السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حاجات نفسية وفكرية تدفع إلى البحث عن مشروع ثقافي عربي معاصر

حاجات نفسية وفكرية تدفع إلى البحث عن مشروع ثقافي عربي معاصر
16 فبراير 2011 19:08
لعل السؤال الذي ينبغي البدء به هو: كيف يمكن الحديث في ظل الظروف الراهنة عن مشروع ثقافي عربي في وقت تموج فيه المنطقة العربية بالتوتر والاضطراب في أكثر من مكان؟ وهل ثمة مبررات حقاً للحديث عن مشروع ثقافي عربي يمكن الانطلاق منه والبناء عليه وقد ظللنا لفترات طويلة لا نكف عن الحديث عن مشروعات عربية تحت مسميات مختلفة؟ ثم كيف يمكننا قراءة واقعنا المعرفي والثقافي في ضوء ما خلص إليه التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية الذي أصدرته مؤسسة الفكر العربي؟ وما هي الأولويات الجديرة بأن ننطلق منها؟ كيف يبدو ممكناً في ظل الظروف العربية الآنية أن نتحدث عن هكذا مشروع ثقافي؟ فالعنف دائر في العراق وفلسطين والسودان والصومال... والتوتر قائم في لبنان... والترقب والقلق وربما الحيرة هي ملامح أمكنة أخرى في الوطن العربي. ولهذا فقد يرى البعض أن المزاج العربي لا يستسيغ في ظروف كهذه إقحام الحديث عن مشروع ثقافي! ولكني أعتقد أن نفس هذه الظروف الصعبة والمتردية هي ذاتها التي تبرر، بل ويجب أن تعجل وتحتم البحث عن مشروع ثقافي عربي... لماذا؟ ربما كان يجدر بي قبل عرض أسباب الحاجة إلى مشروع ثقافي عربي أن أحدد أولاً أي مشروع ثقافي عربي أقصد، فالمشروع الثقافي العربي الذي نبحث عنه هو في مصطلحه رؤية إصلاحية أو نهضوية وهو في مضمونه ذهنية ومنهج مراجعة نقدي يوفق بين قيم الوطنية المستنيرة وقيم الإنسانية المعاصرة. إنه نفس ما تفعله الصين حالياً، والهند... وما فعلته ماليزيا من قبل. فهذه دول لم تتردد في إحياء وتجديد مفهوم الانتماء الوطني ليصبح طاقة للعمل وروحاً للإنجاز ومصدراً للاعتزاز بالهوية في ذات الوقت الذي لم تخاصم فيه قيم الإنسانية المعاصرة.. فأدركت أن للعصر قيماً للتقدم وأسباباً للنجاح. قيم الوطنية المستنيرة هي الانتماء الواعي.. والعمل بروح الفريق.. والشعور بالمسؤولية.. والتحلي بسلوكيات الاجتهاد والاتقان. أما قيم الإنسانية المعارصة فهي كفالة حقوق الإنسان.. والانفتاح.. والتواصل.. والأخذ بالمنهج العلمي.. هذا “المركب العبقري” من قيم الوطنية المستنيرة هو الذي جعل بلداً مثل ماليزيا ذات الـ 23 مليون نسمة تصدر سنوياً بنحو 140 مليار دولار مع أنه ليس بماليزيا ما لدينا من ثروات طبيعية وجعل بلداً مثل الصين تصدر لأميركا فقط بنحو 500 مليون دولار في اليوم الواحد! ومجمل صادراتها سنوياً 762 مليار دولار، وكوريا الجنوبية تصدر بما قيمته 284 مليار دولار ـ بينما يبلغ إجمالي صادرات الدول العربية مجتمعة نحو 215 مليار دولار (باستثناء السعودية 154 مليار دولار، والإمارات 90 مليار دولار). والآن، ماذا عن الأسباب والمبررات التي تحتم علينا البحث عن هكذا مشروع ثقافي عربي؟ هناك أولاً حاجة نفسية.. وربما يبدو غريباً إقحام الاعتبار النفسي في الحديث عن الثقافة والتنمية، لكنها الحقيقة! أو هكذا يجب! فنحن محتاجون لمشروع ثقافي هدفه استعادة ثقة الأمة في نفسها، وتبديد مناخ اليأس الحضاري الذي يعيشه المجتمع العربي، وإيقاظ مشاعر الانتماء القومي، واستنفار قدرات وطاقات الناس، واستثارة حماسهم، ذلك أن غياب الثقة وفتور الهمة هي أخطر ما يواجهه العرب اليوم. وسيبقى نجاح أي مشروع اقتصادي أو سياسي أو تكنولوجي معلقاً على مداواة روح القنوط في الشخصية العربية ليعود جسم الأمة سليماً معافى، ولتسترد روحياً طاقة التفاؤل والقدرة على الفعل. وهناك ثانياً حاجة فكرية بالغة الأهمية للمشروع الثقافي المنشود. هذه الحاجة الفكرية تتجلى مظاهرها في تدني معايير المعرفة في المجتمع العربي بالمقارنة ليس فقط مع دول غربية متقدمة، بل أيضاً مع دول أخرى كانت حتى عشرين أو ثلاثين عاماً تماثلنا في الظروف ومستوى التنمية. ولعلنا لا نختلف حول أن الاهتمام بالمعرفة والثقافة ليس ترفاً، فهما البنية الأساسية لكل مشروع تنموي. وحين نتحدث عن الثقافة والمعرفة فنحن في الواقع نتحدث عن التنوير والإصلاح والنهوض، وعن العمل وزيادة الإنتاج والاتقان، وعن خلق فرص عمل ومكافحة الفقر وزيادة دخل الفرد. واقعنا المعرفي والثقافي أولاً: معدل التعليم في الدول العربية هو 11.3% بينما يبلغ في ايرلندا 17.3% واسبانيا 16.1%، جنوب أفريقيا 13%، جنوب أفريقيا 13%، الصين 10.8%، كوريا الجنوبية 16.1%، وهو أقل المعدلات العالمية. ثانياً: معدل الالتحاق بالتعليم الجامعي (عدد الطلاب المسجلين في الجامعات مقسوماً على إجمالي عدد السكان بين 20 و 24 سنة) هو في الدول العربية 22.5%، بينما النسبة في كوريا الجنوبية 88.5% وماليزيا 28% واسبانيا 63.5%، وفنلندا 87%، وجنوب أفريقيا هي 15.3%، والصين 15.4%. ثالثاً: معدل استخدام الإنترنت في الدول العربية 94.2 في الألف، وفي الدنمارك 604 في الألف، واسبانيا 332 في الألف، وايرلندا 663 في الألف، وفي الصين 72 في الألف، وفي كوريا الجنوبية 657 في الألف. رابعاً: عدد إصدارات الكتب سنوياً في الدول العربية 17.162، واسبانيا 60.267، وألمانيا 90.000 كتاب، والصين 110.283 كتاب، وكوريا الجنوبية 36.186 كتاب، وجنوب أفريقيا 6.592 كتاب. خامساً: متوسط نسبة الإنفاق العام على التعليم في الموازنات السنوية في الدول العربية لا يتجاوز 5% من الميزانية بينما في الدنمارك 8.5%، وماليزيا 8.1%. سادساً: على صعيد البحث العلمي يتضح أن عدد براءات الاختراع العربية المسجلة عالمياً بين 2005 و2009 لم تتجاوز 475 براءة اختراع، بينما بلغت في ماليزيا وحدها 566 براءة اختراع. وإذا اعتبرنا أن عدد سكان العالم العربي يبلغ نحو 330 مليون نسمة وعدد سكان ماليزيا نحو 26 مليون نسمة، فإن معنى ذلك أن هناك براءة اختراع واحدة لكل 694 ألف عربي بينما تسجل براءة اختراع واحدة لكل 46 ألف ماليزي! أي أن معدل الإبداع في ماليزيا يزيد 15 مرة على معدل الإبداع في الدول العربية مجتمعة! ولعل واقع البحث العلمي في دول الوطن العربي يطرح في مشهده الأشمل قضية هجرة الأدمغة العربية الى الخارج التي تمثل نزيفاً حقيقياً في العقل العربي. فالأرقام تظهر أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون الى بلادهم، وأن 34% من الأطباء الأكفاء في بريطانيا ينتمون الى الجاليات العربية، وأن مصر وحدها قدمت في السنوات الأخيرة نحو 60 من العلماء العرب والمهندسين في الولايات المتحدة الأميركية. كما شهد العراق هجرة نحو 7300 عالم تركوا بلدهم بسبب الأحوال السياسية والأمنية. وإجمالاً فإنه منذ العام 1977 وحتى الآن هاجر أكثر من 750 ألف عالم عربي الى الولايات المتحدة الأميركية. السؤال الآن هو كيف يمكن الحد من ظاهرة هجرة الأدمغة العربية وما هي سبل تحفيز العلماء العرب على العودة لبلدانهم؟ والسؤال الآخر الأكثر أهمية وربما عقلانية هو: هل من رؤية واقعية تمكننا من الاستفادة من ظاهرة هجرة الأدمغة بدلاً من الاكتفاء بشجب آثارها السلبية، وذلك من خلال فتح قنوات للتعاون مع هؤلاء العلماء العرب المغتربين في الخارج؟ سابعاً: على صعيد واقع اللغة العربية لئن كان أحد التحديات الحضارية التي يواجهها العالم العربي هي كيفية تطويع اللغة العربية في مجال البحث العلمي وتعظيم استخدامها، فإن رصد واقع لغة الضاد على شبكة “الإنترنت” يقدم مجموعة دلالات مهمة تستحق النقاش والتأمل. وتظهر إحصائيات حديثة تدني محتوى الإنترنت من الصفحات باللغة العربية التي لا تتجاوز نسبتها الواحد في الألف من تعداد الصفحات الإجمالي على الشبكة العنقودية، لكن ما يبعث على التفاؤل هو التزايد الملحوظ في عدد مستخدمي اللغة العربية على شبكة “الإنترنت”، وهو الأعلى من مجموعة اللغات العشر الأولى على الشبكة، والذي بلغ 2300% خلال الفترة 2000 ـ 2009. ومن الجدير بالتنويه أن نسبة مستخدمي “الإنترنت” من المتكلمين بالعربية تبلغ 3.3% من إجمالي مستخدمي “الإنترنت” بكل اللغات، وهي نسبة تزيد على تلك الخاصة بمستخدمي “الإنترنت” من المتكلمين بالفرنسية والتي تبلغ 3.2% من إجمالي مستخدمي الإنترنت في العالم. لكن ما زال هناك تحديات كبيرة تعوق توظيف التقنية الرقمية في التعامل مع اللغة العربية مثل التلكؤ في اعتماد رموز موحدة للحروف العربية والالتزام الدقيق بحركاتها إذا لم يتسن للدول العربية منذ ستينيات القرن الماضي تبني رموز موحدة لحروف العربية وحركاتها تمهد لتعامل تقنية المعلومات مع اللغة العربية ونصوصها بصورة مجدية. كما لا يوجد نظام للإعراب الآلي والنظم المستخدمة حالياً تعتمد على تخزين أنماط الخطأ النحوي على صورة سلاسل من الكلمات المتعاقبة. أما على صعيد محركات البحث مثل “جوجل” فهو لا يراعي الخصائص البنيوية للكلمة العربي، كما لا تخلو برامج الترجمة الآلية من وإلى اللغة العربية من صعوبات، الأمر كله يكشف في ظل هذا الواقع الى حاجة عربية ملحة لدعم جهود تطوير استخدام اللغة العربية على شبكة “الإنترنت”. ثامناً: على صعيد اهتمامات العرب الثقافية على شبكة الإنترنت فإن الأرقام والمؤشرات التي يتضمنها التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية الذي أصدرته مؤسسة الفكر العربي الشهر الماضي تبدو مثيرة بكل معنى الكلمة وتكشف عن دلالات لا تخطئها العين: فبينما تحتل كتب “الطبخ” التي يتواصل معها العرب على شبكة الإنترنت مركز الصدارة بنسبة 23% من إجمالي كل أنواع الكتب الأخرى فإن المتنبي ما زال هو أحد أكثر الشعراء العرب المطلوبين على شبكة الإنترنت، إذ يأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد نزار قباني! أما الكتب التي حققت أكثر معدل بحث على شبكة الإنترنت في عام 2009 فيتصدرها كتاب صحيح البخاري ثم لسان العرب فرياض الصالحين وصحيح مسلم ونهج البلاغة وفقه السنة! وبلغ معدل البحث على شبكة الإنترنت عن الثقافة الإسلامية (8270) عملية بحث شهرياً قبل البحث عن الثقافة العلمية (3620) والتعليم (2880) والطبيعة 2620) والتربية (1980) والسياسة (1900)!! ويكشف لنا ملف التواصل الثقافي الرقمي عن أنه في مجال تحميل محتويات رقمية على شبكة