الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علي محمد راشد.. رواية «الغوص» في التاريخ

علي محمد راشد.. رواية «الغوص» في التاريخ
16 فبراير 2011 19:14
لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموما، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح هو متكأ لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون.. هنا اطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس. سنة 1971 دشنت ظهور أول رواية إماراتية مطبوعة بعنوان “شاهنده” لمؤلفها راشد عبد الله النعيمي، وهي تجسد إلى حدّ كبير المنظور الشعبي للقصة، حينما تشكل الحكاية الأساس الممتد في الرواية التي تمكن روادها وبتقنيات محدودة من تحقيق جماليات ومحاولات في الشكل الروائي، حيث وضعت “الصبغة الواقعية” البنية التحتية والإرهاصات لمن جاءوا بعدهم بالإضافات نحو فن الرواية الحديثة، وذلك المزج الأسلوبي الجميل ما بين الواقعية والصوفية والسريالية، مع استخدامات بديعة للرمز والإسقاط الفني لتخرج الرواية الإماراتية المعاصرة بعد ذلك من عقالها. ومع “شاهنده” أعلنت الرواية الإماراتية مبكراً عن انشغالها بالواقع الاجتماعي بما فيه من تجليات تبحث في قضايا المجتمع البحري، ومشاكل المرأة في مجتمع ذكوري. تقول فاطمة خليفة أحمد في كتابها “نشأة الرواية وتطورها في دولة الإمارات العربية المتحدة”: “مثلما دعا الكتاب الإماراتيون إلى التروي في تبني الحياة العصرية فقد دعوا بالمقابل الى التخلص من الأمراض الاجتماعية الموروثة من الحقب الماضية، فشددوا على ضرورة التخلص منها، واستهجنوا ظاهرة الاعتقاد بكل ما هو خرافي والتعامل معه على أنه حقائق تنتظم من خلاله بنى الوعي الاجتماعي والثقافي لدى الإنسان الإماراتي، كما أدخلوا المرأة في أعمالهم عضوا فاعلا في المجتمع، على نحو ما هو موجود في رواية “دائما يحدث في الليل” لمحمد عبيد غباش ورواية “عندما تستيقظ الأشجان” لعلي محمد راشد” (ص 126). وفي هذا السياق يقول الكاتب الدكتور محمد عبيد غباش: “حينما بدأنا الكتابة كأدباء شبان في منتصف السبعينيات لم يكن لدينا تراث روائي محلي نراكم فوقه، والذي امتلكناه لم يكن سوى بعض الحكايات الشعبية القصيرة بما في ذلك الخرافة والتي غلب عليها طابع الحكاية الطفولية، أما بالنسبة للكبار فكانت ميراثا تاريخيا لوقائع الحروب والغزوات التي تمتلك صلة قربى بالتاريخ أكثر منها بأعمال الرواية الخيالية، لذلك كان علينا أن نكون روادا في جانب رصد بيئتنا الخاصة، حتى وإن غرفنا من ثقافتنا العربية والعالمية في أساليب السرد الكتابي وتقنيات الرواية، وكرواد أرغمنا على شقّ طريقنا بأنفسنا من الصفر وعلى إعادة اختراع العجلة باستمرار”. فن المفارقة على هذا الإيقاع يمكننا الدخول إلى عالم واحد من جيل الريادة في الرواية الإماراتية، الكاتب والروائي علي محمد راشد، فعند التوغل في نصوصه ستجد أن براعته في الكشف عن المشهد الحياتي المحلي تشي بوعي شديد في طريقة استخدام الأدوات التعبيرية لتقديم صورة مشهدية للمجتمع وشرائح ونماذج عديدة من الناس تنتمي إلى واقع المكان، حيث لمسنا ولعه الشديد بتحديد شخوصه من خلال المكان، واستخدام فن “المفارقة” في تشكيل جماليات صورته الفنية التي تحتشد بالعديد من العناصر