السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصص وحكايات على جنبات «قصر الحصن»

قصص وحكايات على جنبات «قصر الحصن»
21 فبراير 2014 22:31
أشرف جمعة (أبوظبي) - بدت عليه علامات الدهشة وكثرة الحديث مع النفس، حين أخذ يقارن بين ما يراه في قصر الحصن من ملاح الحياة القديمة، وتراثها الذي يفخر به أهل الإمارات، وبين ما أصبحت عليه بلاد تحتضن أعلى بناء في العالم مجسداً في برج خليفة.. بلاد أعلن بالأمس القريب عن استضافتها فعاليات إكسبو الدولية 2020.. بلاد صنعت حاضراً ومستقبلاً في فترة قصيرة تصنف ضمن الإعجاز البشري في نشأة الأمم.. بلاد تتحدث عن خدمات إلكترونية تتحلى بصفات ذكية.. بلاد حققت المفهوم الصحيح للعيش الكريم، ورغم كل هذا تعتز بماضيها وتفخر بموروثها، وتبذل قصارى جهدها ليبقى ذلك حاضراً أمام ذاكرة الأجيال، يعطيهم دفعة قوية نحو مستقبل تخطط فيه القيادة الرشيدة لسنوات مقبلة، وقبل أن تنتهي المدة المحددة يتحقق الهدف، لتتواصل مسيرة البناء والتقدم. ملامح أحد المراسلين الأجانب الذي بدت عليه علامات الدهشة في جولة للإعلاميين، نظمتها هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة نهاية الأسبوع الماضي، للاطلاع على معالم قصر الحصن، لم تكن تنبئ عن هيئته، والبلاد البعيدة التي جاء منها للعمل في إحدى الجهات الإعلامية بالدولة، كما يروي أحد المدربين التراثيين الذين يضطلعون بمهام التعريف بالتراث الإماراتي، ولم يدر أن هذا الأجنبي سيتوجه إليه بالمصادفة البحتة ليتعرف منه بصورة مقاربة على الحياة الإماراتية القديمة، بمظاهرها الحيوية، ومدى صلابتها وقدرتها على البقاء نابضة في أجواء الصحراء، حتى وصلت إلى قمة المدنية والتحضر. وضع المراسل الصحفي الذي فضل عدم ذكر اسمه، يده على كتف المدرب التراثي، وقال له في لهجة عربية غير خالصة: ما قصة هذا القصر الذي يبدو ساكناً هادئاً مطمئناً يطل من عصره القديم، على أجواء الحاضر المتغير؟!، وما الذي يريده هؤلاء الخبراء المتمرسون من أعمال الترميم وصيانة الأماكن الأثرية من هذا الصرح التاريخي؟ وهل من الممكن أن يفلحوا في استعادة الوجه القديم البهي وابتسامته الغائرة في حضن الأيام والسنين؟ حضارة متكاملة فأجابه المدرب التراثي وعلامات الدهشة مرسومة على وجهه من أين لك بهذه اللهجة تخطئ حيناً في نطق الحروف العربية وتصيب في أحايين كثيرة، فرد عليه ووجهه تعلوه ابتسامة صافية، أجيد ثلاث لغات، الإنجليزية والفرنسية والعربية، وهو ما سهل علي الحصول على وظيفة مراسل صحفي في الإمارات، وإني لحديث عهد بأبوظبي، وكنت أظن فور وصولي إلى هذا المكان أنني لن أرى إلا عالم المال والأعمال، وشركات البترول الضخمة، لكنني فوجئت بحضارة متكاملة وأبنية تطاول السحاب، وأناس ينعمون بالعيش في بلاد أضحت رمالها حبات لؤلؤ ونور، هنا قاطعه المدرب التراثي بقوله: إنني أجد في رؤيتك لأبوظبي حرارة الصدق، وجمال الاستمتاع، لكن أسألتك كثيرة عن قصر الحصن وطبيعة المهرجان، والإجابة عنها ليست مستحيلة، فاتبعني حتى أروي عطشك، وأريك الماضي والحاضر يلتقيان عند منبع واحد. بئر ماء قصر الحصن الذي يضرب بجذوره إلى ما يقرب من نحو 250 عاماً كلها شاهدة على حياة بدأت باكتشاف بئر ماء إلى أن وصلت إلى ذروة الحضارة، فأضحت بلادنا مقصداً للناس، وها هو القصر يشهد الاحتفال به وبأعمال الترميم التي تزيل عنه الطبقة البيضاء التي أضيفت له في الثمانينيات، وأظنك لن تجد صعوبة في معرفة تاريخ القصر كاملاً مما ستحصل عليه من بيانات صحفية، وكتب تجلو حقيقته الناصعة، خاصة أنه حظي باهتمام بالغ من المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، ولم يزل يحظي باهتمام قادة الدولة الكرام في هذا الوقت، لكن دعني أصحبك في رحلة عبر البيئات التي شكلت ملامح الزمن القديم في بلادنا، وحتى ترى بعينيك أن الرجال الذين عاشوا في رحاب البحر ومارسوا الصيد، وتآلفوا كأسرة واحدة، هم الذين كانوا نواة للأجيال الجديدة، وأن حكام الدولة الكرام رسموا معالم الطريق، فاجتمع شمل الإمارات تحت قيادة حكيم العرب الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه، الله، فجرت في عروق الأرض ومفاصلها دماء التجديد المشبعة بعطر