الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سِفْر الكلام..

سِفْر الكلام..
16 فبراير 2012
علم ضيق إلى حدِّ أنك لا ترى أي ثغرة لتضيف له ابتكارا جديداً.. علم متسع إلى حدِّ كأنه بحر لا نهاية له. علم ثريُّ ترى جماله في زواياه وفي انحناءاته، روحه شفيفة عذبة، وكيانه يتطوى من ضوء عذب كأنه ماء يبل ريقاً يابسة. فن كالغصن.. لا بل هو غصن رطيب.. إلا أنه يمتلك آلاف الأشكال في شجرة واحدة، حرف الألف منها له أشكاله وللحاء تجلياته، وللواو انسيابيته اللامتناهية، وللياء إبحاره في ملكوت سماوي، وللجيم فخامته، وللعين انحناءاته التي تسجد للكون كله، وللفاء فمه الذي ينطق بالشكر للتكوين الإلهي. حروف تحولت إلى إيقاعات تعزف أنغاماً لا حدود لها، أنغاما تتنامى مع كل جيل من الخطاطين يولد في أحضان الحرف العربي. قبل أسبوع احتفت وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع بمعرضها السنوي على هامش جائزة البردة، المعرض الذي ضم 62 لوحة توزعت ما بين 14 لوحة حروفية وتشكيلية و 14 لوحة للخط اللعربي و 36 لوحة زخرفية. كان المعرض قد ضم الأعمال الفائزة في مسابقة الخط والزخرفة والتشكيل مع الحروفية خلال دورات تسع للجائزة وزعت على ثلاث قاعات. أبهة الحرف كان جو القاعات الثلاث موحياً بظلام شفيف، سواد يظهر جمالية اللوحة وأبهة الحرف العربي وكيانه الرصين وهو يتعشق في آيات القرآن الكريم، جلال من سواد وسواد في جلال. تنتقل بين القاعات الثلاث لتبصر جمالية الحركة وعنفوان الحرف والوجه المضيء للمعنى، زخرفة تحيط بحروفنا العربية، دقة في الصناعة، وتأمل في التكوين، أشكال لا حدود لها، تتخذ من الزهرة والوردة والشكل الهندسي جمالياتها، أغصان الشجرة وأوراقها الخلابة الرخوة تراها في بعدها الزخرفي اللذيذ، أما اللون فإنه مساحة للفرح وللحياة لا تنتهي، مساحة تفوق روعة الشعور بالزهو والتعب واللذة، لذة صانع ماهر. صنّاع مهرة يخرجون مع السنين ليجددوا المعرفة في هذا العلم، لا يحيدون عن القوانين الأولى، كأنهم يبصرون العلم من ثقب الإبرة، إلا أنهم بعد أن يتأملوا الكون من سم الخياط يبدأون في صياغة رؤاهم. 14 فناناً هم أكسم سالم وثائر هلال من سوريا، وداودي عبدالقادر من الجزائر، ومليحة سيف وسرمدي كاظم الموسوي وعلي رضا مجي ومحمد رضا صوري وييمان بيرو من إيران، وخالد سعدون المقدادي وعلاء إسماعيل من العراق، وحسام أحمد عبدالوهاب من مصر، وتاج السر حسن من السودان، وحكيم غزالي من المغرب، ومحمد عارف خان من باكستان، قدموا لوحات مازجوا فيها بين معنى الحرف ومعنى الكون. الرمز والمعنى في لوحات هؤلاء الفنانين خط عربي ولكنه ليس تمثلاً لقوانينه وأركانه، بل هو مرموز لما وضع عليه من معنى في اللوحة.. فقد قال أحمد شوقي: ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء وجاء في القرآن الكريم: “وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى”. وفي الابتهال: “محمد.. محمد.. محمد”. وفي ميمية شوقي أيضاً التي أطلق عليها “ريم على القاع” جاء: محمد صفوة الباري ورحمته وبغية الله من خلقٍ ومن نسم وكأن الحرف العربي يتنسم هواء المعنى من تلك الأعمال التشكيلية التي بدت الألوان فيها محسوبة لتعذية معانيها والتي احتوت تلك النظم اللغوية الفريدة. لقد نفذت اللوحات التشكيلية المطعمة بالحروفيات بإيحاءات رمزية معبرة عن قوة الكون في العطاء، ذلك المعنى الذي تجلى في كل رمز من رموز النصوص المخطوطة. في لوحة خالد المقدادي نجد البياض والازرقاق الخفيف الممزوج بشعرية أحمد شوقي “ولد الهدى فالكائنات ضياء”. كما استخدم حسام عبدالوهاب تداخلا حروفياً جميلاً، بينما شدد علي رضا محبي على تفخيم الحروف باللون الأحمر القاني على أرضية سوداء مبرزاً هذا التعشيق في مسالك الحروف ببعضها وكأنها كون معقد يتداخل، ينحني ويتراكم وينسكب كأنه شلال ضوء أحمر، بركان متوهج من البريق آت من عالم سماوي غامق في الأعالي. النظرة الفلسفية من جانبه قدم بيمان بيرو من إيران كيفية النظرة الفلسفية لنزول الحرف العربي في القرآن الكري،م نزول كوني على شكل غيمة أو دوامة من ريح ملتفة آتية من سماوات عليا إلى الأرض، هابطة بالاخضرار المطعم بالأصفر الفاتح والرصاصي الممزوج بازرقاق واسوداد