المبهرة، ومقدرة واضحة على تجميعها في نسيج فني مؤثر. إشارات دالة كثيرة بينت مدى التصاق الكاتب بالواقع المحلي الذي بدا واضحا في قصته “جروح على جدار الزمن” التي كتبها عام 1982، ويتحدث فيها عن واقع أسرة تعيش تفاصيل حياتها، باحثا من خلالها في الواقع الاجتماعي للناس ومجتمع البحر، مستخدما بمهارة وظيفة السرد الوصفي، وهو مكون أساسي في مكونات المسرحية الحديثة. وهو ما فعله أيضا في روايته “عندما تستيقظ الأشجان”، وهي رواية بدت فيها صورة المرأة هامشية سلبية حينا، وفاقدة دورها الإيجابي الفاعل حينا آخر، مما جعل دورها في الأغلب يبدو دورا تكميليا أكثر منه دورا مقصودا لذاته أو معبراً عن دلالات فاعلة في بناء الحدث وتطوره. وكذلك رواية “ساحل الأبطال” وكيف نجح في نسج فضاءات واسعة من خلال هذا السرد لتوضيح حكايات شخصياته بأسلوب “الاسترجاع الداخلي في المسرح والسينما” أو ما يعرف اصطلاحا بـ”تكنيك الفلاش باك”. عبر الكاتب في روايته “جروح على جدار الزمن” عن صراع الأجيال حول مسألة تعدد الزوجات، وهي من إحدى القيم التي يقرها العرف والدين، لكن الجيل الجديد من الشباب ينظر الى هذه القضية نظرة مغايرة، بل يستهجن الأبناء مواقف آبائهم الذين يسعون للزواج من جديد، بل يرون في ذلك إهانة لهم، وبالمثل ترفض فتيات الحي فكرة الزواج برجل متزوج. ويرصد علي محمد راشد هذا الصراع القيمي في روايته التي تكشف زواج أبو عبد الله من إمراة هندية أحضرها معه خلال إحدى سفراته التجارية: “قال ابو عبدالله لميري زوجته الجديدة: تقدمي يا ميري هذا ابني عبدالله. تقدمت ميري ومدت يدها تصافح عبدالله. ـ يا عبدالله هذه زوجتي ميري. عبدالله: ماذا؟ ـ أقول لك هذه زوجتي، لقد تزوجتها في الهند وأحضرتها معي. (صعق عبد الله وأحس بأن الدنيا تدور من حوله ولولا أنه تماسك ووضع يده على الجدار لانهار وهو واقف في مكانه، اشتعل البيت وأصبح كالمرجل، جن جنون سيف وأراد أن يتعدى على والده لولا أن عبد الله ووالدته أمسكاه)”. هذا النمط من التوظيف للحوار وبغض النظر عن أسلوبيته مع الوصف المشهدي، يخلق لمناخ الرواية جوا من التنويع كما يسمح للشخصيات بالنمو والتفاعل مع تطور الأحداث كما تنوع الخبرة الإنسانية وتغير من رتابة الإيقاع، وان هذا الاستخدام في الواقع للحوار والحكاية والوصف، بمعنى استخدام السرد داخل الرواية بهذه الطريقة يساعد على إعطائنا ثراء نسبيا، وخطوة على طريق تطوير بنية الرواية. صحيح أن مثل هذه التقنية ليست جديدة على المستوى المعاصر ولكنها في تقديري تقنية مؤثرة في زمن البدايات كونها تعتمد على تطوير استخدام السرد الحكائي الحدثي داخل الرواية. رواية تاريخية إن رواية “ساحل الأبطال” تمثل في مضمونها صورة الرواية التاريخية، وهي التي ركز عليها أيضا في كتاباته فيما بعد صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة وبخاصة في روايته “ابن مولاي السلطان”، ورواية “الشيخ الأبيض” 1996، ورواية “الأمير الثائر” 1998. ويحكي لنا علي محمد راشد في روايته عن شخصيات لعبت دورا مهما في تاريخ إمارة رأس الخيمة في مطلع القرن التاسع عشر انطلاقا من تاريخ موثق لفترة زمنية. ولعل من الغريب أن تكون هذه الرواية التي صدرت في وقت مبكر في تاريخ الحركة الثقافية المحلية الأكثر حضورا في تصوير العلاقة