الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأدونيسية.. شعرية الحواشي والتفاسير

الأدونيسية.. شعرية الحواشي والتفاسير
19 ديسمبر 2007 00:32
استدعى الملف الذي فتحه ''الاتحاد الثقافي'' في عدده الثالث تحت عنوان ''هل انتهت الأدونيسية؟''، مجموعة من الردود والمشاركات لشعراء ونقاد عرب، كان لهم رأيهم في هذه الظاهرة الثقافية المثيرة للجدل، فثمة من يرى أن هناك تراجعاً الآن لحضور أدونيس، وبعضهم قد ''يبالغ'' ويعتبر أن ''الأدونيسية'' قد إنتهت أو كادت أو في طريقها إلى النسيان· وهناك أيضاً من يتمسك بالقول إن ''الأدونيسية'' لا يمكن أن تموت ويذهب - في مبالغة مقابلة - إلى أنها قد سبقت عصرها، وانها ستفهم أكثر بقيمتها في أجيال لاحقة! تسمية للسخرية حلمي سالم مصطلح ''الأدونيسية'' أطلقه خصوم أدونيس للسخرية من الشعراء الذين تأثروا به، أما أدونيس نفسه فلم يقل بالأدونيسية، فأدونيس علامة على اتجاه وإشارة إلى طريقة في العمل الثقافي والكتابة مثل ابن عربي واحمد شوقي وابي تمام وطريقته في الكتابة هي التي تأثرنا بها ونحن لها محبون وهذه الطريقة تتلخص في: الاجتراء في الكتابة وعدم الركون إلى التكلس والتقليد والتجديد واعادة إنتاج للحياة، والاجتراء على اللغة، وهو ما يعبر عنه الخصوم بمصطلح ''التفجير اللغوي'' ولا ضير في ذلك فالمهم هو إبعاد اللغة عن مسارها التقليدي، ونقلها من مجرد أداة للاتصال إلى أن تكون لغة مليئة بالجمال والمجاز، وفي اللغة لا أحد يخترع الفاظاً جديدة، ولكن يمكن إنشاء علاقات جديدة بين الكلمات والألفاظ فتنتج معان وافكاراً جديدة، وهناك أيضا التنقيب في التراث العربي والبحث عما هو ايجابي فيه والانتماء إليه ومقاومة ما هو سلبي· لقد أسيء فهم أدونيس، وقال خصومه إنه ضد التراث العربي والإسلامي وضد اللغة العربية وهذا ليس صحيحا فهو مع التجديد الايجابي والمتقدم في التراث، وهو ضد الفكر الأشعري ولكنه اكتشف المتصوفة الكبار مثل ابن عربي والنفري وهو مع ابن رشد وفي الشعر هو ضد المتنبي ولكنه مع أبي تمام· إن ادونيس هو الذي اكتشف أن السوريالية الفرنسية متأثرة بالصوفية الإسلامية ونبهنا إلى ذلك ونبه الغرب أيضا فكيف توجه اليه تلك التهم السوريالية؟ ü شاعر مصري ليس من اليسير التحدُّث عن أدونيس في هذه العجالة، ذلك أنَّ مصطلح ''الأدونيسيَّة'' قضيَّة تستحق الفحص، وإبراز أثرها في الثقافة العربيَّة المعاصرة، وأولى درجات الفحص عنها التيقُّن من صِدْق هذه التسمية، فهل بلغ من شأن أدونيس أن يشقّ له طريقة في الشِّعر أو الفكر تستحقّ أن تُنْسَب إليه؟ وهل لهذه الطريقة ـ أو المذهب ـ أشياعٌ ومريدون؟ وما ملامح هذه ''الأدونيسيَّة''؟ وهل كان أدونيس فيما يصدر منه: شاعرًا ومفكِّرًا وناقدًا ـ أصيلاً؟ أم متَّبِعًا؟ أم مختلِسًا؟ أظنّ أنّ هذه أسئلة تعنو لها غاية كلّ من رام درْس أدونيس وتتبُّع أثره في الثقافة العربيَّة المعاصرة· وأحسب أنَّ أدونيس، وقد ذاع كتابه ''الثابت والمتحوِّل'' في ثقافتنا، مأسورٌ إلى نظرٍ تقليديّ في معالجة التراث العربيّ القديم، وذلك أنَّه، إذا ما بحثنا في عُمْق كتابه هذا، لم يخرج عن تقسيم التراث إلى أصول ''ثابتة'' وأخرى ''متحرِّكة''، ولا أظنّ أنَّ هذه القراءة صحيحة إذا اختبرناها في مسار التاريخ الذي تحوَّل على يدِه إلى حالة ساكنة وأخرى متحرِّكة، دون أن يحفل بما تسميه القراءة الماركسيَّة للتاريخ ''الصراع''، أو ما يُطْلَق عليه في المصطلح القرآنيّ ''التدافُع''· وكان أدونيس إذا لم تَجُزْ علينا مصطلحاتُه واشتقاقاته البديعة وفيًّا للقراءة التقليديَّة، في توسُّلها بالشكليَّة والذَّرِّيَّة، وكتابه هذا، في خير أحواله، أضحى حلقة في تتبُّع قراءة التراث العربيّ في الفكر العربيّ المعاصر، ولا أظنّ أنّ دارس ذلك التراث في حاجةٍ إلى أن يقف على هذا الكتاب وقوف شحيح ضاع في التُرْب خاتمه، وإنْ كان الإنصاف يقتضي قراءة أثر هذا الكتاب في سياق ما حَفّ به من أقاويل ذات طبيعة إديولوجيَّة، وفي سياق الولع بالتراث وتلقِّيه، ممَّا شاع في تلك الحقبة من التاريخ الذي ظهر فيه ذلك الأثر، حتَّى لو أراد أدونيس ومريدوه أن يظهر في الثقافة العربيَّة المعاصرة، في هيئة من جاء بـ''النبوءة'' أو ''الرسالة''· ثمّ ما قَدْر ''الأصالة'' في تلك القراءة التي شاعت وذاعت؟ وما الأثر الذي أحدثتْه في عقل قرَّائه ووجدانِهم؟ إنَّها أسئلة تستحقّ مزيدًا من الفحص والدَّرس· إنَّني أحسب أنَّ أدونيس في اختياراته الشعريَّة كان أعمق أثرًا، وأقرب إلى قلوب القرَّاء، ولعلّ اختياراته تلك أنْ تكون ''حماسة'' جديدة، تنبئ عن ذوق رفيع، وبصر عميق، ورؤية فَذَّة، وكُتِبَ لاختياراته من الذيوع والرِّضا ما لم تحْظَ به جمهرة من الأعمال المماثلة، وإنْ كان التثبُّت من ذلك قمين بأن يشدّ العزم على درس هذه ''الحماسات'' الجديدة· وأدونيس ليس كيانًا ثابتًا، ولكنَّه منتمٍ إلى تاريخ معقَّد، ويفعل ذلك التاريخ فيه فعله، ولا أظنّ أنّ متْن نصوصه النثريَّة والشِّعريَّة ذو سطْح مستوٍ، ولكنَّه ذو أخاديد ونتوء، فأدونيس وثيق الصِّلة بالتاريخ وأسبابه، يبعث في قارئه الدَّهَشَ والحيرة، ويتقلَّب في جُوَاء مختلفة، صعودًا وهبوطًا، ويمينًا ويسارًا· وشعره، على اختلافه، دليل على عمق أثر التاريخ فيه ـ والتاريخ، هنا، ليس أثرًا هشًّا، ولكنَّه بالغ العُمق ـ واستطاع أدونيس لأسباب بعضها أدبيّ وبعضها حزبيّ أنْ يصنع قرَّاءه، وأنْ يصنع، كذلك، نقَّاده، والذي يبدو أنَّ لشيْء من تلك الأسباب يدًا في الترويج ''للأدونيسيَّة''، وإنْ كان هذا المذهب أو هذه الطريقة في القول والفكر، تحفزنا على البحث عن مذاهب أخرى في القول، فهل بالإمكان التيقُّن من ''سيَّابيَّة''، و''نزاريَّة''··· إلخ· إنَّها أسئلة ليس غير! وهل بالإمكان تتبُّع أثر أدونيس في الوقت الحاضر في