الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شرور «سمنهرور».. سياسة بطعم الشواء

شرور «سمنهرور».. سياسة بطعم الشواء
7 مايو 2009 00:38
مشهد من «الحكاية التراثية» الواقع أن مسرحية «سمنهرور» التي قدمتها وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع مؤخرا على مسرح أبوظبي، هي نغمة جديدة وجادة تهبَ على حياتنا الفنية، فهنا لعبة مسرحية قدمها المخرج حسن رجب بمهارة وطرافة فائقتين.. فصنع دراما الفكرة لنص أعده اسماعيل عبدالله عن مسرحية للكاتب السوري عبد الرحمن الحمادي بعنوان: «أخبار سمنهرور وما لحق بها من شرور» المأخوذة من أدب البخلاء للجاحظ. كما قدم لنا دراما الصورة من خلال عناصر الإسقاط والتشخيص والفرجة وجانب من الاحتفالية واتساع رقعة المشهد المسرحي مستفيدا من عنصر «التغريب» عند برتولد بريشت، ليقدم في النهاية متعة بصرية شغف بها جمهور مسرح أبوظبي الذي استضاف هذا العرض البديع لليلتين ضمن الموسم الثقافي الثاني لنادي تراث الامارات. موضوع هذا العرض رغم أنه في ظاهره يقوم على حكاية تراثية قديمة بسيط، الا أنه في باطنه يتكلم عن ذلك الشيء العميق، وهو في حياة كلَ منَا.. هذا الشيء هو «العدالة الاجتماعية» أو قل العدل المستحيل الذي يتطلع إليه الانسان المعاصر، بعد أن فقد ثقته في كل شيء تقريبا، هذا المعنى هو الركيزة المحورية الذي تدور عليها أحداث «سمنهرور» وأول مشاهدها الواقعية «عرس» أو حفل زواج، والحقيقية أن هذا المشهد وهو بمثابة «استهلال» للعرض كان مليئا بالحركة والفولكلور الشعبي والرقص المعاصر الذي قدمته «فرقة أورنينا السورية للرقص المسرحي»، الى جانب تلك النكهة والإيقاعات الخليجية المحببة من الغناء والأهازيج، ومن ثم ثراء الصورة والملابس والاضاءة والموسيقا وتوزيع الممثلين في فضاء كامل لخشبة المسرح، فحقق المخرج بذلك أول عناصر الإدهاش في دراما الصورة التي منحت العرض إيقاعا خاصا ارتبط به المدرك البصري للجمهور طوال ساعتين كاملتين. أما «العرس» الذي ينتهي بخلاف بين أهل العريس وأهل العروس فيكون مقدمة لكي ينقلنا النص الى المتخيل وهو مدينة سمنهرور حينما يتدخل «الملاَ» (الممثل جمعة علي) ويلعب دور «الرَاوي» أيضا، ليدعو أبناء الفريج الواحد (الحي) الى نبذ أسباب الاختصام والاحتكام الى العقل خوفا من أن يصيبهم ما أصاب تلك المدينة (سمنهرور) التي شاع فيها الفساد والنهب وسيطرة اللصوص على أراضيها، وأهلها في غفلة من أمرهم يتنازعون على توافه الاشياء. وبنقلة اضاءة وموسيقا سريعتين تبدأ مرحلة «التشخيص» لنشاهد الحكاية التراثية المعروفة بين «الحمَالي» وقام بدوره مروان عبد الله صالح جالسا أمام محل «الشَواي» ولعب دوره الممثل موسى البقيشي، الذي يطالب «الحمَالي» بدفع ثمن رائحة الشوَاء التي أكل عليها رغيفه. لكنهما سرعان ما يختصمان الى القاضي (عادل ابراهيم)، لنرى بعد ذلك تطورا فانتازيا للقضية التي تصل الى أعلى سلطة في المدينة وهو الوالي (عبد الله بوشامس)، لنرى بعد ذلك تواليا للأحداث في مدينة ضالة بسبب ما جرى فيها من آثام وشرور لانقسام الناس واستغلال السلطة لأبنائها الى حد إفسادهم، وتمت الإشارة في المواقف والأحداث إلى