الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأيام الصعبة

الأيام الصعبة
22 ديسمبر 2007 23:07
كان سعيداً في حياته، منحه الله الصحة والذكاء والوسامة، أنهى دراسته بتفوق وحصل على وظيفة ممتازة، ثم تزوج امرأة جميلة وخلوقة لا يعيبها شيء، ورزقه الله بأربعة أطفال، فما الذي يدفع إنساناً مثل هذا الذي يعيش ظروفاً شبه نموذجية إلى هاوية المخدرات؟ كيف يختار طريقاً مهلكاً وهو يتمتع بالذكاء والعلم ورجاحة العقل؟ إنه أمر عجيب حقاً!! فهل يعقل لمن مثله أن يقضي أجمل سنوات شبابه وراء القضبان؟ لقد أنهى مدة حكمه تقريباً ولم تبق إلا أسابيع قليلة ويعود إلى أسرته، فكيف ستتقبله تلك الأسرة بعد غياب طال لأكثر من عشر سنين؟ ماذا سيقول لأولاده؟ وكيف يفسر وقوعه في ذلك الوحل؟ ماذا سيكون موقف زوجته؟ تلك الإنسانة الصابرة المخلصة؟ كيف سيعوضها عن كل تلك السنين التي عانتها وتحملت فيها المسؤولية لوحدها؟ إنه أمر محير فعلاً· أسرة نموذجية تتحدث زوجته عن مأساتها، قائلة: كان شاباً نموذجياً، مليئاً بالحيوية والنشاط، يحب الحياة، وهو يحاول أن يسعد من حوله، كثير المرح والفرفشة، عندما تزوجته احسست بأنني أسعد إنسانة في الوجود، احببته وصرت اتفانى من أجل اسعاده وتوفير الأجواء العائلية المريحة التي تبقيه في عشنا الهادئ الجميل، لم اتصور لحظة واحدة بأن مثل هذا الإنسان الرائع سيلجأ في يوم من الأيام إلى المخدرات، فمن يلجأ إليها في تصوري هو إنسان ضعيف يهرب من مواجهة مشاكله، وزوجي إنسان قوي وليست لديه مشاكل، فكيف يعقل أن يكون منهم؟ خلال خمس سنوات من زواجنا رزقنا بأربعة أطفال، زينوا حياتنا بالفرح والبهجة، كنت أعود من عملي مرهقة فأحاول أن أبذل جهدي لأكون بكامل حيوتي من أجل أسرتي، كثيرة الاهتمام بمظهري، أحاول أن أملأ عين زوجي فلا ينظر لغيري، حرصت على أن أكون دائمة الإبتسامة، لا أسبب له النكد والكدر، وهو كان كريماً طيباً معي لا يبخل علي بالمال ولا بالاهتمام والعاطفة، كان يحب اطفاله، يلاعبهم ويجالسهم، ماذا أقول؟ كنا اسرة نموذجية، حتى أني كنت أخاف علينا من العين والحسد· توفي والدي، فاضطررت للبقاء في منزل أهلي لفترة، وبقي زوجي خلالها وحيداً في المنزل، فصار يتردد إلى أصدقائه، دعاه أحدهم لتجربة المخدر، فقط من باب التجربة، للأسف، فإن زوجي لديه فضول شديد، فهو يهوى تجربة الأشياء الجديدة، ولأنه لم يكن ملتزماً بالدين ولا يصلي، فإن الشيطان تمكن من إغوائه بسهولة، جرب ذلك المخدر اللعين، أحس بخدر لذيذ وشعور غير اعتيادي، أعاد الكره مرة أخرى وأخرى، بالتدريج صار مدمناً لذلك الداء اللعين، لم تعد تكفيه الجرعات القليلة وصار يطلب المزيد والمزيد حتى تمكنت المادة المخدرة من جسده كلياً· الجهل أرحم لم أكن أدري وقتها بكل تلك الحقائق وكنت استغرب التغيرات التي طرأت على زوجي، حيث صار يقضي معظم وقته خارج المنزل، وأصبح متوتراً، عصبياً، غير قادر على التركيز· لم