الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحب الضائع

الحب الضائع
7 مايو 2009 00:49
يسقط على الأرض، يعلو صراخه، يستغيث ولكن صوته يطير مع الريح، تهرول المسكينة باتجاه الصوت .أوه كالعادة جالس أمام شاشة الكومبيوتر وأصوات المزامير والدفوف تتسابق إلى أذنيه، لا، لا يستمع إلى أحد، أي جبل هذا يا ترى؟ لم تحتمل الموقف سحبت سماعات الصوت من فوق أذنيه وأردفت قائلة: إلى متى ستعيش غارقاً في بحر اللامبالاة ألم تسمع صوت الطفل وهو يصيح؟! أنا لم أسمع شيئاً، ثم لماذا كل هذه العصبية؟ كادت أن تعض على لسانها من الغيظ، ازدادت يقيناً بأن الذي أمامها كتلة من الجليد، تبلّد الحس فأصيب صاحبه بالكسل والخمول! كنا في العمر ذاته، كل شيء كان على ما يرام، لم أدخر وسعاً في العناية ببيته وأولاده، ولكنه اكتسب الأنانية مؤخراً، لم يعد يهمه سوى مظهره والأصدقاء.. إننا في ذيل قائمة اهتماماته! لست أعرف ما يريد، أو عن أي شيء يفتش.. ملل عريض أبصره في عينيه، لا يعجبه شيء يريدني أن اقتطف له النجوم، أن أضم زهوره، احتضن براءته كالطفل، ينام على قلبي ليقلب صفحات العمر، لا وقت لدي فالبيت والأولاد والعمل يسحبون جميعاً من رصيد الوقت أكثر!! تنتظره عطلة طويلة. ما أتعس جلوسه في المنزل لا يستفيد من وقته، لو اقترحت عليه أن ينظم وقته من خلال جدول يومي سيسقط على قفاه من شدة الضحك، حتى الوقت يريدني أن أنظمه له، ربما اقتنعت الآن بأنني تزوجت طفلا! ولكنها.. فكرة سأشغله بوضع الأطفال عنده وقت ذهابي إلى العمل... الآن أدركت كم أنت مجنونة وما أدراني بكيفية الاهتمام بالأطفال، ثم لماذا لا ترسليهم إلى أمي أو إلى أمك. الصداع المر لا يفارقني عندما استمع إلى صراخهم، ثم إن الخادمة ستشرف عليهم فلماذا كل هذا القلق بشأنهم؟ ينتقد الصراخ وهو لا يبدأ حواره ولاينهيه إلا بالصراخ، وبينهما محاضرة طويلة اعتدت سماعها لاتجدي نفعاً ولن يتحقق ما أريد ولكن كي يشعر برجولته ويشعرني بأنوثتي ! وأخيراً لمعت في ذهنه فكرة السفر، هذا ما كان ينقصني من مصائب، لو كان لسفره فائدة ربما كنت سأكون أول المهللين فرحاً. كتب على نفسه الغربة فابتلعه الزمن، طال عطش الينابيع فلم يجد القلب حباً يروي نبضه، لم يكن بمقدور القلب الذي أحبه أن يبغضه يوماً. قرأت في عينيه كل أصدقائي يذهبون بصحبة آبائهم الى حيث تثمر أشجار الحب والطمأنينة! يقتطفون ثماراً ناضجة بماء الحب! بعد كل هذه الكلمات انفجر باكياً أحسست بدموع الستائر والنوافذ والثريات المتدلية.. بكى كل شيء! اتصالاته الهاتفية لم تكن تشعرني بشيء سوى أنه لن يعود قريباً، أيها المسكين كيف قلبك ألا يحن إلى الطيور التي بهت لون ريشها، ألا تبعثره الغربة الراقدة في عينيها، ألا يشتاق إلى سحر صوتها! عاد بعد شهرين قرأت في عينيه الفشل.. فشلت كل قصصه الغرامية ومحاولاته العاطفية، هوى على أقرب أريكة وكأنه لم ينم منذ زمن بعيد، احتضن الصغار قبلهم واحداً واحداً! لم تتركه حتى يلفظ أنفاسه وإنما بادرته سائلة: متى ستكف عن كل ألاعيبك الصبيانية وتقتنع بأن لديك زوجة وأولاداً؟ أجابها على الفور: حين أجد عشاً ليس من القش لطائر ليس ككل الطيور! عن أي شيء تتحدث؟ منذ أن تزوجنا وأنت تقومين بكل شيء على أكمل وجه ولكنك لم تستطيعي أن تشعريني بأنني الحبيب وأنك الصديقة والأم والأخت والزوجه والحبيبة! لذلك سافرت لأبحث عن سحب لا تمطر مالاً ولا ماء!.. وقفت مذهولة.. بينما دمعتان لم يستطع أن ينتصر عليها... فسقطتا... قطع من سحاب أبيض فاخرة عبدالله بن داغر * «أنا فتاة مميزة، أريد العالم ان ينظر إلي، أريدهم أن يعرفوا أنني أنثى تضج بالحياة، أرى نفسي محط أنظار العالم، لأنني مميزة...». كلمات صاغتها فتاة في خاطرها عندما كانت تمشي بهدوء وبابتسامة خجولة تحدث نفسها، ولكنها في واقع أمرها فتاة بسيطة لا تملك مفاتيح الجمال لكنها رائعة، تستفيق كل يوم لتغذي نفسها بتلك العبارات التي جعلتها لا تنظر لواقعها، أخذت تتمايل في ثقتها بنفسها ولكنها لا تجرؤ على الظهور بتلك الروح الرائعة.. أخذت تخبو خلف أحلامها، ولكنها تعيش بها، وتمر أيامها وهي تحلم بأن تكون فتاة العيون ليس لجرأتها بل لتميزها. استفاقت يوما وهي منهارة من التعب ثم انخرطت في البكاء: «ما الذي يمنعني أن أكون تلك الفتاة المميزة؟ لماذا لا أجازف وأبدأ في إبراز ذاتي؟ أريد العالم أن يعرف من أنا؟ إنني إنسانة منطلقة للحياة، شغوفة بالحوار، عاشقة للجدل، إنني لست مثلما ترونني، إنني رائعة، ولكني لا أستطيع؟ لماذا؟ لا أعرف.. ربما لأنهم سينظرون إليّ نظرة غرور! نظرة تعالي! نظرة حقد من نجاحي! إنني أعلم أنني عندما أخرج من أسواري وعندما أحطم قيودي سأكون شعلة الزمان والمكان، سأكون تلك التي يحسدها الجميع، ماذا سأفعل؟ ما الذي يجب أن أقرره؟». استمرت دموعها المنهمرة التي لا تعرف سببا لها.. فهل تشعر بدرجة من الدونية؟ وأنها دون المستوى؟ هل لها أن تبدأ من جديد وتنطلق ممسكة بأحلامها الى أرض الواقع لتحققها؟ خبت تلك الأصوات في داخلها وانسلت بجسمها في فراشها تحت الغطاء واختفت ملامحها. ماذا قررت؟ وما هي الخطوة التي تريد تحقيقها؟ لقد تعبت وتألمت لأنها تبحث عن الافضل لتصعد بذاتها الى النجوم. دقت الساعة السادسة صباحا لتعلن عن يوم مصيري في حياتها. نزعت عنها الغطاء وكأنها تقول: بدأت يوما جديدا وسأبدأ بقوة. ألقت على نفسها نظرة أخيرة قبل أن تخرج من خلف أسوارها بابتسامة جديدة خلقت رونقا جديدا على محياها، وبخطى واثقة ذهبت إلى هدفها تبحر وتطير وتمشي على قطع من سحاب ابيض. * الفجيرة مجنون بينهن.. سلطان البادي * منذ أن أراني (جمّوع) ـ جمعة ـ الفيلم في هاتفه النقال وأنا أجد قشعريرة باردة تسري في عروقي.. حدث ذلك منذ يومين؛ والصور المتداخلة لا تفارق خيالي، تبتعد الأمكنة لتحل محلها العتمة الأبدية التي غرسها (جموع) في صدري. تتداخل خيوط الذاكرة، وتتحد الأزمنة المنسية في عمري. يهرب الوجع الأزلي للنسيان وتتجمد الأحلام على بريق خادع يقود لمتاهات لولبية، تضيع الخيالات الخصبة.. ولا يبقى غير فيلم (جموع) والصور المتراكضة والقبل طويلة الأمد.. أراقب البنات في ذهابهن إلى المدارس وفي رجوعهن والمريولات المكوية بعناية في الصباحات الحالمة وقد أصبحت آيلة للانطواء على أحلام المراهقات. أنظر إلى الوجوه الطفولية وأنا أشعر بخدر لذيذ يتسللني وأنا أتابع السيقان تجر وراءها ضحكات تجعل دروب الحارة مضيئة.. يتسلل الخدر إلى عروقي وأنا أسمع الحوارات حول مقالب الدراسة.. تذكرت الصف الخامس الذي عمرت فيه ثم خرجت من المدرسة لأساعد والدي في المزرعة. أما (جموع) فدخل الجامعة وأحضر معه أشياء غريبة؛ مثل الفيلم في هاتفه النقال والذي أصابني بالدوار طوال يومين. اقتربت من إحدى البنات في مرورها بالقرب من المحل. قرصتها.. ـ حيوان..! ـ لا تشلي عليه.. هذا مجنون..! دائماً أسمع هذه العبارات.. (مجنون).. (خفيف عقل).. (متخلف).. مصمصت شفتي وأنا أقسم إنها تشبه البنت في هاتف (جموع). تذكرت القبل الطويلة (...) اهتززت وأنا أشاهد بنت تشتري (فراخ).. تسلل العرق إلى ملابسي وجعلني أشم رائحة نتنة عكرت مزاجي.. توجهت إلى الدكان واشتريت (فراخ) وجلست على الدرجة أسفل بابه آكل وأنا أشاهد البنت تنصرف وتحرك شفتيها بعد أن وضعت عدة حبات من الفراخ في فمها.. أتت بنت أخرى برفقة زميلتها. نظرتا إليَ وأنا أحدق في التفاح الذي على وشك القطاف.. ـ شو فيه هذا المجنون..؟! ـ ما عليك منه.. خلينا نتشرى ونروح بسرعة.. انصرفتا وأنا أتابعهما بشغف.. ابتلعتهما دروب الحارة الضيقة.. بعد يومين آخرين من الانتظار الممل للعدم؛ حيث تتداخل الأشياء في أحلامي وتتفسخ الصور؛ لتبرز بنات ضاحكات يركضن في كل الاتجاهات التي تقود إلى اللهفة الفارغة.. أنهض.. وانطلق إلى المحل حيث مرور البنات في رواحهن وغدوهن إلى المدرسة.. تمر الساعات ببطء شديد. تأتيني خيالات فيلم (جموع) في وحدتي، تهتز ذاكرتي وتتداخل السكينة الصباحية مع ضجيج الأوقات العابرة للهفة.. دخل المحل مجموعة من النساء. لا يوجد بهن ما هو مثير. أصابني النكد بعد أن شممت روائح مزعجة لعطورات محلية الصنع. ابتعدت عن المحل حتى لا تتلوث ذاكرتي بأشياء غريبة. أردت أن أبقي خيالي خصبا بفيلم (جموع) وببنات المدارس بمريولاتهن الزرقاء.. غلبتني وحدتي والصور المتداخلة في رؤيتي للأشياء. بحثت عن زاوية مظلمة. وعندما سمعت أذان الظهر عرفت أن الوقت اقترب.. عدت إلى المحل.. ها هي أول دفعة من البنات تقترب.. غاب الوعي مني والصور تتداخل مرة أخرى في ذاكرتي. أراقب العابرات وجسدي يمتلئ بالعرق. أبحث عن البنت التي