب منه الإفراج عن أبنائه الخمسة بطريقة “الشفاعة”، ويطرح عليه اسماعيل باشا أن يختار واحداً فقط، وبذلك أسقط بيد الشيخ غفار فاختار سليمان من بين أبنائه الخمسة، وعليه صار لزاماً على الأتراك أن يعوضوا عن هذا السجين الذي أطلق سراحه بفرد/ شخص آخر، إذ أصبح العدد 549 سجيناً وهنا جاءت الصدفة بـ”حنا يعقوب” ليكون ذبيحة الاتفاق الغريب وعليه تحقق ما أطلق عليه ربيع جابر “المكان الخطأ والزمان الخطأ”. يلجأ ربيع جابر إلى عرض “الخديعة” منذ بداية الرواية بعكس البناء الدرامي الأرسطي أو حتى البريختي الذي يتوخى في التراجيديا اليونانية أن تعرض الخديعة في منتصف الرواية ومثالنا على ذلك اكتشاف أوديب الخديعة في منتصف التراجيديا اليونانية لسوفوكلس واكتشاف مكبث خديعته في منتصف التراجيديا الشيكسبيرية. منطق الحكاية يعمد ربيع جابر إلى أن يستكمل منطق الحكاية بأن يرسم ملامحها بلا نقصان، حيث يقترب ضابط وجنود مسلحون وهم الباحثون عن بديل لسليمان بين الشيخ غفار عزالدين، يقتربون من حنا يعقوب الذي دب الرعب في أوصاله برؤية 549 سجيناً مقيدين في طريقهم إلى باخرة تقلهم إلى المجهول في الوقت الذي يمسكه الضابط ليقترح عليه أن يكمل العدد 550 سجيناً حتى عكا وسيرجعه بعد ذلك لأن الباخرة تستمر ذاهبة إلى بلاد الصرب حاملة هؤلاء الدروز الذين صدرت الإرادة السنية بنفيهم إلى بلاد الصرب، طالباً منه أن يدعي أن اسمه “سليمان غفار عزالدين” وأن يجلس بين أخوته الأربعة.. مؤقتاً حتى عكا وسيكافئه بثلاث ليرات ذهب وسيأخذها منه حين يرجع من عكا بينما يكمل هؤلاء الرحلة إلى بلغراد. طلب منه ألا يفتح فمه حين يأتي القنصل الفرنسي، وأجلسه بالقوة مع أخوته المفترضين وحين صرخ بأنه ليس سليمان غفار عزالدين سأل القنصل الفرنسي عنه فقيل له إنه الرجل الذي قتل “حنا يعقوب”. هذه الاستبدالية هي فاتحة الرواية، وهي ضمير الرواية ومستهلها وخاتمتها إذ يقول حنا يعقوب “أنا حنا يعقوب” في مستهل الرواية. وتقول له هيلانة: “حنا. هذا أنت يا حنا” في خاتمة الرواية وما بينهما لا وجود لحنا يعقوب بل هو الشخص المتلبس والبديل باسم “سليمان غفار عزالدين”. يلعب ربيع جابر على مجموعة من الأنظمة النسقية ببراعة وقدرة وأهمها أولاً نسق الاسم، وثانياً نسق الاستبدال، وثالثاً نسق الهوية، ورابعاً نسق الانفصال، وخامساً نسق التداخل، وسادساً نسق الاتحاد. الأنساق الستة وكل نسق من هذه الأنساق الستة يظهر ويتولد من الآخر، الأسبق منه حيث سليمان يقابل حنا، والمسلم يقابل المسيحي والتضاد بالحرب والتداخل بالرحلة والتساوي في الاتحاد حينما يعيش حنا رحلة الحجيج باسم حاج سليمان. تلك هي الأنساق التي اتبعها ربيع جابر في بناء حكايته، إذ التضاد بين المسيحي والمسلم/ حنا وسليمان خلق تناقضاً ومن خلال هذا التناقض حاول ربيع جابر أن يقدم نقيضه ببراعة روائية. تنفرد هيلانة في بداية الرواية بقسمين وهما “هيلانة” و”هيلانة 2” وهو زمن اليوم