الإيجابية بين الرجل والمرأة وقيامها على أسس من الاحترام والحب والتفاهم المفعم بالأحاسيس الإنسانية الراقية المتجلية في أكثر من موضع، كما نقرأ في هذا الحوار بين الزوجة والزوج بعد عودته من رحلة عناء بحرية: “ـ إن هذا بكاء ابنتنا شيخه، لقد نسيت أن أخبرك، ففرحة اللقاء أنستنا حتى أنفسنا، لقد أنجبتها منذ عشرين يوما. ـ غير معقول انها مفاجأة سارة، ألف مبروك يا زوجتي الحبيبة، لم لم تقولي لي بأنك حامل قبل السفر. ـ في الحقيقة لم أكن متأكدة في البداية، وعندما تأكدت لم أشأ أن أقول لك حتى لا تشغل بالك بنا كثيرا وأنت هناك بعيد”. في روايته “جروح على جدار الزمن” يعرض الكاتب موقفا نمطيا لقضية أو قل مشكلة المرأة المهمشة في مجتمعها، فالأب “أبو راشد” يفاجئ ابنته الصغيرة “فاطمة” بأنه وافق على زواجها على الرغم من أنها ما زالت تلميذة على مقاعد الدراسة، ولك أن تستقي مدى التسلط الأبوي في هذا الحوار بينهما: “ـ فاطمة، فاطمة يا بنتي، ألف مبروك، لقد خطبك مني لابنه السيد أبو أحمد. (لقد وقع الخبر على فاطمة وقوع الصاعقة، لقد توقعت كل شيء إلا هذا). الأب يستأنف كلامه قائلا: صحيح أن أبو أحمد كان متزوجا وانفصل عن زوجته وله منها أربعة أطفال، لكنه تعهد بأن يشتري لك فيلا لتقيمين فيها لوحدك، وسيدفع لك مهرا ثلاثين ألف درهم بالإضافة إلى عشرين “تولة” ذهب، وغدا سنذهب إلى المحكمة لعقد القران، أما الزواج فبعد عشرين يوما لنستعد له. فاطمة: وماذا عن المدرسة يا أبي؟ الأب: التعليم ليس كل شيء في هذه الحياة.. والحقيقة أن المدرسة الحقيقية هي الدنيا الكبيرة”. إن اعتماد علي محمد راشد على الإيقاع السردي الذي تخلله بعض الحوارات ساهم في تحقيق مقدار ممتاز من عناصر الوصف والحكاية وشرح الأبعاد النفسية لدى الشخصيات دون أن تكون هناك شحنة غاضبة، وهذا ما سنراه بوضوح في “رجال في محنة” التي نشرها في مجلة “شؤون أدبية” العام 1987 والصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات. وهنا تبرز أهم قسمات الكتابة لديه ممثلة في رسم الشخصية ببراعة، فالشخصية عنده تتحدد أولا بسمات البساطة الاجتماعية، وثانيا بذلك التأزم الشخصي الذي يدفعها إلى نقطة النهاية أو الذروة دون إخلال بالشكل العام. كما أن السرد في الرواية يمتاز بالتكثيف والقصر والومضة في بعض المواقف. سلطان “أبو أحمد” البطل المحوري هو شخصية مأساوية بكل المقاييس، تتجلى فيه قوة الفعل رغم نغمة الحزن التي يبدأ بها رحلته وهو “النوخذة” والبحار العريق الذي يستعد لرحلة غوص شاقة قد تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر سيقضيها بين السماء والماء ويكون خلالها بعيدا عن الأهل والأحبة والجيران في الفريج (الحي). إنه يشعرنا طوال حواره مع زوجته بأنه مهموم إلى حد الشعور بالوحدة والعزلة والقلق خوفا من أن لا تتم رحلته المعتادة إلى عباب مياه الخليج المحفوفة بالمخاطر والمكابدة. لقد تخلى عنه الرجال ولا بد أن يتمم عدد البحارة على السفينة حتى صباح الغد، وتأتي النقلة الأهم في أحداث الرواية عندما يصر أبو أحمد على الاستعانة بولده الصغير أحمد ذي الأحد عشر ربيعا في رحلة الغوص بسبب قلة البحارة الرجال وانصرافهم إلى سفن أخرى أغراهم أصحابها بالمال أو الوعود: “أبو أحمد مخاطبا زوجته بقوله: أم أحمد