الإنترنت قام العرب في عام 2009 بتحميل نحو 43 مليون فيلم وأغنية، بينما قاموا بتحميل ربع مليون كتاب فقط! كما بلغت عمليات البحث التي قام بها العرب في عام 2009 على شبكة الإنترنت عن المطرب تامر حسني ضعف عمليات البحث التي قاموا بها عن نزار قباني والمتنبي ونجيب محفوظ ومحمود درويش مجتمعين!! تاسعاً: على صعيد المشهد السينمائي ما زال ضعف الإنتاج السينمائي في الوطن العربي هو الملاحظة الأبرز، إذ تسيطر السينما الأجنبية عموماً والسينما الأميركية على وجه الخصوص على سوق الأفلام المعروضة في الدول العربية. فالسينما الأميركية والهندية والأوروبية تستأثر بنسبة 87% من إجمالي الأفلام السينمائية المعروضة في العالم العربي، بينما لا تمثل السينما العربية سوى 11? (منها 8% للسينما المصرية) و 2% لسينما البلدان الأخرى. أما إيرادات دور العرض السينمائي في الدول العربية فما زالت متواضعة وفقاً لأرقام عام 2009، إذ بلغ إجمالي هذه الإيرادات في 18 دولة عربية 211 مليون دولار أميركي تتصدرها الإمارات (75 مليون دولار) تليها مصر (55 مليون دولار) ثم الكويت (20 مليون دولار) والبحرين (17 مليون دولار). أما الملاحظة الأخرى فهي التواضع الشديد في عدد دور عرض السينما العربية التي لم يزد عددها على 1200 دار عرض سينمائي في دول العالم العربي البالغ عدد سكانها نحو 330 مليون نسمة. أولويات ثقافية والآن لعل السؤال الذي يجدر الانطلاق منه هو ما هي التحديات الثقافية التي يواجهها العالم العربي والتي يسهم تشخيصها والتعرف إليها في ابتناء استراتيجية للعمل الثقافي العربي، في أوراق ودراسات العديد من مؤسساتنا الثقافية، ولدى الكثير من مفكرينا ومثقفينا إجابة على السؤال. لكن ثمة أولويات خمس يمكن على أية حال طرحها للنقاش. الأولوية الأولى: وتتمثل في منهجية أن نفرق ابتداء بين منظومة القيم التي لا يقوم بدونها أي مشروع نهضوي عربي وبين النظم والأدوات والوسائل التي تحول هذه القيم النظرية الى مشاريع وبرامج وخطط عمل. وفي عبارة أخرى فإذا كان المفكرون والمنظرون العرب قد استطاعوا على الصعيد الفكري إعادة تأسيس منظومة قيم التقدم مثل العقلانية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان فإن هذا الجهد الفكري يحتاج بالضرورة الى آليات وخطط عمل تضع هذه القيم موضع التطبيق في شتى المجالات. ولعل أهم هذه المجالات هي التعليم، وحركة التأليف والترجمة والنشر والمعلوماتية والإعلام، والإبداع بمختلف تجلياته. بل إن اللغة العربية في الحفاظ عليها وتعميم استخدامها والسعي لتطويرها هي مجال حيوي لا يقل أهمية عن المجالات السابقة. إن الوعي بهذه التفرقة بين قيم التقدم من ناحية وبين أدوات تطبيقها من ناحية أخرى هو الذي يعطي قوة الدفع الحقيقية لكل إصلاح ثقافي منشود. الأولوية الثانية: محاكاة ما بلغه العمل الثقافي في المجتمعات المتقدمة من تطور على صعيد إقامة الشراكات والتشبيك بين مختلف المؤسسات المعنية بقضايا العمل الثقافي. فهذا عصر لم تعد فيه المؤسسات الحكومية وحدها قادرة على الاضطلاع بكل الأدوار والمسؤوليات. ولئن كانت أدبيات التنمية الحديثة ـ والثقافة في القلب منها ـ تعتبر أن نجاح عملية التنمية يتطلب تكامل أضلاع مثلث الدولة والقطاع الخاص والمجتمع الأهلي، فإن أية استراتيجية للعمل الثقافي العربي لابد وأن تنطلق بدورها من إقامة شراكة بين المؤسسات