الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«سيرة ذاتية» للشارع العربي

«سيرة ذاتية» للشارع العربي
16 فبراير 2012
في العمل المسرحي “سيرة ذاتية” الذي عرض في مهرجان المسرح العربي الذي أقيم في العاصمة الأردنية عمان، وهو من نص وإخراج أحمد المغربي، هل كنّا نقرأ سيرة المخرج خالد الطريفي ومعاناته مع المسرح؟ أم كنّا نقرأ معاناة الفنان والمثقف العربي المقموع والمعزول والمضطهد، أم كنّا نشاهد “كواليس” مهنة المسرح وما بها من “نفاق” وكذب وتسلق الدخلاء على المهنة، ممتزجا ذلك كله بوعي فكري بالقضايا السياسية التي تعصف بالشارع العربي؟ بإختصار هل كنّا في مسرح مختلف؟ في الواقع شاهدنا على خشبة مسرح مركز الحسين ضمن العروض خارج المنافسة في مهرجان المسرح العربي الرابع.. شاهدنا وامتزجنا بفكر مسرحي خاص من نوع “الكباريه السياسي” المتقاطع مبنى وشكلا مع العديد من القوالب والاشكال المسرحية منها قالب التشخيص والمسرح داخل مسرح كما عهدناه عند الايطالي لويجي بيرانللو، كما إنه يتناص مع النّص الروسي المعروف “إيفانوف” ونص سعد الله ونّوس “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، حيث جميع هذه التقاطعات تناولت قضية معاناة الفنان، لكن في الواقع أيضا أن كاتب سيرة ذاتية نجح الى حد بعيد في (عصرنة) الفكرة والحكاية وتخضيبها بمعاناة الشارع العربي ومن ذلك مشهد التحقيق مع أحد الممثلين لمجرد أنه فكّر في الحرية والتعبير والتغريد في فضاء العدالة المفقودة، وكان بديعا أن يتم رسم وتصميم هذا المشهد في إطار متسق ومنسجم مع ثيمة العزل والتسلط والهيمنة التي كانت لازمة مسرحية طوال العرض الذي امتد لتسعين دقيقة من الإثارة والتشويق وعناصر الدهشة التي كانت تبرز وتتطور مع توالي الحالة المسرحية. قسّم الكاتب نصّه الى مستويين، الأول يصور فرقة مسرحية محلية يقودها المخرج عابد خالد الطريفي وتضم كلا من أسماء مصطفى وأمجد حجازين وبكر الزعبي وثامر خوالده، حيث تستعد الفرقة لتقديم عرضها للجمهور، لكن تواجهها عقبات تأخر بعض الممثلين عن الموعد المحدد للعرض، مما يدفع بأعضاء الفرقة لاستثمار ما تبقى من وقت لعرض أحلامهم الدفينة من خلال ثلاثة غرف لتبديل ملابس الممثلين وقد وظفت بطريقة درامية مدروسة، جعلت من ديكور المسرحية عاملا مهما في تشكيل الصورة المسرحية، حيث أن كل غرفة من هذه الغرف حققت أهمية استثمار المكان، فقد استوعبت كل غرفة معاناة خاصة لممثل وصرخاته التي ترتد الى جدران غرفته لتأكيد فكرة معاناة الفنان في مهنته وحياته، ولعل أهم ما في تصوير أحلام الممثلين ما تمثل في حكاية الممثلة سعاد والكشف عن معاناتها كفنانة في مجتمع ذكوري وكيف أنها تدفع ضريبة نجاحها وشهرتها على حساب طموحها في بناء أسرة آمنة لم تتحقق لها حتى نهاية العرض، فيما نرى الممثل أمجد يحلم بأن يصبح طبيبا، كما نرى المخرج عابد وكيف يعاني من النفاق الذي يحدث في كواليس المسرح من خلال مشاهد مركبة قائمة على عنصر المفارقة على مستوى تداخلات الاداء بين الممثلين في المشهد المركب والأقرب في تكوينه الى الكادر السينمائي، ولا يخلو المستوى الأول من المسرحية من عرض المشكلات والأزمات التي يعاني منها المسرح الجاد مثل غياب الناقد الموضوعي الحيادي المحترف، وغياب الممثل المثقف الناضج الواعي برسالة المسرح، وغير ذلك من قضايا وإشكاليات يعاني منها فن المسرح، طرحت للجمهور في إطار من الكوميديا الخفيفة الموجعة، كوميديا الموقف التي تم صناعتها وبنائه في ظلال التلقائية ولمحات من الواقع بطريقة السهل الممتنع. أما المستوى الثاني من النص، فقد جاء حافلا بالممكنات الفنية، بعد أن يقرر المخرج من سرد حكاية المسرحية بنفسه بعد أن يتخلى عنه ممثلي الفرقة جميعا لخوفهم وجبنهم في مواجهة الواقع، وفي تقديري أن هذا الجزء من العرض