شعرائنا! أظنّ أنَّ التجارب الشِّعريَّة الحديثة تبحث عن تفرُّدها، وعن لغتها الخاصَّة بها، فهي تجارب لا تحفل، كثيرًا، بأدونيس أو بغيره من الروَّاد، ولعلّ عددًا من تلك التجارب قد ورث عن أدونيس توثَّبه وجرأته، ولكن لم يرث عنه موهبته وثقافته! ü ناقد سعودي برغم ما يحدثه من أثر واضح للدهشة بي خصوصا حين أشاهده يلقي نصا بكامل التجلي أعتقد أن أدونيس كان مفكرا كبيرا ولا زال، بهذا الاعتقاد المبدئي الأول يمكنني القول إني أرى فيه مفكرا بالدرجة الأولى قبل أن يكون شاعرا· فمثلا حين نقرأ كتابه الفكري ''الثابت والمتحول'' والذي أسس لفهم جديد في ثقافتنا المعاصرة نجد أن ثمة بصمة فكرية كبيرة تركها هنا تحديدا وهذا ينسحب على ما كتب أدونيس في الشعرية العربية والصوفية والسريالية وغيرها· صحيح كان لأغاني مهيار الدمشقي وما بعده أثر في الشعر العربي في حينه لكني أقول كما قلت قبلا إني أراه مفكرا كبيرا أكثر منه شاعرا· أعتقد أن هناك شعراء أكبر من أدونيس أمثال نزار قباني ودرويش اللذين تركا أثرا شعريا انعكس على أجيال تلتهم ذلك أن لهم قاموسا لغويا خاصا بهم ويدل عليهم· ويمكنني القول إن شعر أدونيس رغم جماله لايعدو كونه تعبيرا فكريا لما آمن به من رؤى وقضايا قدمها عبر كتبه الفكرية والتي أراها كما قلت سابقا أوقع أثرا من شعره ،أدونيس لم يخلق شاعرا· ü شاعر سعودي رافق أدونيس حركة الشعر العربي الحديث المعاصر منذ أكثر من نصف قرن، فهو من مؤسسي مجلة ''شعر''، وبعد ذلك انفرد بنفسه في اصدار مجلة ''مواقف'' وكانت له كتابات في أكثر من موقع في الصحافة الأدبية، وهو لا يزال متمتعاً بحضور اعلامي حتى اليوم، على كل حال هو من جيل الرواد الأوائل أمثال البياتي وبلند الحيدري ومحمد الماغوط وسواهم· أدونيس يساوي مجمل ما قدمه لحركة الشعر العربي الحديث المعاصر من ابداع شعري وتنظير في الشعر لأنه معني بالناحتين معاً، ثمة شعراء آخرون من جيله ومن أجيال لاحقة اهتموا جزئياً بالتنظير للشعر من خلال كتابات السيرة لكل منهم، كما حصل مع نزار قباني ومع البياتي ويوسف الخال، لكن أدونيس أصدر كتباً في التراث والمعاصرة من ''الثابت والمتحول'' مروراً بـ''الشعرية العربية المعاصرة'' وصولاً إلى ما يكتبه اليوم من ''مدارات'' في صحيفة ''الحياة''، لذلك فهو شاعر ومنظر في الشعر· بالنسبة لتجربته الشعرية يمكن القول إن أدونيس انسل من تحت سعيد عقل، لكنه انفتح على التجربة الشعرية الحديثة بصدر أكثر رحابة، خاصة التجربة الغربية، في حين أن سعيد عقل بقي مغلقاً منذ أكثر من خمسين عاماً· انفتح أدونيس على سان بيرس وعلى إليوت، وعلى أسماء الحداثة الأميركية والفرنسية، وظهرت بصمات ذلك الانفتاح في تطوير جذره اللغوي السعيد عقلي· كما أنه انفتح بصورة المحاور على التراث العربي (له مختارات من الشعر العربي) وكان لهذا الانفتاح على هذه الاتجاهات معاً ان ولد الخلطة