يعد يطيقني، وبدأ ينسحب من حياتنا تدريجياً، فلا يعود إلا بعد منتصف الليل وهو مرهق ومشحون بالغضب، لا يكلم أحداً ولا يسمح لأحد أن يكلمه، عرفت بأن في حياته قضية خطيرة تجعله بهذا الشكل الغريب· واجهته وطلبت منه أن يفسر لي ما يحدث، ولأنه لم يتعود أن يخفي عني شيئاً، اعترف لي بكل شيء، حتى أني تمنيت لو لم أكن أعرف لأن الجهل في مثل هذه الحالات هو أرحم من معرفة الحقائق· اخفيت عن أهلي الحقيقة، وقررت مساعدته على التخلص من هذه الكارثة، طلبت منه الدخول إلى مصح للعلاج، فأطاعني ودخل هناك لفترة فتحسنت حالته، ولكنه عاد بعد مدة من خروجه إلى الإدمان من جديد· تغير حاله وهزل جسمه وصار شكله مخيفاً، هالات سوداء تحيط بعينيه، وهو غير قادر على التفكير أو التركيز بشكل صحيح، ثم صار يشتكي من ألم في معدته وأعراض كثيرة لا يمكنني حصرها، وللأسف فإنه كلما توقف عن استعمال المخدر لفترة فإنه يعود إليه مرة أخرى· في أحد الأيام كان يقود سيارته وهو تحت تأثير المخدر، فاصطدم بسيارة أخرى، مات سائق السيارة وأدخل زوجي المستشفى متأثراً بجراح وكسور في أجزاء متعددة من جسمه، بقي في المستشفى لعدة شهور، وعندما خرج من المستشفى، اقسم بأنه لن يعود للمخدرات أبداً· فرحت كثيراً بقراره وقلت في نفسي: رب ضارة نافعة، حاولت أن اشغله بالزيارات العائلية والرحلات وما شابه، فاستجاب بشكل طيب لمدة ستة أشهر، وقد تحسنت صحته وعافيته، وبالطبع فأنني تحملت دفع دية المتوفى بعد أن أخذت قرضاً بنكياً كبيراً لتسديدها عنه، فقد تم طرده من عمله بعد اكتشاف تعاطيه· ماذا أفعل؟ انه زوجي·· والد ابنائي، وليس لي في هذه الدنيا أحد أغلى منه· للأسف، فإنه نكث عهده من جديد وعاد إلى المخدرات، لقد احبطني بشدة، هددته بطلب الطلاق، فلم يعد الصبر ينفع معه، قررت أن أجرب تغيير المعاملة للضغط عليه لعله يعود إلى رشده، عاملته بجفاء وقسوة وطلبت منه أن يختار بيننا، انا وأولاده أو المخدرات، فاختار المخدرات وترك المنزل وابتعد عنا· انقطعت أخباره عني لفترة، وعشت تحت ضغط نفسي كبير، فلا يهون علي أن أتركه ينام في مكان آخر غير بيته، ولا أريد أن يراه الأولاد وهو في ذلك الحال السيء· أخيراً، حسمت الصراع وعدت للبحث عنه لإعادته إلى البيت، اتصلت بأصدقائه ومعارفه، بحثت في كل مكان فلم أجده· في أحد الأيام اتصلت بي الشرطة لتخبرني بأنه قد تم إلقاء القبض على زوجي وهو يتعاطى المخدرات وفي حوزته كمية كبيرة منها· وراء القضبان حكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً، كان علي نسيان وجوده في حياتي، نصحني الأهل بطلب الطلاق وعدم انتظاره كل تلك السنين، ولكنني رفضت ذلك، فهو والد ابنائي ولن أفكر باستبداله مهما كانت الظروف· مرت عشر سنين، وقد تخففت عقوبته بسبب حسن سلوكه ومحاولته حفظ القرآن الكريم· لم انقطع عن زيارته والاطمئنان عليه، وقد حاولت أن أحسن صورته لدى الأولاد، فلا اسيء إليه أمامهم، وقد افهمتهم