غياب القيم والمبادئ، وسيطرة «البطانة» أو الحاشية على أصحاب القرار، وهي آفة الحكم في دول العالم الثالث، لتنتهي المسرحية بلوحة غنائية استعراضية محورها: «العالم وين وأنتوا وين؟» وهي بمثابة إسقاط عصري واضح على الواقع العربي المعاش، واقع نراه كل يوم من الانقسام والتشرذم والانشغال بأمور بعيدة عن القضايا المركزية. إن أهم ما في شغل المخرج حسن رجب في إخراجه لهذه المسرحية تمثل في تركيزه الشديد على «الايقاع» وخلق عنصر التشويق من خلال المحافظة على التداخل الزماني والمكاني بين المشاهد وربطها بطريقة محكمة، مع استثمار أمثل للفضاء المسرحي لاكثر من 40 شخصية ما بين ممثل وراقص ومجاميع، كما أن استثماره لعنصر «التغريب» قد ساعده على فهم أكبر لعملية الإيهام المسرحي، وكيفية كسره بصورة منطقية. وكانت مظاهر الفرجة من أهم مكونات الصورة الفنية، وبدا لنا ذلك واضحا في مشهد الصدام بين مؤيدي «الحمالي» ومؤيدي «الشَواي» وقد جمع الإخراج بمهارة عالية بين الجمالية الدرامية وبين الفكرية الدرامية من خلال استثماره الجيد للمثلين على صعيد الأصوات المستخدمة، وتغيير القطع الديكورية الصغيرة، وإضفاء تكوينات هندسية موحية على تشكيلاته من الممثلين، حيث ساهمت هذه التشكيلات بدلالات رمزية في مضمون اللوحات الفنية لتكوين فانتازيا رمزية عولجت في إطار كوميدي خفيف ومعادل موضوعي منطقي يناقش سؤال العصر: أين نحن من قطار العصر؟ ضمن عمل استعراضي خفف كثيرا من جمود الإطار القديم للحكاية. وقد أسهم عنصر «التقمص» في تحديد ملامح الممثلين رغم التداخل الكبير في المشاهد التي أقيمت في إطار الحدث الاسترجاعي أو «الفلاش باك» وقد حقق ذلك للنص بناء دائريا وجدناه في بعض مسرحيات تشيكوف وبخاصة مسرحية الجلف أو الدب. حيث تنتهي «سمنهرور» من حيث بدأت، والعكس كان ممكنا في نص أقامه معده على تتابع المشاهد السريعة، واللغة المكثفة والحوارات القريبة من نفس المتفرج المعاصر. في تقديري ان أهم ما في عنصر التمثيل في هذه المسرحية هو الثنائي غير الاعتيادي الذي كوَنه باقتدار الممثلين مروان عبد الله صالح وموسى البقيشي سواء على مستوى التناغم الحركي أو على مستوى «التماهي» في الأداء، وشموخهما في تجسيد اللحظات التراجيدية على قلتها، لقد كانا ثنائيا فوق العادة اذ يصعب ان تجد في المسرح المحلي مثل هذه التركيبة. وهنا نشير الى الهبوط الاضطراري لعدد كبير من الممثلين في المسرحية، وربما يعود ذلك الى الانشغال بالصورة الجمالية، وإلى ضخامة عدد الممثلين، بحيث غاب الأداء الجميل للمثلتين امل محمد بدور ام العروس، وريم الفيصل بدور ام العريبس، مع أنهما تتمتعان بشخصيتين ذات حضور على المسرح، زد على ذلك ضعف مساحة دوريهما في النص وكأنهما مجرد ديكور في جملة عنصر التمثيل، ولم نكن نحب من الممثل عبد الله بوشامس تقليد الممثل الكويتي مشاري البلام في مسلسل «الحيالة» الذي نال شهرة واسعة في منطقة الخليج. على أية حال ان هذا لا يمنع من الإشارة الى ان عنصر التمثيل بمجمله قد نجح في الابتعاد عن مشاهد الأداء الباردة والخاوية من الحركة والحرارة والإيحاء. ملاحظات تقنية قلنا إن المخرج حسن رجب قد أحسن في استغلاله للفضاء المسرحي