الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لعبة المرايا والتخيلات

لعبة المرايا والتخيلات
16 فبراير 2011 19:16
قدم الباحث، والوزير اللبناني السابق، الدكتور جورج قرم كتابه “تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب”، الصادر عن دار الفارابي، الى القارئ العربي والأجنبي عموما، بحكم أنه وضعه باللغة الفرنسية، أولا، وصدر في باريس قبل صدوره باللغة العربية. ويطرح المؤلف في كتابه إشكالية السؤال الدائم، الذي يجيء تحت عنوان: نحن الشرقيين وهم الغربيين. وفي رأيه أن الدنيا مقسمة وفقاً لهذا المنحى، وأن هذا التقسيم آخذ في التصاعد، حتى أصبح العالم يضجّ بطروحات عن صراع أو حوار الحضارات، بالإضافة إلى تعدد الحالات حيث يوظف الدين في زيادة التوترات السياسية والحروب والغزوات التي قامت بها كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. وقد عالج المؤلف هذا الموضوع ـ كما ذكر ـ في كتابه السابق بعنوان “المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين”. يقول المؤلف في هذا الكتاب إنه وفي أثناء دراسته للقانون والاقتصاد في باريس، كان يتضايق كثيراً من النرجسية في الثقافة والعلوم الإنسانية الغربية ونظرة التعالي، بلّ والازدراء في كثير من الأحيان، بالنسبة إلى حضارات الشعوب الأخرى ومؤسساتها وعاداتها. وقد زاد خلال حياته المهنية هذا الشعور بالضيق في تقسيم العالم إلى دول متقدمة ودول متأخرة أو نامية، كما بدأ يشعر بمدى توغل الشعور بالتفوق الغربي لدى العديد من المثقفين العرب وتبنّيهم الكثير من الطروحات الفكرية والإشكاليات الغربية في النظر إلى تطور التاريخ الإنساني دون ممارسة النقد في الطروحات التي كانت تقدمها الثقافات الأوروبية المختلفة حول عبقريتها وتفوّقها. مناقشة الاستشراق ويشير المؤلف إلى أنه قرأ كتاباً حول الاستشراق للكاتب إدوارد سعيد، وفيه يقوم مؤلفه بهجوم شمولي وأحادي الجانب على نظرة الغرب للشرق، مما ساهم بدوره في توسيع جو العداء الفكري بين هاتين الهويتين العابرتين: الشرق والغرب. وهذا ما دعاه لاحقا إلى وضع كتابه بعنوان “شرق وغرب: الشرخ الأسطوري”. ومما لفت انتباه الدكتور قرم حينذاك أن لعبة التصادم بين الشرق والغرب هذه لعبة تخيُلية ولعبة مرايا خطيرة أطلقتها الثقافة الأوروبية الاستعمارية لتبرير سياسة القوة والسيطرة على مقدرات العالم. فصمم على الغوص في تاريخ اوروبا لفهم دينامية هذه القارة الصغيرة المتميزة بتنوّع شعوبها ولغاتها والتي وقعت ضحية سلسلة متواصلة من الحروب الداخلية الفتاكة. ودخل المؤلف في تحليل دينامية أوروبا انطلاقاً من قراءة تاريخها قراءة منهجية ونقدية، وليس قراءتها بطريقة تختصر لب الثقافة الأوروبية في الإمبريالية والإستعلاء على الشعوب المستعمرة. وأشار الى ان الثقافة الأوروبية متنوعة للغاية في تاريخها، وأدت الى حروب شعواء ضمن هذه القارة الصغيرة المقسّمة إلى شعوب ولغات وثقافات وتباينات دينية بين (البروتستانت والكاثوليك)، وبالطبع تخيّل وحدتها الحضارية، بما في ذلك نظام قيّم موحّد، وذلك تحت راية مفهوم الغرب. وأراد من خلال غوصه في اعماق تاريخ أوروبا تبيان كيفية ظهور هذه المفارقة، وتعقّب مقولة وحدة الغرب وانتشارها، بالرغم من كل التناقضات الكائنة في مجموعة الشعوب الأوروبية. وبناء على ذلك فإن الكتاب يقدم شرحاً لمسار التاريخ الأوروبي، مع عناية خاصة تستهدف فهم استيلاء هذه القارة الصغيرة على مقدرات العالم بعيداً عن التبسيطات أو الأحكام النمطية المسبّقة، سواء في تعظيم دور أوروبا في التاريخ الإنساني أو بالعكس، والنظر إليها بوصفها مجرد قوة شر، زرعت فساداً في العالم باستعمارها القارات الأخرى. ودوافع هذا الغوص المتعمّق، في فهم تاريخ الشعوب الأوروبية هو، كما يقول المؤلف، الخروج من لعبة الصور النمطية المتبادلة بين المثقفين العرب والمثقفين الأوروبين، خاصة أنه كان