الثقافية الرسمية، ومبادرات القطاع الخاص المعني أحياناً بالعمل الثقافي، ومنظمات المجتمع الأهلي ذات الصلة. ولعل المبادرة التي أعلن عنها الأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي “شركاء من أجل الكتاب العربي” والتي تضم شراكة بين بعض المؤسسات الثقافية العربية الرسمية والأهلية والخاصة تمثل نموذجاً يمكن تطويره والبناء عليه في واحدة من أهم القضايا الثقافية العربية وهي قضية صناعة الكتاب. الأولوية الثالثة: وهي قضية التمويل والموارد والإمكانيات التي تحتاج الى رؤية جديدة وحلول مبتكرة، فالعمل الثقافي في التعليم والتأليف والنشر والترجمة والإبداع مثله مثل أي منتج إنساني يحتاج الى تمويل وموارد. ولربما تبدو المخصصات المالية للصناعات الثقافية في العالم العربي هزيلة ومحدودة إذا ما قورنت بما هو مخصص لها في الموازنات الحكومية للدول المتقدمة. من هنا تأتي ضرورة التفكير ليس فقط في حث الدول على زيادة الإنفاق على المنتج الثقافي، بل أيضاً في استحداث أشكال ووسائل جديدة للتمويل. ولعل الاقتناع بالمسؤولية الثقافية لرأس المال يدفع كيانات القطاع للاضطلاع بدور قومي وتنويري في هذا المجال. الأولوية الرابعة: الوعي بأحد أهم التحديات التي يفرضها واقع تطوير التعليم في المجتمع العربي. وهو واقع يرزح ما بين تعليم حكومي تتراجع جودته بشكل مقلق بحكم تواضع الموارد وزيادة النسل التعليمي وما بين تعليم خاص تتقدم فيه اعتبارات الربح على مقتضيات الجودة التعليمية، فيما عدا استثناءات بطبيعة الحال. وإذا ما استثنينا دول الخليج والسعودية فإن معدل الإنفاق السنوي على الطالب في التعليم العالي لا يتجاوز في العالم العربي نحو 1300 دولار، بينما يصل في إسرائيل الى 11000 دولار، وفي الولايات المتحدة الى 22000 دولار. من هنا لا يبدو في الأفق من حل سوى التركيز على التعليم الأهلي الذي يقوم على التبرع والاكتتاب ولا يسعى لتحقيق الربح. والمفارقة أن معظم الجامعات التي توصف بالأهلية في العالم العربي هي جامعات أجنبية مع أن “الوقف” مصطلح عربي المصدر بالأساس! ومن المفارقة أيضاً أن دولة مثل تركيا بها ما يزيد على ثلاثين جامعة أهلية لا تستهدف تحقيق الربح، بينما دولة مثل مصر ليس بها إلا جامعة أهلية واحدة هي جامعة المستقبل الوليدة وهي تجربة ما زال الحكم عليها مبكراً. الأولوية الخامسة: الاهتمام بالمناطق الرخوة في الثقافة العربية، ويقصد بها المناطق التي لا يتم فيها الاستثمار الذهني والمادي بالشكل المطلوب. وهناك كثير من هذه المناطق الرخوة التي يمكن التمثيل لها باللغة العربية التي تكاد تصبح الثغرة الحضارية التي قد لا نتمكن في المستقبل من تداركها إذا بقيت معدلات تراجعها ومظاهر اغترابها ومحاولات اختراقها على نحو ما هو حاصل اليوم. تطوير اللغة العربية ممكن، وتحديث تعليمها ممكن، وهناك في العالم تقنيات جديدة لتعليم اللغات يمكن محاكاتها والاطلاع عليها. السؤال في كل هذا هو كما العادة من أين نبدأ؟ والواقع أننا جميعاً معنيون وإن اختلفت أدوارنا بهذا السؤال. وفي ظل هذه الأوضاع الخاصة بواقع المعرفة تزداد حاجتنا الى ترسيخ وإعلاء قيمة المعرفة. وهذه الحاجة تتلخص في أمرين: أولهما إعادة الاعتبار لقيم التقدم الإنساني المعاصر التي بسببها تقدمت أمم وتقهقرت أخرى. وقيم التقدم الإنساني ليست من الأسرار أو الخوارق.. وليست سحراً يستعصي علينا فك طلاسمه. قيم التقدم الإنساني التي نحتاج إليها في مشروعنا الثقافي هي: المعرفة، والمنهج النقدي، والحرية، وكفالة حقوق الإنسان. لكن ربما كان علينا أن نعترف أن كل قيمة من هذه القيم ما زالت تثير في المجتمع العربي تساؤلات ينبغي طرحها، وإشكاليات يجب فضها. فقيمة المعرفة في المجتمع العربي ما زالت تحتاج لجهود كبيرة لتجذيرها كسلوك وإعلانها كقيمة. والإشكالية هنا للكثير من الدول العربية هي قلة الموارد وتواضع الإمكانيات. وقد رأينا أن النسبة المخصصة للتعليم في الدول العربية في موازنتها العامة هي نسبة معقولة بالنظر لتواضع حجم الميزانية العامة ككل. لكن ماذا عن دور القطاع الخاص والقطاع الأهلي؟ ولماذا لا يتقدم المجتمع الأهلي ليضطلع بأعبائه في هذا الخصوص انطلاقاً من المسؤولية الاجتماعية لرأس المال. لقد كانت مؤسسة الفكر العربي نموذجاً لذلك كمؤسسة أهلية دولية تسعى لغرس وإعلاء قيم المعرفة والثقافة. وقد حذا حذوها في الآونة الأخيرة مؤسسات ومنظمات عربية أخرى. وهو تقليد حميد ومطلوب. ولكن وبخلاف التعليم، فإن البحث العلمي يمثل بدوره تحدياً معرفياً كبيراً لاسيما بحكم تواضع النسبة المخصصة له في الإنفاق العام من ناحية، وبحكم عدم وجود أفكار جديدة ومبتكرة لربط القطاع الصناعي بمراكز الأبحاث والجامعات في شراكة مطلوبة بينهما. ولئن كانت هذه هي التحديات التي تواجه قيمة المعرفة في حياتنا، فإن القيم الأخرى التي تمثل بنيان المشروع الثقافي لا تخلو بدورها من تحديات. فقيمة الحرية مثلاً في مرحلة التطور الحالية التي يمر بها المجتمع العربي تشتبك مع قيمة الالتزام في ظل المنظومة الأخلاقية والدينية السائدة، وهي منظومة لا يمكن ولا يجدي إنكارها. لكن كيف يمكن الخروج من هذا الاشتباك بصياغة جديدة لقيمة “الحرية المسؤولة”؟ وهل الحرية المسؤولة فكرة رمادية أو مراوغة مثلما يتصور البعض؟ أم أنها خيار حقيقي وممكن؟ هذا سؤال آخر طرح على النخبة العربية. وبنفس القدر أيضاً تثير قيمة احترام التنوع الإنساني إشكالية مهمة في ظل مجتمع عربي لا يخلو من الأقليات العرقية والدينية واللغوية من ناحية، وفي عصر يموج بالمتغيرات والاضطرابات الإقليمية والعالمية من ناحية أخرى. ومن هنا يصبح التساؤل: كيف السبيل الى ترسيخ وإعلاء قيمة احترام التنوع الإنساني وتوظيف الاختلاف في ظل الحفاظ على تناغم النسيج الاجتماعي ووحدة الجغرافيا السياسية للبلدان العربية؟ وكيف نحول دون أن يصبح كفالة توظيف التنوع الإنساني سبيلاً الى تفتيت المجتمعات العربية وتجزئتها والانتقاص من سيادتها الوطنية؟ هذه تساؤلات تتطلب فكراً خلاقاً وطرحاً فكرياً وحقوقياً وربما سياسياً جديداً، وهو أمر ليس مستحيلاً. هكذا يعكس المشروع الثقافي العربي حاجة فكرية تلبي مجموعة من القيم التي يبدو احتياجنا إليها اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. ومن ناحية ثالثة وأخيرة فإن المشروع الثقافي الذي نبحث عنه يتجاوز أهدافه النفسية والفكرية ليستهدف فوق ذلك حاجة تنموية نحن أيضاً في شديد الاحتياج إليها. فالمشروع الثقافي القادر على تغيير “ذهنية” الناس هو وحده الذي يمكن أن يرتقي بسلوكياتهم. والتنمية في مفهومها الشامل ترتبط بالضرورة بقيم سلوكية مثل قيم العمل الجاد، والاتقان، والانضباط، والشعور بروح الفريق، واحترام الوقت. هذه هي “شفرة” التنمية التي يمكن للمشروع الثقافي