الأدونيسية، وهي خلطة يمكن تمييزها بالتالي: 1 ـ هذا الشاعر يتولد عنده الشعر ليس عن طريق الانبثاق (كما عند السياب والماغوط) وانما من خلال تصنيف هندسي ومعرفي ولغوي ما يجعل حرارة القصيدة مرتبطة ببرودة التأمل والهندسة التي تجنح إلى اللغة· 2 ـ اللغة عند أدونيس في مختلف مراحلها هي ذات عمق تراثي، فهو أميل لأن يكون محافظاً منه متجاوباً مع بلاغة الشعر العربي على امتداد عصور طويلة· 3 ـ في إطار الهندسة واللغة التراثية المحافظة كتب أدونيس تجارب شعرية بين الشعر المرسل والشعر الحر المؤسس على التفعيلة، والشعر الموزون وزناً تاماً، بصورة تكاد تكون متلازمة، هذا اذا غضضنا الطرف عن حماسته المبكرة لقصيدة النثر من خلال بيان مجلة ''شعر'' وارتداده عن هذه القصيدة، وانكار أبوّته لها، معتبراً نفسه أقرب في هذا المجال إلى سان بيرس على صعيد التجربة· الروح الشعرية لدى أدونيس طالعة من الحوار مع التراث أكثر مما هي ناتجة عن الحوار مع روح العصر، لكن هذا الحوار مع التراث، الذي تجلى في أكثر من موقع، وآخر هذه المواقع ثلاثية ''الكتاب''، هو انتقائي وليس شاملاً، وفي أحيان كثيرة نقع على التاريخ رابضاً فوق صدر الشعر، ونرى الشعر غارقاً في الحواشي والهوامش والتفاسير، وقد سبق لي أن كتبت قراءة لـ''الكتاب'' عنوانها: ''البحث عن إبرة الشعر تحت قش التاريخ''، ما دعا الشاعر أدونيس لأن يرد باختصار ولكن بكثير من اللياقة الأدبية، فهو يتمتع بديبلوماسية جيدة· في مراحلها الأولى كانت تجربة أدونيس جذابة لجهة الغرائبية، وخدمة الاسم، كما لناحية كونه حاضنة شعرية في مجلتيه ''شعر'' و''مواقف''، وهو الأمر الذي جذب اليه عدداً كبيراً من الشعراء، بينهم سليم بركات، كاظم جهاد، كمال أبو ديب، ومن النقاد أيضاً مثل منير العكش، لكن العجيب في هذه التجربة الكهنوتية في الشعر أن أبرز من كانوا من حواريي الرجل انقلبوا عليه بشراسة لا نظير لها، فسليم بركات لا يكاد اليوم يطيق سماع اسم أدونيس، ومنير العكش يقف ضده بشكل واضح، ويبقى كاظم جهاد هو الأشد خصومة له، فهذا الشاعر العراقي المقيم في باريس أصدر كتاباً بعنوان: ''أدونيس منتحلاً'' تتبع فيه مصادر أدونيس من الشعر الفرنسي والأميركي، قصيدة تلو أخرى، مع اثبات المراجع· رحم الله بلند الحيدري الذي قال لي يوماً: ''أدونيس يربي كائنات تأكله''· أرى أن السحر الأدونيسي الأول ما كان له أن يستمر لأن الكثير منه قائم على أشياء من خارج مملكة الشعر، والملاحظ انه منذ أكثر من 15 عاماً نرصد تراجعاً بل انحلالاً في الأدونيسية كنمط تعبيري في الشعر لصالح ''الماغوطية''، جزئياً، ولصالح ''الأنسي حاجية'' بصورة موازية· اعتقد أن النصف الأول من نتاج أدونيس الابداعي كان حيوياً جديداً شجاعاً عميقاً، خاصة في ''أغاني مهيار الدمشقي'' في حين سيطر البرود الذهني واللغوي على القسم الآخر من شعره، وفي الكثير من الأحيان نراه يستعير من