الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثارات السرد

ثارات السرد
19 ديسمبر 2007 00:37
ثمة في الثقافة العربية اليوم احتفاء بالسرد· ثمة تسليم بأن الرواية جاءت لتفتك من الشعر المنزلة والريادة· غير أن هذا الاحتفاء المفاجئ لا يمكن أن يصدر إلا عمّن لم يلمّ بما خاضه القصاصون قديماً من صراع مرير ضدّ المنع والزجر· عن هذا الزجر يحدّث الطبري قائلا: ''وفي جمادى الآخرة نودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاصٍّ أو غيره· ومنع القُصّاص وأهل الحلق من القعود·· وعملت بذلك نسخ قرأت بالجانبين بمدينة السلام في المحالّ والأرباع والأسواق''· ويتوسّع الطبري عند حديثه عن الأحداث الجسام التي ميّزت سنة 279 هـ، في الكلام عن القصاص وما تعرّضوا له من مطاردة· والثابت أن هلع المثقفين الرسميين من فنّ القصاص لم يكن أقل من فزع السلطة السياسية، بل الراجح أن المثقفين في البلاطات هم الذين أوغروا صدور الحكام وحثوهم على مطاردة القصاص وفنّهم· الراجح أيضاً أن هؤلاء القصاص الذين ملأوا الأسواق والمساجد والمحالّ كانوا ينتجون خطاباً جمالياً جاء يلبّي حاجة عامة الناس إلى الجميل· ففي حين كان الشعراء يشدّون الرحال إلى البلاطات طمعاً في صلات أولي الأمر وعطاياهم، وينتجون شعراً يلبّي حاجات الممدوحين، انتشر القصاصون خارج البلاطات واحتموا بالناس ينشدون إمتاعهم والاسترزاق من هباتهم· وفي حين كان الشعر يُلقى في فضاءات مغلقة داخل البلاطات، كان فنّ القصص يوسّع من دائرة انتشاره ويخلب ألباب أكثرية الناس· لذلك حين نتملّى مواقف المثقفين الرسميين نلاحظ أن هلعهم كان أكبر من هلع الحكام· فلقد استنكر ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث فنّ القصّاص وشنّع عليهم وعيّرهم بكونهم ''يستدرّون ما عند الناس بالمناكير والغريب والأكاذيب''· أما أبو حيان التوحيدي فإنه غالى في التنديد بفن القص ومنتجيه فعيّرهم بفقرهم وضعتهم· فكتب في الإمتاع والمؤانسة: ''إن التصدي للعامة خلوقة وطلب الرفعة بينهم ضعة''· هذه المطاردة العنيفة للقصّاص وفنّهم لن تزيد القاصّ في الثقافة العربية إلا عناداً وتطويراً لفنه وفق نسق بموجبه سينجح، بعد أقل من قرنين، في الانتقال من الهامش إلى المركز، ويخلب ألباب الناس، ويتحوّل إلى سلطة تفوق سلطة مثقفي البلاط وشعرائه وأدبائه· يخبرنا كل من ابن جبير في رحلته والشابشتي في كتاب الديارات أن الخليفة الذي كان في ما مضى من الزمان يمنع القُصّاص من الجلوس في المساجد والشوارع والأسواق، سرعان وقع، بدوره، في دائرة السّحر واستسلم لفتنة السّرد· لكنه لم يجرؤ على مجالسة القُصّاص· فكان أن استدرجهم إلى ساحة قصره حتى يستمتع بفنّهم من دون أن يتورّط في الاختلاط بالعوام من متقبّليهم· وتلك مكائد السرد تلك ثاراته أيضاً· ولنا أن نعدّ اندفاعة الرواية في الراهن الثقافي اليوم فصلاً من فصول تلك الثارات·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©