الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العيون·· أغنية الشُّعراء في الأمكنة والأزمنة

العيون·· أغنية الشُّعراء في الأمكنة والأزمنة
20 ديسمبر 2007 23:23
منذ القديم، حازت المرأة على المجال البصري للرجل، وعن طريق الإحساس بهذا البُعد البصري خرج الوجود البشري من مرحلة الوجود الطبيعي إلى وجود إنساني خاص· ولهذا نشأ إحساس الشاعر بالتميز عن طريق قدرته على الإحساس بوجود المرأة وما يستتبع ذلك من عواطف تثيرها هذه المرأة في كيان الرجل· ومنذ القديم أيضاً، كان الجنون في الاختلاف، وكان الجنون أحد أبواب الحلم الإبداعي، الحلم في تغيير اللغة نفسها، أوليس الشعر خرقاً للأعراف اللغوية· كانت العيون باباً للجنون، فالحب نظرة تملك فينا الوجدان، تقتل كل إمكانية النظر إلى الأخريات، لهذا لما أصاب السهم جميل بثينة اكتفت عيناه من النظر للأخريات، وحتى الذين لم يملكوا إمكانية الرؤية البصرية وفقدوا عيونهم لسبب أو لآخر لم تنطفئ في أعماقهم شمعة العشق، وكان الصوت أقرب إلى وجدانهم، ولهذا شبهوا الأذن بالعين!! فالأذن تعشق قبل العين أحياناً· منذ القديم كانت العيون باباً للجنون، وأول من جن من الناس هم الشعراء، كم تغنت البشرية بأحزان الشعراء، كم تلذذنا بشعر كثير عزة، وكم سبح خيالنا الطفولي في قصة هذا الأسود العبسي وقد وقع في حب عبلة· العين أداة للعشق والجنون، وحتى الذين عشقوا اللغة العربية وحاولوا جمع مفرداتها ومعانيها أودعوا عشقهم في أول معجم عربي وسموه (كتاب العين)· العين بوابة العشق في كل زمان ومكان، وإن كانت اليوم لا تجتذب الشعراء، بل من هم في القمة أو الطموحين إلى الوصول فذلك لأن الحياة كرنفال مذهل، الكل يبحث فيها عن ذاته وسط هذا الزحام والألوان، وأمام هذا الاستنزاف الهائل للطاقة الروحية والأخلاقية للإنسان المعاصر يصبح التعلق بالعيون حلماً من أحلام الطفولة، ونوعاً من الحنين إلى الماضي العتيق· وفي العيون قالت العرب على لسان جرير أغزل بيت من الشعر: إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا هل تمنح العيون بعض نظراتها كي يتوضأ الشعراء، ويغسلوا أرواحهم من أمراض المجتمع المادي؟ سؤال لا نمتلك الإجابة عليه، فمن غير المعقول أن ينتزع الشاعر من الواقع، لأن الحياة ذاتها لم تعد تحتمل كل هذه الرومانسية، وإلا تحول الشاعر إلى قشة في مهب الريح، أونوع من سقط المتاع، أوسلعة من السلع القديمة التي لا تتناسب مع ''الموضة'' فيلقى به على الرصيف· إذن لابد للشعراء من أن يتوقفوا عن الجري وراء السراب، فيكونوا واقعيين في قصائدهم ويفهموا ألا وقت للحب، ولا وقت للأحلام البريئة الساذجة، لأن الواقع يسحق من لا يتقن لعبة البرغماتية، ويتفنن في إسباغ هالة زائفة على نفسه، كي ينظر إليه الآخرون على أنه بمثابة لغز لا يجارى أو ''شهريار الملك'' ليس له علاقة إلا بالنساء· لكن شاعراً آخر تقدم مسافة للأمام حين خاطب العيون قائلاً: ''عيناك غابتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر عيناك حين تبسمان تورق الكروم''· من منّا لا يعرف هذه العيون التي تغنى به بدر شاكر السياب، وهذه القصيدة التي بدأت ثورة الشعر العربي الحديث، قصيدة تألفنا ونألفها لأن السياب داعب فيها الضمائر والقلوب، وأحاسيس الحب والسعادة فكانت بحق من روائع ما كتبه العرب من شعر· العيون هنا خارقة وفي بعد أعمق من مجرد الجمال الخارجي للعيون، هي رمز لنظرية الثورة، حيث وظف الشاعر اللفظ لإحياء الأمل الذي يرتسم على محيا الناس حين تصبح نظرية الثورة والتحرر مجالاً للممارسة والتطبيق· إن العين التي تبتسم تفعل ذلك لأن الإنسان العربي الذي تمرد على قيود الاستعمار والاستغلال والقهر الاجتماعي، لم يدفن حلمه في الرمال، ولكنه حلم أزهر وانتصر، لذا فإن العيون لم تذبل، إنها ليست نبتة جافة، بل هي غابة نخيل، والنخلة هي الشجرة المعطاء التي تجود بالشهد والبلح المصفى، فالعيون هنا رمز للعهد الجديد، لذا اختلطت لفظة العين برموز الخصب والعطاء وتموز والنهر، العيون حين تبتسم تورق الكروم، والكروم هي التي تعطي العنب الذي يستحضر منه الفرح، وليس الألم والعذاب· إن الشاعر الحديث لم يركز على الصفات الخارجية للعين أو على كونها أداة للرؤية البصرية العادية، ولكنه قرأ التعبيرات والدلالات الإيحائية لها، ومن هنا فإن قصيدة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب ثورة في الشكل والمضمون معاً· وفي نظر بدر شاكر السياب فإن العيون مشروع حضاري، واحة من واحات الحب المزروعة بالخضرة والجمال والأمل، عيون تفيض فرحاً غامراً للإنسان لتخفيف معاناته ووضع نهاية للحزن والتوجع· لو أن كل العيون تشبه تلك التي تغزل فيها السياب لتحققت العدالة في المجتمع، وتطهرت نفس الإنسان من استغلال أخيه الإنسان، لكن كثيراً من العيون تذرف الدموع السخية، لأن عيوناً قاسية وخبيثة هي التي ترمقها أو تتلصص عليها· مع ذلك سوف نحلم مع السياب برؤية العيون الصافية، الصفاء المطلق كي تتحوَّل أرضنا العربية كلها إلى غابات نخيل، وكروم عنب تحقق اللذة والنشوة والسعادة· وكان محمود درويش قد ذهب إلى تجسيم عيون المرأة بالأرض حين قال في بدايات انطلاقته الشعرية: ''عيونك شوكة في القلب توجعني وأعبدها وأحميها من الريح''· الناقد قد يؤوِّل العمل الإبداعي ويقول إن درويش وظف المرأة في شعره لخدمة قضايا سياسية، وإن العيون في هذا الإطار هي عيون الأرض المفعمة بالألم المقدس، فوجود الاحتلال يجعل من فلسطين بشموليتها شوكة حادَّة تدمي قلب الشاعر ولكنه يعبد هذه الأرض التي تفيض بالألم والعذاب· إن هذا اللون من الشعر المقاوِم يمثل المعاناة الإنسانية، ولكن الشاعر لا يستسلم ولا يدع عيون حبيبته تموت أو تتوقف عن الحلم والرؤية، فالجرح العميق الذي أحدثته في سويداء الليالي هو الذي يشعل المصابيح ويفتح نافذة المستقبل·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©