الذي جمع بين السرد الوصفي والتخييل لجانب الحدث الاسترجاعي يعكس بشكل أو بآخر مسيرة الفنان الكبير خالد الطريفي المتمرد المشاكس وحكايته مع مجتمع لم يفهم مقصده، وتحدياته لتحقيق أحلامه عبر العواصم العربية، مستعرضا رحلة مخرج درس فن الاخراج أكاديميا، ومن ثم أنجز وابدع لفن المسرح الكثير، كما طرح في السياق العديد من إشكاليات السياسة العربية بدءا من توقيع اتفاقية كامب ديفيد، مرورا بأحداث الشارع العربي، حتى ظهور وعي عربي جديد، من الضروري ان يرتبط بثقافة جديدة مستقبلية طليعية، منتهيا الى أن المثقف العربي رغم كل وسائل القهر والعنف والقمع ورهبة السلطة ماض في مسيرته ولن يتحول يوما الى عمود من الملح، وربما يكون هذا التعبير الذي انتهى به العرض من أبلغ المقاطع التي جاءت في سياق مونولوج وصفي طويل ألقاه الطريفي بحرفية عالية واداء متوازن لم يفقد وهجه حتى اللحظة الأخيرة من المسيرة. في تقديري أن مفاجئة هذا العرض هو مخرجه الشاب أحمد المغربي، الذي قدّم لنا استراتيجية إخراجية واعية وبسيطة على مستوى توظيف الاضاءة لتحقيق المشهد المركب، فكانت جمل ودوائر الإنارة محددة سواء إضاءة المسرح أو الاضاءة الداخلية التي كان يستخدمها الممثلين، كما أن الاضاءة كانت بمستوى التشخيص والنقلات السريعة للمشاهد ذات الايقاع اللاهث، وبخاصة الاضاءة المركبة التي هبطت من أعلى سقف المسرح ممتزجة بجمل من البقع الضوئية ولولا هذا التوظيف البديع لمستويات الحركة والافادة من أجواء المفردات المحلية الخالصة، لوقعت المشاهد في فخ التقليدية وواقعية التعبير عن قضايا فنان المسرح لا أكثر، كما أنه كان ماهرا في إدارة مستويات الصوت في المونولوجات المنعزلة في المشهدية وبخاصة المونولوج نولوج الذي قدّمه خالد الطريفي جامعا بين خبرة المخرج وخبرة الممثل، وهذه هي المرة الأولى التي أشاهده فيها ممثلا بارعا على الخشبة، لأنه كان طبيعيا ولا يمثل، يتمزق ولا يمثل، يتمرد ولا يمثل، ولولا مهارته العالية وافادته من عمله كمخرج محترف لضاعت منه مقومات المونولوج الختامي الذي فتح فيه النار على كل ما هو مسف في هذه الحياة وعلى كل مراكز القوى المحطمة لآمال المبدع وصاحب اي مشروع ابداعي ثقافي مختلف. من التحايلات الطريفة التي لجأ اليها مخرج العرض هو ذلك التشخيص البديع في قالب المسرح داخل مسرح، حيث نوع من اللعب المسرحي مع بعض التماهي مع كسر الجدار الرابع، الذي ادخل المتفرج عميقا داخل اللعبة المسرحية التي إمتازت بانها متماهية مع فكرة تدريب الممثل وكأننا في ورشة مسرحية تبتعد كثيرا عن القالب التقليدي للتكوين المسرحي المعروف، وبالنظر الى مشهد الحلم بالأمومة الذي أدته الممثلة اسماء مصطفى التي إعتادت على مناداتها بـ”سوسو” فقد حمل بعضا من الابتكارية على مستوى تكنيك الحلم وتجسيدة في اطار ذات نفس تعبيري خالص مع نفحات من التجريب الذي بدا واضحا في تطبيق فكرة عزل المشاهد وتقطيعها ثم جمعها في بصرية تقوم على فن المشاهدة وصقل المنظر بالايحاءات والمهمات المسرحية من موسيقى واداء صوتي طبيعي وانارة وتحريك بديع للديكور المتنقل الذي يؤكد على حرفية بلال عبد الحافظ في التصميم والتوظيف الدرامي للقطع الخشبية الجامدة التي كانت تتحول الى مناظر موحية بنوعية المشهد المسرحي، بحيث اصبحت هذه الديكورات مع تطور حكاية الفرقة المسرحية الضائعة الى ممثل جديد يؤدي وظيفة كاملة في بناء المشهد المسرحي. يؤكد عرض “سيرة ذاتية” أن أزمة المسرح ليس في وجود النص وغيابه نتيجة للازمة السياسية والاجتماعية التي تعيشها أي بلد، ولكنها في عدم وضوح الرؤية لدى الكاتب ومجسدي فكرة العرض من خلال الأداء والشكل والقالب، وقد تجاوز هذا المخرج الشاب حديث التجربة هذه النظرية حينما لعب في خانة الكباريه السياسي بجرأة عالية على مستوى اللغة والمفردات