نحن أصحاب بحر وهو أول شيء رأته عيوننا، طفولتنا بقربه، وشبابنا على ظهره، وأحلى سنين عمرنا في أعماقه، نلتقط رزقنا من بين أنياب كلاب البحر، إن أحمد أصغر من أن يغوص، إنه لن يعمل شيئا سوى مساعدة الطباخ أحيانا، وإحضار الماء والتمر للبحارة”. هنا يوظف الكاتب تقنية الحوار المسرحي بين أبو أحمد وزوجته الرافضة بقوة لمشاركة طفلها الصغير في مجازفة الزوج الخطرة بحسب تفكيرها وعاطفتها نحو صغيرها. وقد فضل الكاتب استثمار بعض الاصطلاحات المحكية في نسيج الحوار لكي يضفي على عمله نكهة محلية خاصة. ان تسليط الكاتب على بطله المحوري في اتجاهات عديدة وتحديد الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية لها، كان مهما في التجهيز للتحولات القادمة للشخصية بما ينسجم مع رؤيته للتركيبة المأساوية بما يحقق ضمنا توازنا عاما في البناء العام للرواية. ومفردة البحر هي المعادل الموضوعي لحركة وسلوك الشخصيات، ففي مشهدية بصرية رائعة ينتقل بنا كاتب الرواية الى عمق البحر وغموضه، حيث الاستعدادات والطقوس الخليجية المعروفة لرحلة الغوص بحثا عن اللؤلؤ من أهازيج ونهمات بحرية وغناء وحركة غامرة للرجال البحارة حركة امتزجت في نهاية المشهد بحزن بالغ وسكون غريب بعد أن سقط ابو احمد ميتا على ظهر سفينته القديمة بقدم الأيام التي قضاها باحثا عن قوت أهله في أعماق البحر، لتبدأ مرحلة أخرى من الاقتتال الداخلي بين البحارة على الغنيمة (اللؤلؤ) وكيف سيتم توزيعه، وتنتهي معركتهم بخيبة أمل كبيرة بعد اكتشافهم أن غنيمتهم (ثروتهم) قد سرقت بفعل فاعل، فرّ السارق هاربا ليتركهم في حيرة أكبر، وليسجل لنا الكاتب نهاية مفتوحة مثل ذلك النوع من النهايات التي نجدها كثيرا في المسرحيات المعاصرة. البحر وشخصياته لقد نجح علي محمد راشد بالفعل في التقاط ظاهرة البحر وشخصياته، مستفيداً من محيطها الثقافي والاجتماعي والإنساني لخلق عالم يرتبط بالوضع البيئي للحالة، والمحافظة على كينونتها ومفرداتها من خلال سلوك ولغة الشخصيات والمصطلحات المستخدمة وكأنه يواجه بذلك ثقافة العولمة من خلال عوالم القص والسرد الحكائي والأمثال الشعبية والمعرفة الشفاهية، ووصف الحياة اليومية للبحارة والنواخذة والطواويش (تجار اللؤلؤ) وعاداتهم وتقاليدهم بصورة جديدة لافتة للانتباه لا سيما في تصويره للشخصية النسائية (زوجة أبو أحمد) الشخصية القدرية، وكيف أنه لم يحاول تحميلها أكثر من مخزونها وارتباطها مع واقعها والشخصيات الأخرى، حيث بدت في إطار إنساني ظلّ واردا في ذهن القارئ حتى بعد رحيل الزوج، في تركيب تخيلي لشأنها وحالتها النفسية وهي قابعة في بيتها بانتظار زوجها وولدها الصغير، وهي تلوك قلقها عليهما، ويعتصرها الخوف على الغائبين، دون أن يفقدنا الكاتب ذلك الضوء في نهاية النفق من تواصل مهن الغوص التقليدي وتوارث مفرداتها عبر الأجيال من خلال شخصية الابن الطفل (أحمد) ذي الأحد عشر ربيعا الذي سيواصل رحلة العودة (القفال) نحو ميلاد جديد، أو على نحو ما قال د. هـ. لورانس في مقالة له بعنوان “الرواية والأخلاقيات”: “ينبغي على الشخصية في الرواية أن تمارس الحياة وإلا فهي شخصية لا تعني شيئا”. وممارسة الحياة ليست سهلة ولا تسير في اتجاه واحد، وحين نتابع حياة وطموحات أحمد برغم صغر سنّه، نعلم أنه قادر على