الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هانس جدامير·· وتقنيات التأويل

هانس جدامير·· وتقنيات التأويل
21 ديسمبر 2007 23:43
قام تأويل القرن التاسع عشر على افتراض أن آفاق المفسِّر تعمل على تشكيل جهوده لتفسير التراث، لكنه لا يعد هذه الآفاق ذاتها كمواضيع للفهم، إنما كعوامل لظروف حدوث الفهم فقط مما ينتج عن ذلك رؤية بمنظور أحادي مرتبك للفهم· لاحظ جادمير أن هناك نُقلة حدثت مع ''شلايرماخر''، فلم يكن التأويل لدى كل من سبقه إلا رد فعل على تعصي عملية الفهم يكون فيه التأويل عضيداً تربوياً في حالات استثنائية يتعذَّر فيها الفهم لسبب ما· لكنه مع شلايرماخر أصبح يعتني بالسابقة الطبيعية لسوء الفهم، وعليه لا يمكننا أن نعود إلى معنى النص إلا بإعادة ترميم وتركيب ظروفه التاريخية وحيثياته التي وجد وشكل بها· إن تشخيصاً من هذا النوع تتضمنه أعمال ''دلتاي'' الذي كان يصبو إلى إقامة ''علم التأويل'' على أُسس منهجية تمكِّن العلوم الإنسانية أن تدعي لنفسها مستوى من الدقة والصرامة يناظر ما للعلوم الطبيعية· إن كلاً من شلايرماخر ودلتاي قد عرَّفا المعنى وفقاً لما أسمياه بـ ''النزعة الموضوعية''· إن زمن الحاضر لدى كل من ''شلايرماخر'' و''دلتاي'' لا يمتلك إلا قيمة سالبة، حيث ما يتوجب على المفسِّر فعلهُ هو التعالي عن كل ما يدخل في عداد الحكم المسبق، وكل إرباك يحجب الفهم· ليكون الفهم هو الفعل المتأتي من الموضوعية المجرَّدة عن كل ما هو مسبق، ومن قدرة المفسِّر على إقصاء آفاقه المعرفية الخاصة· لكن في الحقيقة فإن ''شلايرماخر'' و''دلتاي'' قد صرفا النظر عن حقيقة تاريخية المفسر؛ وإنهما يعبران عن حنين ماضوي تجاه مثالية ''رينيه ديكارت'' وعصر الأنوار الذين سبق لهما وناقشا مسالة حكم الموضوع لنفسه وحيازته لاستقلالية تفصله عن كل ما هو تاريخي وتخلصه بالتالي من تبعات الحكم المسبق· في ضوء هذا الاستلاب المنهجي، تنهض نقدية غادامير من خلال السؤال: هل يمكن للمفسِّر أن يتجاوز موقعه اللحظي لمجرَّد الرغبة في ذلك؟ فيجيب أن هذا السؤال يُطرح فيما إذا كانت تاريخية الإنسان حدثاً عرضياً، أما وهي شرط أنطولوجي فالأمر مختلف عندئذ، فآنية الإنسان حالة تكوينية وسابقة الحضور في أي عملــــية تأويلــــية· لذلك يــتناول جادامير ارتباط المفسِّر بحاضره وبأفقه التاريخي على أنها معطيات أولية للفهم وليس عوائق له ينبغي تجاوزها· فكرة جادمير عن الحكم المسبق هي أحد أكبر المفاهيم المثيرة للجدل في فلسفته؛ التي تصرِّح بتناهي ومحدودية الفهم لتستعرض دوره الإيجابي في كل معنى أنساني· يمتلك الماضي لدى غادامير سابقة لظاهرة الفهم لطالما أُفتقدت عند الفلاسفة الذين سيطروا على المشهد الفلسفي قبل هايدغر، فلا يمكن تحجيم دور الماضي بوصفه عنصراً أضافياً على النُّصوص والأحداث التي تحتاج إلى تفسير· إن مثل الماضي كمثل الحكم المسبق والتراث، فكلاهما معطى أولي على الأرضية التي يقيم فيها المفسر وحينما يمارس عملية الفهم· وترجع هذه الفكرة إلى دعوى ''الكانطيين الجُدد'' و''الحركة التاريخية'' في أواخر القرن التاسع عشر التي أكَّدت تاريخية ونسبية كل التعبيرات الإنسانية التي وصلتنا من الماضي، لكنها وقفت عاجزة أمام معضلة تاريخية المفسر مع تاريخية الأشياء· كانت مشكلة التأويل على ما يصفها جادمير النتيجة الحتمية لهذا التكييف والإقصاء المشوِّه للتجربة الذاتية، وهنا يتضامن ''غادامير'' مع تقويض ''هايدغر'' لمفهوم الموضوعية· ما يريد غادامير تأكيده هو أن المثال الأساسي لهذه المعرفة قام بإقصاء المكونات التاريخية للوعي الذاتي، لكن هذا بحدِّ ذاته حُكم مسبق طاغٍ لطالما سيطر على عقول الفلاسفة منذ ديكارت· خالف ''جادمير'' الآراء السابقة من خلال تطويره تصوراً للفهم لا يتجاهل المشاركة الحاضرة للمفسِّر، ولا يكون إعادة تركيب فقط بقدر ما هو تأمُّل يتضمَّن الماضي في الحاضر· نجح ''جادامير'' في تغيير رؤيتنا لطبيعة الماضي من خلال إعادة النَّظر في وظيفة آفاق الحاضر بالنسبة للمفسر، إذ إنها استشراف لكل تضاعيف واحتمالات المعنى، وكمثال على ذلك؛ فهم هايدغر للأخلاق النيقوماخية- الأرسطوطاليسية، ومقال مارتن لوثر حول الرومان· كانت جهود ''جادمير'' موجَّهة إلى تحويل مسار ما هو تأويلي بعيداً عن تقنية وطريقة التفسير التي افترضت الفهم كنتاج قصدي للوعي الذاتي؛ فاعتبرت اللغة هي ''الوسيط'' الذي يخترق فيه الماضي الحاضر وبالعكس· أما الفهم فهو صهر لتلك الآفاق في العملية اللغوية· إن كلاً من هذين التصورين للغة والفهم لما لهما من تأثير في تحوُّل المعنى لا يُعدان مجرَّد عمليات منفصلة، إنما هما شيء واحد وحدود فهمنا مرتبطة بحدود لغتنا· والحقيقة أن هذه القوة الخلاقة لمفاهيم للغة، والحاضر، والحكم المسبق، والفهم في نظرية غادامير التأويلية، فتحت الباب أمامه ووضعته في أعلى مراتب المثال العلمي لكل ما هو موضوعي ولا متحيز في التفسير أو التأويل
المصدر: لندن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©