والطرح والصياغة، وعلى مستوى التقنية المحددة رقميا على خارطة خشبة المسرح التي تم تقسيمها الى وحدات تنسجم تماما مع تراتبية المشاهد وسرعة تنقلها، ولهذا لم يكن صعبا عليه الافادة من روح الفكرة المرتبطة بحياة مخرج مشاكس، والبناء عليها من خلال رؤية واضحة وليست فضفاضة كما نرى عادة في معالجة هذا النوع من الافكار، ليؤكد لنا في النهاية وبكل بساطة أن الدنيا ليست أكثر من رواية هزلية اذا كان فيها شكل الابداع كما صورته الفرقة المسرحية الفاشلة التي يقودها مخرج صاحب رسالة، حتى حينما يتحدث هو وممثليه باللهجة العامية المغرقة في مفرداتها المحلية، لكنها في الواقع كانت لغة مسرحية راقية بلا سوقية أو إسفاف وتحمل في ثناياها فكريا عصريا وتقدميا، كما ابرزت لنا عبر تعبيرية مقصودة أهمية فكرة طرح النموذج المقهور من المبدعين، فكانت اللغة بذلك مرادفا ومعادلا موضوعيا للشخصية التي تدين وتبعث صرخة احتجاج عبر الحوار بعيدا عن الخطابية والتشنج. ولعل أجمل ما تعكسه “سيرة ذاتية” في سياقها ذلك الهدوء في التعبير والمواجهة، بحيث سيادة عقلانية الخطاب في مواجهة الآخر. وإذا عرجنا على جانب التمثيل في هذا العرض الخفيف المظلل بمرارة الضحك، ومرارة الحلم، وشقاء الابداع في غير بيئته الأصلية، سنجد أن الممثلة اسماء مصطفى التي لعبت وشخصت أكثر من دور حافظت فيه على شخصية واضحة، فقد وفقت تماما في أن تكون المرأة بصورها العديدة على الرغم ما في تلك الأدوار التي لعبتها من تعريج وتركيبات تحتاج الى مجهود خاص أهم ما فيه هو المقدرة على المحافظة على نسق الادوار المسرحية في نسيج واحد مع إختلاف درجة الاداء الذي بدا في بعض المواقف وكأنه تمرين مسرحي على فن الالقاء والاداء الرفيع. وفي طليعة الممثلين يبدو لنا الممثل الشاب أمجد حجازين متمكنا وقد ساعده تركيبه الفيزيقي وتقطيعات وجهه على الوفاء بالتزامات الادوار التي لعبها بمهارة عالية تنبئ عن موهبة سيكون لها مستقبل كبير في عالم التمثيل المسرحي. لقد استثمر هذا العرض وبمهارة عالية فكرة الرمز وفن الاسقاط السياسي من خلال ثيمة بسيطة قد تبدو للبعض أنها لصيقة بمعاناة الفنان من التهميش ومصادرة حرية التعبير لا أكثر، لكن واقع الطرح الذي لم يخلو من فانتازيا تتلامس مع مقومات الكوميديا السوداء، يؤشر أننا كنا نقرأ سيرة الشارع العربي بكل زخمه وتمرده وعنفوانه، كما كنا أمام كواليس المسرح التي لا يعرف عنها الجمهور الكثير ولهذا تحقق عنصر الادهاش بسرعة مذهلة وربما منذ استهلالية العرض الذي كان بممثليه أكثر تعبيرا عن الكباريه السياسي بكل ما يحمله من جرأة ووضوح وطرح وتناول القضايا الحساسة في حياة الانسان والأمة. “سيرة ذاتية” تمثل طرقة جديدة في فضاء المسرح الطليعي بكل حمولاتها من طروحات ورؤى انسانية، وهي تشكل بذلك نموذجا أصيلا في جانب النضوج الفني وفي هذه الأصالة التي تجسدت في عرض مركز لمسنا حرصا شديدا من فريق العمل على المحافظة على الجو المحلي الذي يمكن له ان يمتد الى الشمولية، فنموذج الفنان الذي طرحته المسرحية هو نموذج إنساني موجود في كل مكان ويواجه نفس التحديات والمعطيات، وصلت الى المتفرج عبر تراجيكوميديا رفيعة المستوى التي تعمق احساسنا بالتناقض داخل المجتمع الواحد. إن المسرح العربي لن يكون أداة تغيير وبناء اذا ظل تجربة معزولة عن الناس في إطار اقليمية ضيقة لا تحمل من الهموم الا القليل، فالحوار الخلاق الذي تضمنته “سيرة ذاتية” مضافا اليه جماليات الصورة والاقتراب من المتفرج بالمفردة البسيطة الى حد الوصول الى مقاعد المتفرجين دون تذلل أو استجداء كان هو الانتصار والنجاح الحقيقي لهذا النوع من العروض الطليعية التي تكشف ببساطة متناهية عن مسرح شبابي طليعي في مسيرة المسرح الاردني المعاصر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©