إكمال رحلة أبيه في عالم البحر. حول عنصر السرد في روايتي “عندما تستيقظ الأشجان” و”ساحل الأبطال” لعلي محمد راشد يقول الدكتور ثابت ملكاوي في كتابه: “الرواية والقصة القصيرة في الإمارات نشأة وتطور”: “السرد في هاتين الروايتين بسيط ظاهري، تقليدي جدا، ولا تلمح فيع عمقا فنيا يجبر القارئ على التوقف لحظة، ليتأمل قولا أو حركة ذات دلالة تقوم بها إحدى الشخصيات، ففي روايته “عندما تستيقظ الأشجان” نلمح الراوي بصيغة ضمير الغائب وقد سرد علينا حكايات شخصياته بأسلوب التصوير السينمائي المباشر، والراوية هي عين الكاميرا التي تنقل إلينا الواقع وتحركات شخصياته بلا رؤية أو موقف حول هذا الواقع، مرتكزا على واقعية مغرقة في رصدها للتفاصيل، على نحو قوله: “بعد لحظات وضعت المضيفة أطباق الطعام المختلفة أمام أحمد وعبد العزيز، وبدأ عبد العزيز في التهام ما أمامه، بينما أخرج أحمد من جيبه علبة السجائر وأخرج منها سيجارة وضعها بين شفتيه ثم أشعلها”. صحيح أن الكاتب في روايته هذه لجأ الى التفصيل لحالة وتصرفات الشخصيات، لكنه قصد في تقديري إلى مسألة التأويل من جانب القارئ، وتعدد المعنى، وبث العديد من الدلالات الرمزية على نحو هذا السرد: “حمل أحمد حقيبته ومعه صديقه ونزلا مع الركاب من سلم الطائرة واتجهوا إلى مبنى المطار، حيث أنهوا إجراءات الدخول، ثم توجها إلى حيث تصل الأمتعة.. بعد دقائق بدأت الحقائب في الوصول تباعا على الحزام الكهربائي، ووجد أحمد وصديقه عبد العزيز الحقائب وحملاها وعند الباب سمح لهما بالانصراف” (ص 11). بالمقابل كتب الناقد الدكتور عزت عمر عن رواية “ساحل الأبطال” يقول: “رواية “ساحل الأبطال” تدور أحداثها ضمن الأجواء التاريخية التي وضعتنا بها رواية “الشيخ الأبيض” لصاحب السمو الدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، أي مرحلة الدول الاستعمارية للسيطرة على طريق التجارة الهندي واقصاء السفن التجارية العربية، وأثر هذه المساعي على الحياة الاجتماعية والاقتصادية لسكان المنطقة عموما، وإمارة رأس الخيمة مركز أحداث الرواية خصوصا. أما السرد فيتمركز على الشخصية المحورية الربان (صالح بن علي) الذي كان عائدا إلى رأس الخيمة بعد غياب ثمانية أشهر في سفرة تجارية نحو السواحل الأفريقية، وها هو السارد يرصده وهو مستلق على سريره المصنوع من الحبال، والأشواق إلى أهله ومدينته تعصف به، حتى يصل موطنه، حيث سيكتشف أن هناك أموراً كثيرة حدثت في غيابه، فلقد ازداد عدد السفن الإنجليزية في مياه الخليج وازدادت تجارتهم مع الهند، الأمر الذي خلق هاجساً قوياً لدى السكان بأن هذه السفن تسعى للقضاء على اقتصادياتهم وخصوصا على مهنتهم الأساسية التجارة مع الدول المجاورة عبر أسطول السفن التي يملكونها، لتبدأ بعد ذلك أحداث الرواية في مكانين: رأس الخيمة ومومباي مقر الحاكم العام الانجليزي، حيث من هناك ستدار شؤون الحرب ضد ثوار رأس الخيمة، وإلى ذلك فإن الربان صالح سينخرط مع أصدقائه تحت إمرة الشيخ حسين بن علي لمواجهة هذا العدو الذي بات يهدد مصدر عيشهم ورزقهم، لتنحو الرواية بعد لك منحى سرديا مؤثرا، يعكس المأثرة النضالية لسكان رأس الخيمة وهم يواجهون أعتى قوة استعمارية في العالم آنذاك، حيث قصفت المدينة مرات عدة، وأحرق أسطولها، إلا أن إرادة أهلها لم