الأول الذي اختفى فيه حنا يعقوب حيث عاشت هيلانة قلقاً استثنائياً محضاً منتظرة مجيء حنا الذي لن يأتي، وتنقطع مفاصل سرد عالمها حتى “هيلانة 3”.. وبعدها قسم “هيلانة 4” وما بين هيلانة 2 و3 زمن طويل سرد فيه ربيع جابر وصول السجناء إلى قلعة بلغراد، بينما في عالم زوجة حنا هيلانة ظل السرد في اليوم الأول حتى اليوم الثاني. حكايتان بزمنين لنفترض أن هناك حكايتين تولدتا بعد اعتقال “حنا يعقوب” وهجرته إلى بلاد بلغراد وهما: أولاً حكاية رحلة حنا. ثانياً حكاية هيلانة. نجد أن حكاية رحلة حنا امتدت زمنياً لأسابيع طويلة حتى وصل إلى قلعة بلغراد، وبعد أن استنفد ربيع جابر وصول السجناء الدروز ومعهم حنا إلى بلغراد عابرين عكا والبحار العديدة حيث ألقته الباخرة في نهاية العالم، يطالعنا استكمال ليلة عدم رجوع حنا إلى البيت وما حصل لهيلانة التي استعانت بجارتها أم سمعان التي أرسلت أولادها الثلاثة للبحث عنه. هذا القطع عند “هيلانة 3” و”هيلانة 4” هو أحداث 24 ساعة، بينما نجد أن حنا يعقوب في “قلعة بلغراد” و”جنة الدانوب” قد وصل بالأحداث إلى أشهر طويلة، ولا أعرف حقاً لماذا أرجعنا ربيع جابر إلى زمن الساعات الأولى للضياع، ولنفترض جدلاً أن ربيع جابر قد الصق هيلانة 1 و2 و3 و4 ببعضها، لما تولد انكسار في السرد أو خلخلة سردية ولكن ربما خدم ـ برأي آخر ـ هذا الانكسار السردي في حكاية هيلانة تشويق القارئ ليعرف الكيفية التي التقطت فيها هيلانة هذا الضياع، اختفاء حنا المفاجئ اللامتوقع. في رواية “دروز بلغراد” يلعب ربيع جابر على أنساق ويستحدث انساقاً، نسق التضمين ونسق التناوب والاسترجاعات والخلاصات والمجمل نراها جميعاً في هذه الرواية. تتحول الرواية إلى نسق تسلسلي، تعاقبي في رصد لحركة سجناء من بينهم حنا يعقوب “سليمان غفار عزالدين” بين السجون والمدن البلغارية وتنشأ علاقة تساوي واتحاد فيصبح حنا سليماناً في علاقته باخوته المفترضين وبخاصة “قاسم”. سرد ملحمي هنا تتحول الرواية إلى سرد ملحمي، يستعين فيه ربيع جابر بكل العلوم، الجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع حين يلجأ إلى مصادر تلك الفترة ويتتبع خطوات الأرض والجبال والطعام والأنهر والحيوانات والأشجار والسهول والهضاب والمدن وتركيبة البناء وأشكاله، وملابس المجتمع، وأزقة المدن، وطعام الناس في مجمل القرى والمدن التي مر بها هؤلاء السجناء الدروز على مدى 12 عاماً، منذ اليوم الأول في البساتين، حيث “بدأ يحيرهم لغز العالم الحدودي الغريب الذي يسمى بلغراد”. سجناء عاشوا في الأقبية في ظلمتها، أحصوا عدد الدرجات من فم الدهليز إلى باحة القلعة حتى وصلت إلى 64 درجة ثم وجدوها 68 درجة. بعد أحداث طويلة حصلت في الحكاية الأولى استمرت لأشهر، لايزال ربيع جابر يسرد حكاية هيلانة في يومها الثاني عند “هيلانة 5” ويختتمه بقول الخواجة نعيم: “أمس عند الفجر تقول، كان هنا أمس طوال الصباح كان المينا مقلوباً رأساً على