وإشغال كامل خشبة المسرح بالممثلين، حتى اتسمت الخشبة باتساع رقعة الصورة، وقلما شاهدنا مشاهد الثنائيات أو ذات العدد المحدود من الممثلين، وعلى ذلك جاء الديكور المرسوم الذي صممه محمد الغص خارج السياق المسرحي، وكان بالإمكان الاستغناء عن الستائر التي كانت تهبط مع نقلات الأحداث لتوحي لنا بالمكان الذي يجري فيه الحدث، مع ان وجود «الراوي» الذي كان يخبرنا على التوالي بتطور الأحداث والأمكنة كان كافيا للتوضيح ولو بقطعة ديكورية صغيرة موحية، طالما أننا نقوم بعمليات التجسيد والتقمص بالاعتماد على عنصر التغريب، فلم نكن نحب أن تكون الديكورات المرسومة هي عنوان لهذا العرض الكبير والرشيق القائم على التوازن والتجانس والصورة والتوازن في كل شيء. ماهر هريش الذي قام بتصميم إضاءة هذا العرض، كان واعيا لمفهوم الضوء المسرحي، فقد أسهم بمجموعة الجمل الضوئية وبخاصة تلك البقع الضوئية المحددة بهندسية عالية في تحديد ملامح التشخيص في العرض، الى جانب هارمونيته اللونية الجميلة مع الاستعراضات الراقصة، التي جاء بعضها وليس كلها ضمن النسيج الدرامي للعرض. كما أسهمت كلمات الأغاني التي وضعها عبدالله صالح في منح الأجواء الموسيقية رحابة واتساعا تنسجم مع بانوراما العرض. كما نجحت رجاء مخلوف في تصميم أزياء تجمع بين الإيقاع التاريخي والمعاصر في فهم كامل لوظيفة الزَي في تحديد ملامح الشخصية، لقد جاءت الأزياء بألوانها وشفافيتها ذات طابع إنساني بعيدا عن البهرجة والمغالاة. وما بين الموسيقا والأغنيات التي أعادت لنا مناخات الفن الشعبي المحلي الجميل، وما بين الالوان والأزياء والحركة والمشهدية البصرية تحقق للمتفرج تلك المتعة الممزوجة بالفكر الرصين، في عرض يستحق تعميمه على جمهور الإمارات بالكامل. الصراع في «سمنهرور» بين الواقعي والمتخيل، جاء في إطار كوميديا الموقف، وهو ما يحسب لمخرج العرض الذي ركز كثيرا على لغة الممثلين ولم يغفل ذلك المزج اللطيف بين العامية الراقية والفصيحة، وبخاصة أنه اراد من جمهوره أن يرتبط بالاحداث المروية من خلال لعبة «المسرح داخل مسرح» وهو ما يحتاج الى حركة مسرحية متنامية، حتى لا تنقطع خيوط التتابع بين يدي المتفرج، حتى تظل الحكاية التراثية منطبقة تماما على الواقع الفكري والاجتماعي والاقتصادي العربي المعاصر. لقد كان حسن رجب بحق «مايسترو» هذا العرض بكل أبعاده، فلم يضف الى النوتة الموسيقية ونقصد بها النص الذي برع اسماعيل عبدالله في إعداده، سوى أنه جسد أبعادها، ووضعها في صورة جمالية لا ينقصها البعد الانساني، مستفيدا من عدة تكنيكات في المسرح المعاصر، وكان خير ما فعله ان قدم لجمهور أبوظبي فرقة اورنينا السورية بقيادة ناصر ابراهيم، حيث أضفت على العرض جمالية مضاعفة، الى جانب ذلك الذوق الأنثوي في تشكيل معادلة المشهد المسرحي. واذا كانت هناك كلمة اخيرة فهي موجهة لمنتج هذا العرض الذي حقق جماهيرية ونجاحا كبيرين بعد عرضه في دمشق، وهي وزارة الثقافة التي وضعت قواعد مهمة للتعامل مع الفن الجاد والاصيل ضمن رسالة المسرح وبخاصة أننا بحاجة الى سد الفراغ في قضية عدم وجود فرقة مسرح قومي متخصصة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©