نفسه ومن ماضيه ليرضي حاضره· لقد أخذ الرجل موقعه في الخريطة الشعرية وانتهى الأمر· أما بالنسبة لأدونيس المنظر فإن قراءة متكررة، وفق ايقاع زمني متباعد، لكتبه حول الصوفية والسوريالية والثابت والمتحول والحداثة الشعرية تجعلها تخسر الكثير من قيمتها، بما يبرر القول إن الرجل ليس مهماً في التنظير بمقدار أهميته في الإتباع الشعري، إلا أنه بالمقابل يمتاز بحيوية عجيبة وبنشاط جسدي يتنافى مع تقدمه في السن، وهي مسألة لا أدري إن كانت تحسب له أو عليه، ربما كان النشاط النوعي أسلم· ü شاعر لبناني شكّل أدونيس، أو لنقل الظاهرة الأدونيسية، نقلةً نوعية في الشعر العربي المعاصر، لقد فتحت هذه الظاهرة الشعر على مصراعيه لما يمكن أن أسمّيه عاصفة الأسئلة، ففي الأجواء الجديدة التي اجترحها أدونيس غاب اليقين الذي كان قد هزّه كلّ من السّيّاب والبياتي ونزار قبّاني في وقت من الأوقات، ولاحت في الأفق تلك القصيدة الشكّاكة الحرّة المركّبة والمفتوحة على الاحتمالات، في هذه القصيدة أيضاً تجاور التّراث الشعري العربي مع إرث الحداثة العالمية، وقد رافق ذلك كلّه مجموعة من الاقتراحات قدّمها أدونيس من خلال تنظيره للكتابة الشعرية الجديدة· مثل هذه الكتابة الجديدة وهذه الاقتراحات التي استمرّ أدونيس بتطويرها لاحقاً لاقت صدى واسعاً في الوسط الشعري العربي سواء لدى محايثي أدونيس أو لدى الأجيال الشعرية التالية· شيء آخر يمكن الحديث عنه حول القصيدة الأدونيسية يتعلّق بالولادات الجديدة لهذه القصيدة، في إحدى المرّات قرأت قصائد لأدونيس في إحدى الصّحف العربية، وللتّو خيّل لي أنّني أقرأ شعراً جميلاً ولكن لشاعر فتى في العشرين من عمره، ما أريد أن أقوله هو إنّ أدونيس ظلّ مسكوناً بظاهرة تمزيق الجلد، والقفز في آفاق جديدة· ومنذ أوائل التّسعينيّات حتى الآن تعكّر المشهد الشعري العربي، مثله مثل المشهد السياسي والحالة الحضارية ككلّ، رياح عاتية ضربت هذا المشهد ورجّته بعنف بالغ، ومثلما تمّ انتهاك المحرّمات وتدنيس ما هو جميل في حياتنا فقد تمّت الإطاحة برموز الشعر العربي وذلك عبر تهميشها وزجّها في زوايا النّسيان، بدلاً من أدونيس ظهرت على السّطح المغنّية (س) ذات الجسد الباذخ الذي يعطّل الحواس! والتي تتنقّل من فضائية إلى أخرى كما لو كانت تتنقّل في حجرات بيتها، لم يعد أدونيس مهمّاً من وجهة نظر هذا الإعلام المعولم الذي يضخّ كلّ شيء فاسد ولا يأبه للشعر والفنّ الحقيقي، من جهة أخرى فقد هبّت علينا في العقدين الأخيرين عواصف الحرب الكاسحة التي لا تكتفي عادةً بتدمير المنازل والمصانع وإنّما تدمّر الشعر أيضاً والبنية الثقافية بشكل عام، وفي هذا المجال لم يكن مستغرباً من أعداء الأمّة أن يستهدفوا أهمّ ركنين ثقافيّين في العالم العربي ينتجان الثقافة ويضخّان قلب العالم العربي بدم الشعر والإبداع وهما العراق ولبنان· في أجواء الخراب هذه، أجواء الأفول