الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحث عن المدينة في أقبية النساء

البحث عن المدينة في أقبية النساء
19 ديسمبر 2007 00:36
حالة من الفرح المعتقل داخل أسوار الجسد المصبوغة بلون الموت، تخبئها مسرحية ''نساء··· السكسو···فون'' المستوحاة من ''بيت برناردا ألبا'' للكاتب الاسباني غارسيا لوركا، و''المعربة'' بتصرف المخرج العراقي جواد الأسدي· تنبش المسرحية غضباً مراكماً انفجر في النص على أيدي نساء يبالغن في الرعونة على وقع فلامنكو شرقي المناخ· يضربن الأرض بأقدامهن بعدما صرن مكبوتات، معقدات، شرسات بفعل الظلم الذي لحق بهن· وكأن جواد أراد أن ينكأ احتقان المجتمع بمخرز العين التي تراقب وتسمع وتعاني قبل أن تنهار باكية على خشبة الحياة· هكذا تصبح بطلة المسرحية ''برناردا'' نسخة عن السلطة العربية حين تغدو ديكتاتورية في ادارتها للمنزل ''المهزوز'' بفعل غياب الدفء الداخلي والحوارات التي غدت عقيمة· داخل البيت ثمة رغبات مكبوتة ونوايا مبيتة ورقابة وتلصص وعيون شاردة الى البعيد· تخرق المسرحية بجمهورها العريض، صمت مدينة ما زالت في حداد وحذر وحزن· كانت أرصفة شارع الحمراء مسيجة بالدبابات والجنود والعيون التي تسهر للحراسة، حين أشهر جواد الأسدي وثيقة ولادة ''مسرح بابل'' في الخامس من كانون الأول (ديسمبر) الجاري· في ذلك الليل الشتوي الدافىء بخلاف العادة، تغني جاهدة وهبي في دور ''برناردا ألبا'' أنشودة الحياة: ''ربما الشوارع، المقاهي حذرة مترددة· الدبابات تنام على الأرصفة والجنود فارقوا أسرّتهم وأولادهم· ربما الاحتقان الخفي·· الحرائق تشعل البيوت· برغم كل ذلك لن أدع الزهور تذبل في حديقتي· ولا الحياة تجف على مخدتي''· أزهار الانشودة تفتحت وجعاً مبللاً بنص لوركا الحزين أكثر منا: ''آلاف الثيران، آلاف المسلحين، يمزقون قميص البلدة··· ليس من هواء نظيف يغسل الحدائق· لا مطر يسقي الحقول· الغجر أحرقوا عرباتهم بالحقل·· وبقيت وحدي''· تبكي جاهدة، وتبكي برناردا· يعلو الصوت، الضجيج، الصراخ، الحزن· ثمة ميت يغادر المكان· الميت زوج مغنية الأوبرا ''برناردا''· ذلك الرجل الذي أقعده المرض عشر سنوات في السرير· قبل ذلك كان زير نساء لم يتردد في التودد الى ابنته الصغرى ماجدولينا (ايفون الهاشم)· كان تافهاً، داعراً، ماجناً بحسب سجله العائلي، لكن زوجته أضفت الى مجلس عزائه الكثير من الأجواء الكربلائية· أجواء تضاهي سوداوية لوركا لتأتي نسخة شبيهة بالحزن العراقي والغضب والموت والوحدة· وحدها الابنة الكبرى أديلا (نادين جمعة)، تشبه في تمردها الروح الاسبانية: دلوعة، مغناج، غاوية تبحث على طريقتها عن المتعة وفن الحركة والطريق الى حرية الجسد خارج المنزل المغلق بأمر حداد من سيدته· وهناك الجدة الثمانينية التي فقدت شعرها وملامحها الجميلة، لكنها برغم ذلك تقاوم تقدم السن بمواظبة البحث عن رجل يشاركها السرير باعتبارها سليلة عائلة قوية، مثمرة، معمرة· أما الخادمة (عايدة صبرا)، أو مايسترو المسرحية، فإنها نجحت في تقديم شخصية أسرت الجمهور ببراعتها· فإذا بها تخطف الأنظار التي أخذت تلاحق كل شاردة وواردة تقوم بهما· كانت البطلة الحقيقية التي نافست برناردا، وربما تفوقت عليها من حيث الأداء والعفوية والانسجام والانصهار في الدور الى أقصى الحدود· مسرح وتشكيل داخل سنتر المارينيان في منطقة رأس بيروت، وفي الطريق الى صالة العرض، يمهد جواد الاسدي عمله المسرحي الجديد باثنتي عشرة لوحة تشكيلية للفنان العراقي جبر علوان· تأتي اللوحات بمثابة قراءة تشكيلية ل''بيت برناردا'' في إطار عقد زواج بين المسرح والفن· تعرّي اللوحات حركات متخيلة لنساء برناردا في إغوائهن وغضبهن وتمايل أجسادهن· كأنهن السندريللا التائهة تفتش عن مقاس قدميها في اللوحة، وعلى المسرح وعلى أرصفة العالم· يقول الأسدي: ''منذ التهجيات الأولى لتماريني على خشبة المسرح كان يسكنني مس شعري يقرّب المسرح من تلوينات الجسد· لذة العلاقة مع الفن التشكيلي أوصلتني بسرعة شديدة الى ألوان جبر علوان، واختراق هواجسه المسكونة بالبحث عن وردة الانثى المطمورة في الأقبية التحتانية للرغبات في مدن مكبلة محرومة من البوح الجسدي الأنثوي· لقد أفضت صداقتي مع جبر علوان الى مشروع جمالي وبحث جارف عن لذات وشهوات وانتظارات وسفر وقطارات ومدن وأرصفة ضخمة من التيه واللاجدوى''· لا شك أن الدعوة الى ''مسرح بابل''، تأتي بمثابة اعلان حياة في زمن يتكدس فيه الموت· تصبح الدعوة: لمّة، سمر، غناء، تشكيل ومسرح وبصمات عنيدة لا يمحوها رصاص غادر مثل ذلك الذي اردى لوركا· هناك في اسبانيا اغتيل الكاتب لأسباب ثورية· هنا في بيروت يمكن أن يحدث الأمر نفسه، لكن الأحلام ممكنة برغم أنها تبقى رهينة اللحظة: أن يصمد المسرح، ليس في وجه حروب مرتقبة، ولا أوضاع أمنية مرتبكة، انما بفعل ضيق الحال· هذه الحال الذي لم يتسع في السابق لمسارح ودور عرض ومراكز ثقافية مضى عليها الزمن وصارت في عداد الأمس وحساباته· ووارد ألا يتسع في الحاضر لحلم جريح، الا اذا···
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©