الأصالة. سر النسوة في اللحظة ذاتها تبع المراسل الصحفي المدرب التراثي وهو مذعن له، طائع لكل ما يبديه وكأن لسان حاله يقول «سأستطيع معك صبراً وكيف لا أصبر على ما يملأ القلب ويحيي نكهة الماضي في الوجدان»، فقال المدرب انظر.. هنا تنكب الحرفيات الإماراتيات على الصناعات التراثية القديمة، وكلما صنعت واحدة منهن زياً أو غزلت من الخوص شيئاً أو أنتجت عطراً، شعرت بأنها لم تزل على قيد الحياة، هؤلاء النسوة يعشن الماضي بكل تفاصيله في أجواء الحاضر، ولا تسلني كيف استطعن ذلك، فهن سر من أسرار الموروث الشعبي الذي يكبر يوماً بعد آخر في أجواء الإمارات، بفضل هؤلاء النسوة اللواتي لم يغرهن بريق المدنية، وأنوار الحضارة، ولم تسرق منهن كينونة الحياة البسيطة التي عشنها منذ خمسين، أو ستين، أو سبعين، أو ثمانين عاماً، ورغم ذلك دائماً يشعرن بالرضا. محبة الماضي وجد المراسل الصحفي نفسه يسأل ما هذا الركن الذي تقف فيه الإبل متجاورة وادعة وكأنها تتلاقى مع بعضها بعضاً؟ وما كل هذه المظاهر من الأسواق الشعبية والكلاب والخيم؟ وما بال هؤلاء الرجال يجلسون ويتسامرون ويحتسون مشروباً في فناجين صغيرة بتلذذ وأناة؟ وهم وادعون لا يظهر عليهم أرق ولا نصب، فقال له: ما رأيته يمثل جانباً من حياة الصحراء التي كان الجمل بطل العرض فيها، فهو يا صديقي رفيق أبناء البادية والسفينة التي تجوب الصحراء ذهاباً وإياباً، وهو وسيلة المواصلات ونقل البضائع، والرفيق والصديق والأنيس، فهو مخلوق لديه أخلاق وشمائل حلوة مثل البشر، وأما الرجال الذين يجلسون في ذاك الفناء المصنوع من الجريد، فهم يتمثلون المجالس القديمة، في الظهيرة، ويصطلون بقليل من النار، ويحتسون القهوة العربية التي لها آداب وتقاليد، وفي رحابها يتسامرون ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في شؤونهم في حميمية كاملة، وأما الكلاب فتسمى السلوقي وتستخدم في صيد الغزلان والأرانب، والنخيل الذي تراه في كل مكان هو الظلال التي تقي من الحر، ويتفيأ الناس تحت ظلالها، فقال المراسل أرى أنكم من أكثر أهل بلاد الله محبة لماضيهم، رغم أن الناس تفر من الماضي، حتى ولو كان جميلاً، ولا يرجعون إليه إلا عبر لقطات خاطفة مما تصوره كتب المؤرخين، وتصفه أقلام الباحثين، ورغم ذلك فإنني لن أشعر بالراحة حتى أصل إلى الأسباب التي جعلتكم في هذه الراحة التي يحسد عليها المؤمنون الآمنون المطمئنون، والعجيب أنني ما أرى فيكم إلا وجوهاً مبتسمة، وعقولاً متفتحة، وأناساً يرغبون في مد يد العون إلى القريب. خيمة وطعام ثم سكت قليلاً وخيم الصمت على الرجلين اللذين التقيا بلا موعد ودون ترتيب، إذ كلاهما لم يكن يعرف الآخر، ولا كيف جرى الحديث بينهما على هذا النحو، ولم يغير طبيعة هذا الموقف سوى أن اخترق أجواء الصمت بصوته الرخيم المدرب التراثي الذي ناف على الستين، إذ قال لصاحبه هذه جزيرة أبوظبي وركنها الذي يشبه إلى حد ما الحياة القديمة، وكما ترى، فرجال الشرطة منبثون في كل مكان بأزيائهم القديمة، وأمامك مدرسة للصغار بفنائها الواسع، وحجراتها المبنية من الجريد والخشب، ولعلك تدرك أنه هنا كانت البدايات التي تلقى فيها الآباء والأجداد معارفهم من معلميهم الأوائل، وفي أثناء السير أدخله إلى خيمة تعج بصنوف من الطعام الشعبي، فأطعمه اللقيمات فتذوقها وأثنى عليها، ثم وضع أمامه الهريس فالتهم منه ما استطاع، لكنه أعجب بالخبيص والبلاليط، وسأله هل هذه الأطعمة إلى الآن تطهى في دوركم؟ فأجابه المدرب التراثي نعم، وإنها أشهى ما تحبه النفس وتستسيغه الأفواه وتلوكه الأسنان. ضوء آخر فطلب منه المراسل أن يذهب ليقترب من قصر الحصن، وحين اقتربا منه قال المراسل: إن هذا البناء ليس مجرد حجارة متراصة وأعمدة قائمة، لكنه ضوء آخر، ينفذ إلى كل قلب، فيجدد دورة الحياة ويضخ في النفوس الثقة ويبعث في الروح الجمال ولولم أزر قصر الحصن لظللت تائهاً لا أعرف عن حضارة الإمارات إلا النزر اليسير، وها أنا اليوم أمسك بعصا الأيام الماضية لأشق طريقي إلى حضارة اليوم التي ظللت أمة وبنت مجداً ورسمت طريقاً لشعب يرتدي كندورة الصفاء، ويضع على رأسه عقال الصبر، ويدوس بقدميه على أرض دخلت المستقبل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©