والهزائم لم يعد هناك أحد يحفل بأحد، كما لم يعد أحد يتأثّر بأحد!! حتى أواسط الثمانينيّات كان الأمر معقولاً، على مستوى الجيل الجديد الذي ظهر في هذه الحقبة برزت قصيدة النثر كخيار شبه وحيد لشعراء هذا الجيل الذين تفاوتوا في المستويات والمرجعيّات، باستثناءات قليلة فقد كان نتاج هذا الجيل نتاجاً مربَكَاً ودون أيّة معايير ودون قيمة فنيّة تُذكر، ولم يعد لأدونيس علاقة إلاّ بالقصيدة التي يكتبها والتي هي لا تنتمي إلى الوزن أو اللاوزن بقدر انتمائها إلى الشعر· ü شاعر أردني شكل أدونيس على مدى نصف قرن أيقونة شعرية متماسكة، وليس بالسهولة التي نتخيل أنه بإمكاننا التهرب من ظلاله الراسخة على أي اقتراح جمالي قد يطرأ للقصيدة العربية خلال كل هذه السنوات الطويلة، على الرغم من دخول الشعر العربي في مفارق وأساليب وشغل حثيث وأكثر الأحيان عن عمد لقتل هذا الأب الشعري المؤبد· أعتقد أن تأثير أدونيس على الأجيال الشعرية السابقة كان أقوى بكثير منه الآن، أقصد الجيل الستيني والسبعيني على وجه الخصوص حيث سلطة الأب راهنة وقوية، السبعينيون بقي لديهم حياء نقدي تجاه مشروع أدونيس على الرغم من قوة تجاربهم وريادتها وتفوقها حتى على تجربته نفسها، الثمانينيون والتسعينيون ذهبوا إلى غير رجعة في شكل المقاييس المختلفة لوعيهم الجمالي، فالإعجاب الطفولي تحول إلى أسئلة ومواقف، والبطل أو المخلص الذي كانت قصيدة أدونيس تحمله دائما لن يحتمله التغير السريع الذي يضرب العصر والكون معا، وحاجتنا إليه استرجاعية مثل حاجتنا إلى شكسبير وأحمد شوقي مثلا، وجيلي لم تكن تتبناه لا رافعات حزبية ولا مؤسسات ولا مجتمع ولا حتى دولة، إضافة إلى الخلفيات الاجتماعية والثقافية التي تحكمه، جيل مختنق بالفروق السياسية والدينية وتحولات الصراع في المجتمعات العربية التي تلعب الدور الذي لعبته السلطة، وقد تكون هذه المجتمعات أسوأ بكثير من سلطاتها، زمن اختلفت مقاييسه وضروب عمائه· كل مشروع أدونيس الذي ابتدأه في خمسينيات القرن العشرين ومجلة ''شعر'' و''مواقف''، وبيروت التي كانت بيت المستقبل والداشرين من جهات المعمورة العربية لن تظل على حالها أيضا والأمكنة ستضيق حتى على أصحابها· ü شاعر سوري مقيم في أميركا أدونيس ليس شاعرا كبيرا كما دأب على إيهامنا أتباعه، فهو لم يكن سوى ظاهرة إعلامية أتقن صياغتها ونحتها وترويجها بذكاء مذهل وحس اتصالي عميق، وقدرة فائقة على رصد التحولات الطارئة، وتوظيفها لتغذية نرجسيته، وتأكيد حضوره البارز على الساحة، مستعملا كل الأساليب والطرق والممارسات، الشرعية منها وغير الشرعية· برز أدونيس منذ البداية بخروجه المتعمد عن كل سرب، ومحاولة التمرد على السائد في كافة المجالات الأدبية والفكرية والاجتماعية والسياسية، وبعث ''اللوبيات'' المساندة له في الساحتين الثقافية والاعلامية· وركب أدونيس كل الموجات، الاشتراكية والقومية والتحديثية