بأن الشيطان استطاع أن يغوي والدهم وأنه قد تاب الآن وهو إنسان صالح وطيب، لكنهم غير مقتنعين كلياً بهذا الأمر، وهم قلقون من عودته، فهم لا يتذكرونه ويعتبرونه غريباً عنهم· أجلستهم وتحدثت معهم حديثاً ودياً في محاولة مني لتهيئة الجو قبل أن يأتي والدهم، فيتصرفوا معه تصرفاً غير لائق، لأول مرة تؤلمني صراحتهم، فقد أخبروني بأن والدهم لا يستحق كل ما بذلته لأجله لأنه لم يفكر بهم ولا بي، ولم يكن لديه سبب واحد يدفعه إلى ذلك العالم المنحط وهو عالم المخدرات، ثم أخبروني بأن ما فعله والدهم انعكس علي، وأنني كنت قاسية معهم بشكل غير اعتيادي، فقد كنت متوترة وخائفة طوال الوقت عليهم من تلك الآفة ومن أصحاب السوء ومن كل شيء، كنت في قلق دائم ومراقبة شديدة، أسئلة واستجواب، تفتيش، حتى ملوا كل ذلك بعد أن تحولت حياتهم إلى كابوس مؤلم· وضعتني تلك المواجهة أمام احساس جديد وصعب هو أنني قد آذيت أولادي دون أن أدري، وتمنيت أن نستطيع انا ووالدهم أن نعوضهم عن كل ما عانوه بلا سبب أو خطأ ارتكبوه· النهاية الحزينة قبل خروجه بأيام ذهبت لزيارته وحكيت له ما دار بيني وبين أولاده، سالت دموعه وهو يستمع إلي باهتمام، فوجدت في نفسي الرغبة في قول المزيد، والتنفيس عن بعض الضغط الذي يسكن بداخلي بسببه، فقلت له: سامحك الله لم فعلت بنفسك وبنا كل ذلك، لقد جعلتنا ندفع ثمن غلطتك الشنيعة، تداركت نفسي وانا أجده يشهق ويبكي بصوت مرتفع، ندمت لأنني ضغطت عليه وهو قد تغير من أجلنا، فعدت للتخفيف عنه ووعدته بأننا سنعوض ابنائنا عن كل ما عانوه وانه سيعوضني عن كل ما عانيته، نظرت إليه فوجدته غارقاً في دموعه، سألته ان كان يخفي عني شيئاً، فقال لي: للأسف، فأنني لن اعيش طويلاً لاعوضكم عن كل ما سببته لكم، شهقت وصرخت بصوت مرتفع: لا تقل مثل هذا الكلام، ارجوك، لا أريد أن اسمع المزيد· سددت اذني حتى لا اسمع ولكن كلماته وصلت إلي كاملة وهي مخيفة ومرعبة أكثر من كل الذي مر علي في الماضي، أخبرني بأن جسده لم يتعافى من تأثير المخدرات بعد أن تلفت معظم الأجهزة الهضمية والعصبية، وأن الأطباء أخبروه بأنه لن يعيش طويلاً· يا الهي!! كيف سأتقبل مثل هذه الكارثة؟ لقد صبرت كل تلك السنين على أمل عودته إلي وإلى أولاده، فهل ستكون تلك العودة قصيرة إلى هذا الحد؟ كيف سأتقبل غيابه الأبدي عنا؟ إن هذا هو فوق طاقتي على التحمل، فأنا مجرد إنسانة ضعيفة، لست امرأة خارقة حتى اتحمل كل تلك المصائب· عموماً، فإن كل ما مر بنا انا وزوجي وأولادي وكل ما ينتظرنا من أيام صعبة وقاسية كان بسبب المخدرات، لقد حطمت حياتنا وحرمتنا من الزوج والأب، فأي قلوب قاسية يملكها تجار تلك السموم، وكيف سيكون عقابهم في الآخرة على كل ما يفعلونه بالناس؟ وأنني اتساءل أيضاً: لماذا يتجه البعض للمخدرات وهم يرون ويشاهدون ضحاياها في كل مكان؟ إنها أمور محيرة ولا أجد لها تفسيراً·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©