يشعر في الماضي بأن الثقافة العربية الحديثة قد وقعت ضحيّة التخيّلات الثقافية السياسية الأوروبية، نابعة بالأساس من إشكالية العلاقة بين الحداثة والأصالة التي نبعت من العهد الرومنطيقي في القرن التاسع عشر، وانتشرت لدى حضارات أخرى، بدءا من روسيا القيصرية، ومروراً بالصين والهند، وانتهاء بالعرب والمسلمين بشكل عام. أراد المؤلف في كتابه هذا التخلّص من الموقف العاطفي الإنفعالي للثقافة العربية، حيال الثقافة الأوروبية، لكي تتحرر الثقافة العربية من هيمنة المقولات والإشكاليات الأوروبية، الفلسفية، والاقتصادية والسوسولوجية المتوغلة فيها، وتدخل في مرحلة بناء استقلال فكري يسمح بوضع نظام معرفي وقيمي ومرجعي مستقل عن الصور النمطية المتبادلة بين تخيّلات الغرب حول الشرق وتخيّلات الشرق حول الغرب. وإذ ذاك تصبح الثقافة العربية متجذّرة فعلياً في الواقع العربي ومسيرته التاريخية التي هي بدورها تحتاج إلى مزيد من البحث النقدي لكي يعي العرب ماذا حلّ بهم من تهميش في حياة الأمم وفي صنع الأحداث، بل من عدم الوجود، ابتداءً من القرن الحادي عشر. وهذا بنظر المؤلف هي الخطوة الأولى لإعادة بناء الاستقلال العربي السياسي والاقتصادي والفكري الحقيقي على غرار ما تفعله شعوب أخرى، إسلامية كانت، مثل تركيا الحديثة أو إيران أوماليزيا، أم غير إسلامية، مثل الهند والصين وكوريا وفيتنام، وقبلها اليابان. حروب أوروبا لقد تبيّن للمؤلف أن خطاب الثقافات الأوروبية حول حضارتها التي تزعم وحدتها، كما نظرتها إلى الحضارات الأخرى، هي نتيجة الحروب الداخلية الفتاكة التي مزّقت هذه القارة طوال تاريخها بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية. وقد أمعن النظر في أسباب بروز العقيدة الصهيونية والمجازر التي ألحقت بالطوائف اليهودية المختلفة في هذه القارة، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية. ووفي هذا السياق طرح المؤلف سؤالا هاما حول ما حصل لأوروبا بين عهد عبقريتها الموسيقية الخارقة وبين الوحشية التي لا تقل استثنائية في عهد النازية. وأشار الدكتور جورج قرم إلى أن العرب لن يمكنهم مكافحة الصهيونية مكافحة فكرية وإعلامية فعّالة، إلا إذا فهموا كل تفاصيلها ومسببات الدينامية الفتاكة التي أدّت إلى الإبادة الجماعية للأوروبيين من الديانة اليهودية خلال الحكم النازي، وهو ما زاده قناعة في تحليله لأسباب نشأة الصهيونية وتطورها، بأن على العرب أن يرفضوا المنطق والحجج الأوروبية البالية حول شرعية قيام الكيان الإسرائيلي وألا يتعاملوا معها بأي شكل من الأشكال، إذ أن التكفير عن تلك المجازر البشعة المرتكبة بحق يهود أوروبا يجب أن يقع بشكل حصري على أوروبا نفسها وليس على الشعوب العربية القاطنة في فلسطين المحتلة أو المجاورة لها. ولذلك، فإن المقاومة الفكرية والمسلّحة ضد الصهيونية والتأييد الأميركي والأوروبي لها هي من أهم الواجبات، بلّ من أقدسها، التي تقع على كل عربي. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا الكتاب يفيد القارئ العربي من حيث المجهود الذي بذله لتبيان أساليب وأدوات وتقنيات بناء أسطورة وحدة أوروبا ووحدة الغرب بمكوناتها وتبريراتها المختلفة، ذلك أنه زرعت في الشرق العربي والإسلامي العديد من الأساطير حول تقنيات الثقافات الأوروبية في البناء الأسطوري. وأن الكثير من المقولات والمفاهيم الأسطورية الطابع التي أدخلت في صميم الثقافة العربية المعاصرة هي في معظم الأحيان متأثرة إلى أبعد الحدود بالمفاهيم والمقولات الأوروبية، بل قد تكون في بعض الأحيان مجرد عكسها، فتندرج في إشكاليات تاريخية وسياسية ليست من صنع ثقافة عربية مستقلة، باعتبار أنها من نتاج تصدير الإشكاليات الغربية عبر العالم. وهو شرحه بشيء من التفصيل في الفصول الأخيرة من الكتاب، عندما تطّرق إلى تداول الإشكاليات الرئيسة للفلسفة الغربية العائدة للقرن التاسع عشر الرومنطيقي