والتحررية، وقفز من جميع العربات وهي تسير، ثم ارتمى في أحضان الغرب، يكفر، لأولياء نعمته هناك، عن ذنوبه، ويعلن لهم توبته، فتنكر لأصوله وهويته، وكثف من معاداته لابناء أمته، لقد تدهورت سمعة أدونيس في الأوساط الثقافية العربية إلى حد الهجوم عليه بالشتائم في القاهرة وانهمار دموعه أمام الحاضرين نتيجة شراسة الانتقادات الموجهة إليه· ü كاتب تونسي الشاعر والمفكر أدونيس ما يزال يمثل مرجعية ذا قيمةٍ كبيرةٍ لا غنى عنها، ولو إلى حدٍ أقل ممّا يستحقُ؛ نتيجة للعجز الثقافي السائد في الأوساط العربية العامة، وخلافاً لحال الأمم الأخرى في ما وراء حدودنا الجغرافية، وفي نفس الوقت، يبقى ظاهرةً فريدةً في الثقافة والشعر العربي الحديث، وسيبقى ما بقيت إبداعاته وأعماله· فإذا ما أفلتنا من أن نمر على خطى الشاعر، فلن نستطيع المرور ـ أبداً ـ كما نشأ، دون العبور خلال مؤلفات أدونيس الموسوعية الغنية، والمشغولة شغلاً احترافياً باهراً، قلما نجد لها نظيراً في الوسط الثقافي والإبداعي العربي الراهن· إننا ما نزال نجهل الكثير من أسرار أدونيس الإبداعية، ونغمطه الكثير من حقه؛ نتيجة لذلك، ولهذا لا يمكن الاستغناء عن اعتماده مرجعاً أساسياً في الشعر والثقافة بهذه السهولة والسرعة، ولا يمكننا أيضاً اعتبار أن أدونيس قد حقق أهدافه، التي لم ولا يؤكّدها شخصياً، لكي نوافق على أن الأدونيسية قد أكملت ما بدأته؛ مع الاعتراض على صواب العبارة! ü شاعر يمني من المسلم به في كل الدراسات النقدية التاريخية أن مجلة ''شعر'' قد أطلقت رؤية جديدة للشعر العربي، بناء وموضوعا ووظيفة، وأن أدونيس كان الأهم بين الذين تشاركوا هذه الرؤية، لأنه أعطى في تحديد أسسها النظرية، كما ونوعا، ما لم يعطه سواه من شركائه ومجايليه، لهذا ربما نتحدث عن الظاهرة الأدونيسية'' ونغفل السياق التاريخي لولادة هذه الظاهرة، وأسماء آخرين، حملوا مع أدونيس مسؤولية الدعوة وتبعاتها· ولعل من أسباب تمتعه بهذه الأفضلية، إذا صح التعبير، أن أدونيس كان قد تكرس شاعرا كبيرا في الأذهان منذ إطلالته الأولى، مما منحه وهجا متقدما وسطوة معنوية، فسميت لأشياء باسمه دون سواه· أما الظاهرة الأدونيسية فتحمل تفسيرات كثيرة، ولكنني أتصور أن المقصود من السؤال هو التحول الشكلي الذي طرأ على القصيدة العربية مع أتباع هذه الظاهرة، وحضور ما يسمى ''قصيدة النثر'' كبديل لكل ما أنتجه الشعر العربي من موزون مقفى· بهذا المعنى تكون الظاهرة هذه شكلية لا أكثر مع أنني ممن يفهمون الرؤية الجديدة التي أطلقها أدونيس أبعد وأعمق وأغنى من شكل القصيدة، وكأننا إذا أمام سؤال عن نفوذ أدونيس في ''شعراء النثر''، وردا على ذلك أقول إن من ''يتعاطون'' اليوم هذا النوع من الكتابة قد نسوا أدونيس وشوهوا مقاصده ومفهومه للشعر، ذلك أن هؤلاء، في أكثريتهم، قد اخذوا من أدونيس ما يتلاءم مع رغبتهم في اكتساب صفة ''شاعر'' دون