عقب”. “لماذا”. “ترحيل الدروز، أمس أخذوهم من هنا”. ويقدم ربيع جابر في الحكاية الأولى “هجرة الدروز” دروب البوسنة، وحبس الهرسك وما جرى من أحداث لأبناء الشيخ غفار عزالدين الأربعة وبينهم حنا يعقوب الذي تلبس شخصية الابن الخامس سليمان. يعتمد ربيع جابر الحوار اللاإسنادي، أي أن الحوار الذي لا قائل له. - من هؤلاء. “دروز بلغراد، يقولون إنهم جاءوا مشياً على الأقدام من بلغراد إلى هنا بلا أكل وبلا راحة”. “وأنت أبله كي تصدق”. هنا يروي حواراً بدون أن يسنده لقائل، فهو كلام شفاهي يلتقطه ربيع جابر من متحاورين من عامة الناس التي وقفت في الشوارع تنظر إلى الدروز وهم يمرون بالمدن والقرى، وهو بذلك قدم خلاصة عن الدهشة في حس درامي عالٍ. يلعب ربيع جابر على تحول الشخوص حيث قاد حمد السجين إلى العمى فتحول إلى الشيخ حمد وعندما قاد حنا المسيحي إلى الاستبدال بمسلم تحول إلى الشيخ سليمان. قصص خارجية ويسرد ربيع جابر قصصاً خارجية عن النص، قصة يعقوب والد حنا، وقصة الحاج مصطفى مراد الذي قتل زوج ابنته هند في “حكاية مصطفى مراد وبناته الثلاث” التي هي بنية من بنى ألف ليلة وليلة. هذا الاعتماد على نسق التشكل الكلاسيكي يطابق إلى حد بعيد زمن الرواية، وأعتقد أن هذا بحد ذاته تأصيل من ربيع جابر. ويتتبع ربيع جابر حياة هيلانة باقتضاب شديد بعد 7 سنوات من حبس حنا في فصل “نقولا بسترس” في الصفحة 138، ويعود السرد ثانية إلى أصل الحكاية الأولى “هجرة حنا” حتى يصل إلى “وعول كوسوفو”. ويتناقص الدروز بين الموت مرضاً وقتلاً ليتبقى 6 سجناء هم الأخوة الأربعة وحنا وحمد الأعمى ويقتل الأخوة الأربعة ويرجع حنا يعقوب بعد أن هرب حمد الأعمى راجعاً إلى بيروت وذلك ما يسربه لنا ربيع جابر في قسم “أصوات الجبل” على أساس نسق الاستباق، إذ يبث لنا في نهاية هذا القسم ما سيحصل في نهاية الرواية “الاستباق” بالكشف عن خواتيم الرواية. من الهرسك إلى صوفيا تتحرك المجموعة ويرون ثكنات صوفيا ويهاجم الهواء الأصفر “الكوليرا” وينجون منه، وقد بلغوا 26 درزياً مع حنا السابع والعشرين نفراً منهم، وتحصل مذبحة القلعة فيقتل قاسم ومحمود وبشير ويموت عثمان بالهواء الأصفر فيما بعد، ويظن أن سليمان/ حنا يعقوب أخاهم الخامس قد مات إلا أنه يذهب في رحلة العودة حيث يلقى القبض عليه ثانية فيودع في “سجن بريشتينا” لخمس سنوات. بعد 12 عاماً وفي قلعة “الجبل الأسود 1872” يحصل الانفصال بين زمني الرواية حيث يهرب حنا يعقوب من الجبل الأسود باتجاه أدرنه إلى اسطنبول ودمشق ثم بيروت، حيث وجد أخيراً “بربارة وأم بربارة”.. هيلانة التي صرخت به. - حنا، هذا أنت يا حنا. إذ أن حنا كلما صاح «هذا أنا حنا يعقوب» لا يصدقه أحد إلا حينما أكدت هيلانة وجوده بـ”هذا أنت يا حنا” فوجد نفسه ثانية. رواية جسدت التاريخ والجغرافيا وعادات الناس مأكلهم ومشربهم حتى الأشياء التي لا تخطر على بال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©