السماء، هالة كونية من حروف آتية، حروف تقول: “محمد صفوة الباري ورحمته”. من جانب آخر يكرر ثائر هلال من سوريا اسم الرسول الكريم “محمد” 63 مرة هي ما يعادل عمر الرسول الكريم يكرر الاسم ببياض على أرضية زرقاء ورصاصية وما بينها وبخط أسود جاء النص الشعري: محمد صفوة الباري ورحمته وبغية الله من خلقٍ ومن نسمِ وينشغل تاج السر حسن بالنص الشعري: هو الحبيب الذي تُرجى شفاعته عن كل هول من الأهوال مقتحم في تناغم لوني بين الأسود في قاع اللوحة والأحمر على جانبيها والأصفر في وسطها ويحتل الحرف الكتلة الوسطية في انتقال جميل في الحجم والتقابل والانسيابية مع ترصيع بالأخضر والأزرق والأصفر. التجانس التكراري وحين ننتقل إلى الخط العربي بلوحات المعرض نجد هذا التجانس التكراري مع تصدر لوحة بعنوان “القصيدة المحمدية”: محمدٌ ضاحكٌ للضيفِ مكرمةٌ محمدٌ جارُه والله لم يضم محمد زينة الدنيا وبهجتُها محمدٌ كاشفُ الغماتِ والظلمِ هذه اللوحة من إنجاز الفنان فلسفي الذي وازن وقابل بين الأشكال حيث كانت التوازيات رائعة لديه بين التقابلات في المربعات والمستطيلات مع تذهيب يحيط باللوحة التي حملت اسم “محمد”. بيت من الشعر في الأعلى يقابله بيت من الشعر بالأسفل ومربعات خمسة تقابلها خمسة أخرى، كل ذلك في تجاوب وتناظر قل مثيله. في عمل الإسبانية نورية غراسيا التي خطت قوله تعالى: “لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن...” إلى آخر الآية التي تنتهي عند “مغفرة وأجراً عظيماً” نجد هذه البراعة التكوينية، كذلك صباح الأربيلي البريطاني من أصول عراقية، يجاوبه من هناك الخطاط فلسفي أمير أحمد الإيراني وهو يخط قوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”. أما آدم صقال الخطاط التركي فإنه يخط وصف الرسول الكريم بعذوبة وانسيابية وتقطيع جميل يناظر، بل يساوي بين حروف الأجزاء مستغلاً تركيبة السجع وتناظره فنياً ليقسم لوحته الخطاطية حيث وصف الرسول: “لم يكن بالطويل الممغط، ولا بالقصير المتردد كان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط، كان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمظهم، ولا بالمكلثم وكان في وجهه تدويراً أبيض مشرب بحمرة، أدعج العينين...” الرؤية والتقسيم ولا تقف عند هذه الرؤية بالتقسيم، بل ترى كيوان يد إلهي من إيران وصباح الأربيلي وحاكم غنام من العراق ومحمد فاروق الحداد من سوريا، نرى كل واحد من هؤلاء الخطاطين المهرة له رؤية في رسم هذا الوصف الدقيق حيث توخى الخطاطان “حاكم غنام ومحمد فاروق الحداد” التقابلات في 4 دوائر، اثنان في الأعلى والأخريان في الأسفل على الزوايا، بينما احتل الوصف دائرة كبرى في الوسط وتحتها جميعاً “وما أرسلنا إلا رحمة للعالمين”. أما محمد ديب جلول من سوريا فقط خط قوله تعالى: “لقد صدق الله رسوله الرؤيا”. واتبعه مثنى عبدالحميد العبيدي من العراق أيضاً. فنانون بارعون هم أحمد أمين شمطة ومحمد فاروق الحداد م سوريا وفرهاد قورلو من تركيا ووسام شوكت من العراق، خطوا الحروف الأولى فأجادوا وعشّقوها كونياً وتقسيمياً جميلاً فأبدعوا. في مقابل كل ذلك نجد 32 لوحة زخرفية قسمت إلى مجموعتين، الأولى من اعتنت بالدائرة وزخرفتها، والثانية من قدمت رؤيتها في المستطيل وروعته وكلاهما ذهبت واتخذت من الورود والأغصان وورق الشجر لها طريقاً وأسلوباً. لوحة زخرفية بدائرة كونية، لفيكن تكنار وأخرى لعائشة غول تركمن من تركيا حملت الدوائر المرصعة بالمثلثات في دقة متناهية يناغمها سيد محمد سيد هاشم ومهدي إيراني من إيران. في الجانب الآخر نجد في الزخرفيات المستطيلة والمربعة لمحمد عبدالحميد العبيدي ومصعب شامل الدوري من العراق محاولة لتقديم حلية غلاف القرآن الكريم، في الوقت الذي قدم محسن أقاميري من إيران حلية مستطيلة لورقة قرآنية يكتب في وسطها سور من هذا الكتاب المقدس. أما أمينة صوقلة من تركيا فهي قد قدمت أيقونة مركبة واحدة فوق الأخرى في إشارة إلى الكمثرى الجميلة في حلية رائعة. معرض تدخل فيه إلى روح الحرف العربي وتجلياته، معرض يتسع فيه خرم الإبرة إلى رحاب سماوات شاسعة تنهل منها الروح عذوبة الحرف ورؤاه ومعنى صياغة الكون حرفاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©