تشبه فيلم (جموع). ها هي تبرز مع دفعة أخرى. مصمصت شفتي بلهفة. دخلتُ خلفها إلى المحل. نهرني صاحب الدكان وطلب مني الخروج. عندما خرجن تبعتهن. دخلت لوحدها إلى ممر مظلم. أسرعتُ خلفها. هناك أشياء وصور تتداخل في خيالي. يقشعر بدني. وتزيد لهفتي وأنا أتذكر الفيلم. يمتلئ جسدي بالعرق.. ها هي العتمة الأبدية لممرات الحارة تحتوينا لوحدنا. انقضضت عليها. أطلقتْ صرخة رجّت الحارة. ضغطتُ عليها بقوة. لطمتني بكف. مزقتُ مريولها الأزرق.. عندما اجتمع الناس انفرجت أحلامي عن خطيئة! * كاتب عماني أذكرها... فيفيان عيلبوني * أذكرها.. وكيف أنساها وقد حفرت في الذاكرة والوجدان وتغلغلت في الروح حتى باتت قطعة منه! أذكرها.. هي «أمي» وتلك الأيام هي «نكبتي» وما علق في الذاكرة هو «معاناتنا». لم أكن قد تجاوزت يومها الثامنة لكني ما زلت أذكر تفاصيل دقيقة عن أشياء أستغرب اليوم كيف علقت بذاكرتي كل ذلك الوقت. أذكر أني يومها كنت ألعب مع أقراني في ساحة القرية عندما نادتني لتخبرني أننا يجب أن نرحل في الحال. لم أفهم شيئا مما قالت وظننت أننا سنلحق بأبي الذي غادر منذ أسابيع حاملا معه بندقية. سألتها أسئلة عديدة لكنها لم تجب على أي منها كانت منشغلة بأشياء كثيرة، فتوقفت عن طرح الأسئلة وأمسكت بيد أختي ليلى كما طلبت مني وحملت هي أخي الرضيع وانطلقنا في مسيرة طويلة ظننت حينها أنها دامت ثلاثة أيام فقط، بينما في الحقيقة طالت بنا العمر كله. نظرت الى بيتنا وأنا أبتعد عنه دون أن أعي انها ستكون آخر مرة أراه فيها. كان صوت الرصاص يأتينا من بعيد.. أنظر الى أمي فلا أجد في ملامحها أي أثر للخوف.. أطمئن وأكمل طريقي. خائفة كانت؟ لا أعلم. كل ما أعرفه أنها كانت متماسكة ولم تشعرنا بالخوف لحظة واحدة. كانت إذا ما هدأت أصوات المدافع قليلا وخيل إلي ان الحرب قد انتهت تقول لي ونيران الغضب تملأ صوتها: «الحرب لم تنته ولن تنتهي الا عندما نعود الى قريتنا وننام في منزلنا آمنين». لم أدرك حينها ما عنت بالتحديد لكني أعلم اليوم أن تلك الحرب التي لم تنته كل تلك السنوات قد تركتنا بدون أرض وبدون منزل وبدون أمان وبلا وطن. أيام ثلاثة مشيت ممسكا أختي الصغرى بيد وثوب أمي باليد الأخرى. ثوب فضفاض طويل أتمسك به كي لا تغيب عن ناظري فإن فقدته فقدتها وضللت الطريق الى الأبد. عندما كانت تتعب ليلى كنت أحملها على ظهري فتنظر إلي أمي نظرة لطالما افتخرت بها وحملتها في أعماقي مع ذكرى تلك الأيام، نظرة تحمل معاني كثيرة أجملها وأحبها على قلبي أني رجلها. ما زلت أذكر فرحتي ساعة وصولنا الى الحدود، فقد ظننت حينها أن معاناتنا انتهت، لكنها للأسف كانت قد بدأت. جندي على حدود تلك الدولة المجاورة كسر فرحتي وآمالي كلها. كان ينظر الينا بازدراء وكأننا خراف ضالة موبوءة ومع أني لم أعرف سببا لمعاملته تلك إلا أني لم أنسها يوما. كنا كثيرين على تلك الحدود، بالمئات بل بالآلاف ومع أن منظمات إنسانية كثيرة كانت تقدم لنا المساعدة وترعانا إلا أن تلك الشفقة التي كنت أراها في عيونهم كانت أكثر ما يعذبني.. أذكر أني سمعت يومها كلمة لم أفهمها لكنها رافقتني طوال عمري كوصمة عار على الجبين لا ذنب لي فيها. سمعتهم ينادوننا بـ»اللاجئين». سألت أمي: من هم اللاجئون يا أمي؟ لم تجب، بل أحنت جبينها ونظرت الى الأرض تهرب من عيني ومن أسئلتي ومن الواقع المرير الذي أخرسها.. وفاجأني. بحثنا عن أبي كثيرا فوجدناه بعد أيام في مخيمات للجرحى. أذكر لقاءنا بوالدي وأذكر دموعها يومها التي لم أؤمن قبل ذلك اليوم بوجودها.. حين رأيت دموعها فقط شعرت بالخوف.. وبفظاعة النكبة التي أصابتنا.. فهمت أننا فقدنا كل شيء الأرض والوطن والكرامة.. نعم، فما أدركت هول الكارثة الا عندما رأيت دموع أمي وشعرت بضعفها. عرفت منذ ذلك اليوم ما عناه والدي عندما كان يردد لنا أن من لا وطن له لا عزة له ولا كرامة ولا أمان ولا استقرار. لم نعد يوما الى منزلنا، الى قريتنا، الى وطننا، لكن أمي ولآخر لحظة من حياتها لم تفقد الأمل بذلك. أمل زرعته فينا، روته بقصص عن ماضينا وبحقائق من تاريخنا. كانت تردد لنا دوما كلما قست علينا الحياة: إياكم أن تنسوا من أنتم ومن أين جئتم، إياكم أن تنسوا أصالة جذوركم وتاريخ أجدادكم. ففي اللحظة التي تفقدون فيها ذاكرة ماضيكم ستمحون من ذاكرة الحاضر والمستقبل. عانينا كثيرا، هجرنا طويلا، عوقبنا على ذنب لم نقترفه لسنوات وسنوات، لكننا رغم كل ذلك لم نعرف اليأس أو نستسلم للهزيمة لأننا ما تربينا يوما على تلك المفردات. قرأت يوما في كتاب لجبران خليل جبران أن «عظيم الرجال من صنع الأمهات فإذا أردتم رجالا عظاما فعلموا الأم الكرامة والعظمة». أعجبني ذلك القول فرددته حتى حفظته. وكنت كلما أعيده على نفسي أذكر أمي، وأحيانا كثيرة كنت كلما أفكر بأمي أردد ذلك القول. من جبروتها وقوتها تعلمت الرجولة. ومن حكمتها وصبرها تعلمت كيف أواجه الحياة. من وطنيتها تعلمت الكرامة ومن أنفتها تعلمت العظمة. ما زلت أذكرها وما زالت تزورني في أحلامي كل ليلة ترتدي ذلك الثوب الفضفاض الطويل الذي كان قبلتي لثلاثة أيام وتوصيني بألا أنسى ما عانيناه وأن أعيد رفاتها الى تلك الأرض التي ما غابت عن بالها لحظة.. فأعدها أن أفعل.. ما زلت أذكرها كما يذكر عابد متنسك ربه بكل اجلال وحب واحترام. الذئب الأخير في مملكة الحمير أحمد عمر * ماذا سيفعل؟ وكيف سيعيش وحده؟ عوى عواء حزينا، فردّ عليه نهيق، ساخر، بوقيّ، بعيد، فنكس رأسه وبكى. مات الذئاب كلهم، لم يبق منهم أحد، انه الذئب الأخير. ما كان ينبغي لهم أن يقعوا في هذا الغلط الفادح، افترسوا حميرا مسمومة. ولولا تأخره، عن موعدا الغداء، لمات معهم، لو كان معهم لحذرهم من الأكل سوية، وفي وقت واحد، الحمير الغبية أكلت من نبتة (عشبة الذئب) السامة فماتوا وأماتوا. استنتج أن الحيوانات المفترسة انقرضت من السهول بهذه الطريقة، وبموتها قد تنقرض الحمير، ستعدي الحمير بعضها بالأمراض وسيختل التوازن البيئي.. هل معقول أن يكون ما حدث مؤامرة من الحمير للقضاء على الحيوانات المفترسة؟ ضحك هازئا من الخاطر، فقد قضت الحيوانات العاشبة، أيضا، تحت حوافر قطعان الحمير الفتاكة؟!. تنهّد، ليس أمامه من طعام غير الأعشاب، لن يستطيع أن يصطاد بعد سقوط أنيابه بإحدى رفسات الحمير، في آخر صيد. استوحش.. سيجنّ في الكهوف من الوحدة، ليس أمامه سوى مصاحبة الكائنات الوحيدة الباقية، الحمير؟ حلم الهجرّة إلى أوروبا ـ بعد واقعة11 أيلول وسقوط البرجين التوأمين ـ سقط؟ وهو لا يريد أن تلوك سيرته الألسنة وتتهمه بالخيانة والعمالة، فأين المفرّ؟ ضاقت عليه الأرض بما رحبت فتذكّر بيت المتنبي: ومن نكد الدنيا على الذئب أن يرى «كرا» له ما من معاملته بدّ يا للعار.. أيتها الأقدار، لو ترحمين الذئب الأخير وتقضين عليه بصاعقة وتريحينه من الذل والهوان. فكّر في الانتحار، الانتحار جبن، وستحرم عليه الجنة! لأكن صريحا مع نفسي، سأعيش مع الحمير، ليس رغبة في حياة الجماعة والأنس ولا خوفا من وحشة الكهوف والأوجار، بل خشية من الموت رفسا بالحوافر. تنكّر وارتدى جلد حمار ميت، وتدرب شهرا على النهيق، لم ينجح في تحويل العواء إلى نهيق، تزوير الدولار أسهل من تزوير العواء. التهم بعض السفرجل، وعاد فعوى فخرج صوته مبحوحا، خلو فمه من الأنياب ساعده على النهيق، خشي أن تتذكر الحمير غزواته وبصماته، فأثر الحافر لا يزال مختوما على فمه، اقترب من حزب الحمير و(نهق) فرفعت رؤوسها ونظرت إليه نظرتها الباهتة، ثم عادت إلى الرعي، وعَنَى هذا إنها لم تشك فيه، حمد الله على غبائها، الذي يضرّ غالبا وينفع أحياناً. شكر الله إنها لم تطلب منه وثيقة (لا حكم عليه)؟ سجد ركعتين شاكرا لله، وفي الليل نام بينهم سعيدا بعائلته الجديدة. ويا الله حسن الختام. في النهار، كان يضطجع على التلة ويتابع صراعات الحمير على الأتن، انه موسم الخصوبة والتزاوج، كان الذكور يتراكضون ويعضون أعناق بعضهم بوحشية للفوز بالإناث. وكانت رائحة الدم الشهية تثيره، لكن هيهات أن يذوق طعمه ثانية، فقد كتب عليه أن يقضي بقية حياته نباتيا، لاحظ حمارا، أجرب، نحيلا، على تلة قريبة، يتابع الصراعات الوحشية، لمَ لا يشاركهم؟ يبدو انه يائس من الفوز بأنثى بين منافسين شرسين؟ أية أتان ستقبل بحمار أجرب؟ نهض الأجرب واتجه إليه، يبدو انه يشعر بالوحدة؟ اقترب ونهق محييا، فرد عليه الذئب بنهقة يشوبها عواء منسي. تشجّع الأجرب، وبدت في عينه تلك النظرة التي شوهدت في عين الرجل صاحب الشارب الغليظ، في الإعلان التلفزيوني الشهير لمزيل العرق (مام) عندما دخل على امرأة شبه عارية، في غرفة نوم فدارى نظرته الشهوانية الاغتصابية، بالإشارة إلى ما في يدها قائلا: ايزبيلا what is this الذئب، سيد الوادي والجبل، مخيف الجبان والبطل، ومروع الكركدن والوعل، خاف.. مدّ الحمار الأجرب يده وهو يقول: تسمحين لي بهذه الرقصة أيتها الأتان الحسناء؟! ظنّ الذئب أن أتانا خلفه، تلفت، فلم ير سوى ظله الأسود! وقف وحيدا في مواجهة حوافر الحمار الأجرب، لم يكن أمامه سوى الثورة، المنية ولا الدنية، فقد وصل البل إلى الذقن.. فخلع جلد الحمار، فظهر إهاب الضاري. لكنّ المفاجأة كانت أن الحمار الأجرب برم شاربه، وازداد شهوة ونعوظا، واستعاد ثقته بوسامته وفرك يديه واقترب متلمظا!.. تقهقر الذئب ولحس فمه الأدرد وأطلق عواء استغاثة واحتجاج، فلم يرد عليه سوى نهيق بعيد لأتان..مثله؟! * كاتب سوري نافذة بلا زجاج ابراهيم سيد * سقط عصام فجأة بين أيدينا، حملناه إلى المستشفى التجاري الفاخر. أخبرنا الطبيب بأن الورم عاد ثانيا وأنه أكثر شراسة وحدة. لم نتردد، جمعنا كل ما نملك من مال، استدنا جميعا، أعدنا التحاليل كلها ثانية. عصام يزداد شحوبا ووهنا، نقلوه إلى قسم الحالات الحرجة، محاطا بمحاليل وأجهزة عديدة. مرت الأيام بطيئة مخيفة للغاية، واستسلمت للهواجس والكوابيس. اتصال هاتفي غامض يطلب منى المتحدث أن أحضر فورا إلى مستشفى الصفوة حيث يرقد عصام. تحركت مهرولا من عملي إلى المستشفى. في الطريق شعرت بما سوف أراه هناك، لكنني تجاهلت حدسي، وأخذت أقراء آيات من الذكر، كانت الكلمات تخرج من شفتى مرتعشة وخافته للغاية، عبرت المدخل الزجاجي الفاخر للمستشفى التجاري، جريت عبر السلالم الرخامية الطويلة، اخترقت الممر الطويل المشبع برائحة المورفين، فتحت باب الغرفة المعدني البارد، كانت هناك وجوه عديدة بعضها واقف وبعضها جالس على المقاعد وعلى الأرض. البعض صامت والبقية ينتحبون نحيبا مكتوما، نظرت أمامى فوجدت وسط الحجرة جسد ممددا على سرير، جسد أعرفه جيدا ملفوف بملاءة بيضاء، اقتربت ببطء وحذر وأزحت الملاية عنه.. كان عصام مغمض العينين، بلا ابتسامة، بلا روح، ملت بخشوع وبطء بجسدي عليه، أحطت ضلوعه الباردة بذراعي، احتضنت جسده المتصلب بعنف، شعرت باختناق لا استطيع أن أتنفس، أخذت ابكي بصعوبة وتشنج، تنبه المحيطون بشدة تأثري، جذبوني بهدوء متوسلين أن اتركه، رفضت، تجاهلتهم جميعا.. أريده أن يرد عليّ ويكذب الآخرين.. صاح أحدهم بصوت عال: عصام مات.. انهالت تلك الكلمات عليّ كصفعة حارة، أصبت بهستريا جنونية وغضب عارم، صرخت، الضباب يغمر عينيّ، تلفت حولي خائفا، الوجوه تحولت إلى أشباح بلا لون، تنبهت للنافذة المظلمة، جريت إليها وأخذت أحطم الزجاج بيدي العارية، تطاير الزجاج المحطم، تناثرت دمائي على وجهي، وعلى ملابسي.. خارت قواي، استسلمت.. انطلقت من حنجرتي صرخة.. لكن عصام ظل صامتا ولم يرد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©