أن يقبضوا على جوهر الدعوة التي تقوم عليها الحداثة· لذلك نرى الكثير من البهلوانيات الكلامية تتلطى بأدونيس لتؤمن لها شرعية ما، مع أن شرعية الشعر تأتي من شعرية النص، وليس من أي مرجعية أخرى· والمؤسف أن بعض ''أئمة'' معركة قصيدة النثر اليوم باتوا يعتبرون أنهم قد تجاوزوا أدونيس وأمثاله، وراحوا، من خلال مواقعهم في إدارة الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات، يبحثون عن أتباع لهم باعتبارهم رواد تجديد وحداثة· ü شاعر لبناني لا شك أن أدونيس هو من أكثر الشعراء والنقاد العرب إثارة للجدل، بدءًا باسمه أدونيس الذي اختاره لنفسه (وهو اسم لإله أسطوري) بديلا لاسمه الحقيقي علي أحمد سعيد أسبر، خارجًا على تقاليد التسمية العربية، ومرورًا بشعره الذي ظلَّ يجسد مقولة ''الخروج''، وانتهاءً بمشروعه الفكري والإبداعي الذي أثار سجالاً طويلاً بين النقاد والدارسين، وسيمياؤه الكاشفة ''الثابت والمتحول''· فقد سعى أدونيس منذ ''أغاني مهيار الدمشقي'' مرورًا بكل إبداعاته الشعرية إلى بلورة منهج جديد في الشعر العربي يقوم على خلق لغة جديدة وكسر معايير اللغة الكلاسيكية وتجاوزها من خلال التجريب، وكسر معايير الإبداع، هنا لا يعني الخروج على قواعد اللغة والنحو خروجًا عبثيًا بقدر ما يعني تكسير نمطية اللغة الرّسمية السائدة، أو تكسير ذلك المحرّم (التابو) الذي يستظل بعباءة القديم· ولا شك أن أدونيس استطاع بمشروعه الفكري أن ينقل تلك المسائل إلى فضاءات أرحب حققت له من المريدين والمعجبين بقدر ما حققت له من الكارهين والحاسدين والمستنكرين، حتى إن إدوارد سعيد وصفه بأنه ''الشاعر العالمي الأول'' في حين وصل منتقدوه إلى حدِّ وصفه ''بالباطني من الطراز الأول''، وهذا طبيعي جدّاً أمام شخصية أدونيس أو ''المختلف'' الذي أثرى المكتبة العربية والعالمية بإبداعاته القيِّمة، وإذا كان الإبداع وفق أدونيس هو التاريخ الحقيقي للبشرية، فقد استطاع بحق أن يجدّد على المستويين الإبداعي والتنظيري بل على المستوى المعرفي· أمّا عن القول بتراجع ''الأدونيسية'' أو انتهائها فهذا منوط بطريقة فهمنا للحركات الإبداعية والمدارس الفكرية، فهل الدعوة للحرية باعتبارها المطلب الأساسي للتجاوز، وهل تغيير الحساسية الفنية للأجيال، وهل الشك العميق في الثبات، وهل الدعوة لأن يثور الشاعر على نفسه ويبتكر قواعده، وهل صياغة رؤية مختلفة عن السائد أو المنجز، هل هذه كلها وغيرها يمكن أن تنتهي؟ أعتقد أنها ستبقى جزءًا من تاريخ تطور الفكر والإبداع، وستظل باقية، فشعر أدونيس ونظرياته بوصفها ثمرة من ثمرات تطوّر الفكر البشري، حيث منحها حضورها المتميز، لا تنتهي، ومهما قيل عن تجربته بأنها ''انتقائية'' أو ''نخبوية''، أو غير ذلك فهي ما تزال ماثلة فيما كُتِبَ عنه (معه أو ضده) عربيا وعالميًا، وفي مقروئياته·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©