أن يفكها! فليس معقولاً أن يمتلك العرب كل هذه الثروات البشرية (مجتمعات شابة فتية) والطبيعة (مصادر طاقة، وأرض واسعة، ومناخ مثالي، وموقع استراتيجي) وهم يراوحون مكانهم في قلب العالم النامي منذ نصف قرن من الزمان! ثمة خطأ ما! والمشروع الثقافي وحده هو الذي يقدم لهذه الثروات سلوكيات التنمية، وقيم التقدم. أسس نظرية والآن، إذا كان للمشروع الثقافي المأمول هذه الأهداف الكبيرة على الصعد النفسية، والفكرية، والتنموية، فما هي أسسه النظرية، ومجالاته العملية، ثم ما هي العناصر أو الأدوات القادرة على تحويل هذا المشروع الثقافي من أسس نظرية الى مجالات تطبيقية؟ لنبدأ أولاً بالأسس النظرية التي يمكن أن تبدو كثيرة ومتنوعة، وكلها مهمة وضرورية لكل مشروع ثقافي نهضوي. المؤكد أن هناك مجموعة من الأسس النظرية الأكثر أهمية وإلحاحاً في الحاضر العربي، ربما لأن غيابها أصبح يمثل إشكالية حقيقية وعائقاً يحول دون توظيف الثروات البشرية والطبيعية الى مردود تنموي وعائد سياسي. ولعل أهم هذه الأسس النظرية هي: 1 - صياغة ومراجعة علاقتنا بالعالم الذي يضمنا، والعصر الذي نعيش فيه، ذلك أن علاقتنا بالعالم تبدو ملتبسة بقدر ما أن علاقتنا بالعصر وقيمه تبدو هامشية أحياناً!! وهو الأمر الذي يعني أننا مطالبون من ناحية بتواصل واع ـ واثق مع حركة التقدم الإنساني ـ مثلما أننا مدعوون لإيضاح رؤيتنا وتصحيح الصورة الانطباعية عن العرب لدى الآخرين، وهي صورة مغلوطة وظالمة. والحاصل اليوم أننا في الجوهر أقل تواصلاً مع العالم الذي حولنا، وإن كنا نبدو من الناحية الشكلية وبحكم ثورة الاتصالات وكأننا نتواصل معه. أما عن الصورة غير الدقيقة التي انطبعت في الذهنية الغربية بشأن الشخصية العربية، فإن المسؤولية عن ذلك مشتركة بيننا (نحن الذين قصرنا في تقديم أنفسنا)، وبين الغرب (الذي مارس التعميم في مواجهتنا وتعامل معنا أحياناً باستعلاء). وفي ضوء هذه العلاقة الملتبسة وسوء الفهم بيننا وبين الغرب على وجه التحديد، فإننا نحتاج الى رؤية ثقافية نفض هذا الالتباس وتبدد هذا التناقض. ولعل أساس هذه الرؤية يكمن في ضرورة إجراء مصالحة بين دائرة انتمائنا الديني والقومي من ناحية، وبين دائرة انتمائنا الإنساني من ناحية أخرى. فهناك مساحة من التناقض المصطنع بين الدائرتين. وبصرف النظر عن أسباب وظروف هذا التناقض، ومن هي الأطراف المسؤولة عنه، فإن الأكثر أهمية الآن البحث عن أساس ثقافي جديد يوفق بين انتمائنا الديني والقومي وبين انتمائنا الإنساني ويزيل ما بينهما من تناقض مصطنع. فيما يتعلق بدائرة انتمائنا الديني أولاً، ربما كان المطلوب اليوم هو إعلاء الفهم الإنساني الصحيح، ورفض الرؤى التي تحاول أن تقرن الإسلام من حيث لا تدري أو تدري بالعنصرية أو الانغلاق أو التعصب. هناك جهد كبير في الواقع ينبغي بذله لإبراز قيم الحرية والتسامح وقبول الآخر التي يزخر بها الإسلام. ربما يرى البعض أنه سبق لمفكرين وفقهاء كثيرين أن أنتجوا مثل هذا الفقه الإسلامي المستنير، وأن لدينا من المؤلفات والإصدارات ما يكفي في هذا الشأن. هذا صحيح ولكنه لا يغني عن ضرورة نشر هذا الفكر المستنير لدى الآخرين أولاً ومحاولة إصلاح تقصيرنا الإعلامي والثقافي في تقديم أنفسنا الى الغرب. * أمين عام مؤسسة الفكرر العربي النص محاضرة ألقيت بدعوة من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©