لدى كل من روسيا والصين ودول ومجتمعات أخرى. وبناء عليه يعرض المؤلف الفرق بين تلك الحضارات والحضارة العربية المعاصرة. فقد عرفت تلك الحضارات كيف تتحرر من وطأة الإشكاليات الفلسفية الأوروبية، وبشكل خاص الألمانية منها، بينما العرب ما زالوا أسرى زنزانتها الفكرية، ومن بينها الإيديولوجيات السلفية الأكثر حدّة التي تدعي خصوصيتها الدينية أو اللغوية أو القومية، والتي ترفض، بالتالي، التفاعل الثقافي الذي عليه تُبنى النهضات المستدامة وإعادة الحيوية والإبداع والوجود في الحيّز الدولي، وذلك دون استلاب الشخصية الجماعية، ودون عقدة نقص تجاه الآخر أو عقدة التفوّق عليه. هيمنة المقولات يعتبر المؤلف أن هذا الكتاب يساهم في تقوية استقلال ثقافة القارئ، وتحريره من هيمنة المقولات والإشكاليات غربية الطابع، لأن في هذا المسلك المدخل إلى النهضة الحقيقية من جميع الجوانب، بما فيها الجانب العسكري الذي لا بدّ منه للتخلّص من الاحتلالات المشينة التي لا نزال نتعرّض لها من قبل المحور الأميركي الصهيوني. ويشير المؤلف إلى أنه لم يكتب صفحاته دون خشية أن يرتكب اختصارات كيفيّة قد تتعرض إلى الانتقاد من الباحثين، ولقد حرص في بحثه هذا على الإفادة من كل قدرات اللغة الفرنسية وهي اللغة التي كتب فيها هذا الكتاب، وقدرات اللغة العربية أيضاً في الترجمة علّه ينتقي ما تنقله من المفردات والمفاهيم وهي ليست مترادفات يمكن استعمال الواحدة بدلاً من الأخرى، وهذا ما يحصل في أيامنا هذه حيث تستعمل كمفردات كلمات ومفاهيم لا تحتوي على المعنى نفسه. فدقة اللغة والاستخدام الصحيح للمفردات والمفاهيم ضرورة لا بدّ منها للنجاح في تفسير الإشكاليات التي تسيّر الصلات بين كل من أوروبا والعالم. فالمفردات من طراز الثقافة، الدين، الحضارة، العرق، الأمة، ليست في الحقيقة مفاهيم مترادفات ولذلك فإن استعمالها دون دراية يؤدي إلى الكثير من سوء الفهم ذي التأثيرات المقوّضة والمخرّبة. ومن بين المفردات والمصطلحات المتحجّرة المستخدمة بطريقة استحواذية هجاسية ومتكررة، ذكر المؤلف: الغرب، والإسلام، والقيم (الآسيوية، والإسلامية، واليهو ـ مسيحية)، والديموقراطية ودولة القانون، والدكتاتورية، والتوتاليتارية، والإرهاب، والمجتمع الدولي، والتبادل الحر، وقوانين السوق، وهي كلها مصطلحات مجرّدة حُولت إلى شعارات تستخدم بشتى الطرق في معارك الكلمات والمفاهيم المبهمة غير المحددة المعاني، والقابلة بالتالي للتوظيف. لقد أجاد الدكتور قرم في خاتمة كتابه، إلى فتح حيّز جديد من التأملات المشتركة بين الثقافات الأوروبية وغير الأوروبية، وذلك عبر إعادة قراءة تاريخ أوروبا وتحريره من القواعد المقيّدة التي طبّقت عليه خلال القرنين الماضيين. وفيه سعي حثيث إلى فهم ماذا حصل بحضارات القارة الأوروبية التي انتجت أرقى أنواع الفنون والأدب، بشكل خاص في الحيّز الموسيقي والرسم. كما وانتجت أبشع أنواع العنف سواء في حروب القارة الداخلية أم في حروبها الخارجية. ويُظهر سرد المعطيات الموضوعية حول تصرّف الشعوب الأوروبية تجاه الأوروبيين من الديانة اليهودية مدى المسؤولية الجماعية لأوروبا في بروز ونشر العقيدة الصهيونية. وهي قضية أساسية قلّما تُثار في المناقشات والمجادلات حول الكيان الصهيوني وشرعيته المفقودة في الشرق العربي والإسلامي لتبيان أن الشعوب العربية ليست طرفاً في آليات اضطهاد اليهود في أوروبا. وفيه أيضاً مادة فكرية لتقوية المقاومة السياسية والمعنوية والأخلاقية ضد الشرعية الممنوحة أوروبياً للكيان الصهيوني، التي يجب أن تترافق مع المقاومة الميدانية لإعطائها مزيداً من الدعم والتأييد والزخم. العرب لن يمكنهم مكافحة الصهيونية مكافحة فكرية وإعلامية فعّالة، إلا إذا فهموا كل تفاصيلها ومسببات الدينامية الفتاكة التي أدّت إلى الإبادة الجماعية للأوروبيين من الديانة اليهودية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©