تنهزم أمام العدو، وبذلك فإن النص سيكون بمثابة تحية لأولئك المناضلين الذين بذلوا دمائهم رخيصة في سبيل الحرية، وفي الوقت نفسه بمثابة تأريخ روائي لهذه المرحلة الخطيرة من حياة أبناء دولة الإمارات العربية المتحدة”. بناء مشهدي المتتبع لهذه الرواية يجد أن هناك احتفاء بالبناء المشهدي البصري، ومن ثم التركيز في المكان، بمعنى أن التوصيف المكاني هنا لا يؤدي دورا ديكوريا تزيينيا كما في الرواية التقليدية، وإنما هو فاعل ومؤثر في صياغة الحدث والتأثير على سلوك الأبطال، بالإضافة إلى تراكم عنصر الدلالة حتى يتشكل الفضاء الرمزي للنص بأكمله، كما نجد في هذا السرد المشهدي: “كانت خيوط الظلام قد بدأت تلف المدينة، وبدأ الناس يوقدون مصابيح الغاز لتنير لهم بيوتهم، وان كانوا يفضلون أن تبقى الساحة الداخلية التي تسمى “الحوش” بغير إضاءة كاملة لأن النساء يجلسن فيها لتبادل الحديث، وكذلك ينام فيها أفراد الأسرة بالليل، لذا فإنهم يفضلون دائما أن يظل “الحوش” في شبه إعتام”. إن استخدام السارد “الراوي” في هذه الرواية كان موفقا إلى حد بعيد، من حيث التركيز على تقنية الحوار وتفعيله في إطار درامي يستفيد كثيرا من الحوار في المسرح، انه حوار منطقي ومتواز مع مكانة وروح وحركة الشخصيات، وبخاصة شخصية الشيخ حسين بن علي من جهة، وكل من دنكان وديفيد ستون والجنرال مالكولم من جهة ثانية، وكيف نجح هذا الحوار في ابراز عنصر الصراع الداخلي بين المناضلين وبين وجهة النظر الانجليزية حول مسألة مدّ النفوذ الإنجليزي الى ساحل الخليج. إن علي محمد راشد كاتب شفاف وواع لرسالته، فهو حينما يكتب يتجه بكل مشاعره نحو مساندة فكرة المحافظة على الهوية الوطنية، وهو ما بدا لنا في معظم رواياته، وبذلك يذكرنا باتجاهات شكسبير في كتاباته المسرحية، باتجاه تغليب مصلحة المجموع على مصلحة الفرد ولو من خلال التضحية بالأفراد على نحو ما وجدناه في مسرحياته الشهيرة “روميو وجولييت” والتي أدان فيها الصراعات الأهلية مطالبا بأن تكون المصلحة الوطنية فوق كل الصراعات العائلية. لقد تنبه الكاتب علي راشد الى هذا الجانب، بالإضافة الى مناقشته للكثير من القضايا الإنسانية ما بين مرحلة النفط وما بعدها، لقد كان الواقع الوطني أحد روافد كتاباته ومواضيعه التي تؤشر إلى مقدرته أيضا في استخدام المفردة المأنوسة المألوفة التي تشيع على الألسن، وقد ظهر ذلك جليا في استخداماته اللغوية اللصيقة بالمجتمع البحري. إن الحديث عن جيل الريادة حديث طويل وشائك ويحمل إشكالياته، ولكن مجرد استرجاع وقراءة إنتاجهم يوحي بأن هناك إبداع فطري، وتعبير صادق عن المشاعر، وعن الإنسان ومجمل قضاياه. ويشكل الروائي علي محمد راشد في هذا الإطار نقطة تحول سواء على مستوى الأسلوب ومحافظته على (نداوة) لغته وتعابيره المستمدة من الواقع والبيئة المحلية دون إخلال، كما قدم لنا من خلال أسلوبه المتسم بالجزالة ورقة الألفاظ والصور الفنية وجماليات التصوير، بما يجعل منه كاتب محلي الطابع شمولي التوجه، كما يسهل علينا ملاحظة مقدرته على رسم الشخصيات بدقة متناهية، إلى جانب فهمه الواضح لرسالة الكتابة في ارتباطها بالمجتمع والإنسان، على الرغم من وجود بعض الملامح الميلودرامية في بعض رواياته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©