الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الموت أهون من (خَطِيَّة)

الموت أهون من (خَطِيَّة)
27 ديسمبر 2007 00:03
كلما تجددت ذكرى وفاة السياب التي تتزامن ونهاية العام ـ مادمنا في شرق الموت بجدارة لا نحتفل بميلاد مبدعينا بل نؤرخ لموتهم! ـ تقفز إلى الذاكرة قصائده الكبرى المميزة بين ما كتب، ولم تعد حياته المعذبة ولا موته الدراماتيكي مثار الأسى بل ما كان ينتظره من عطاء لو امتد به العمر وما يمكن له أن يضيف للقصيدة التي مهرها ببصمته التجديدية التي يكفيه أنه بها فتح طرقاً للشعر العربي لم تكن على لائحة مجدديه السابقين· يلخص السياب أمثولة الشعر والحياة واقتراضهما من بعضهما، فرموزه وأساطيره كما هي صوره ولغة قصائده تستمد مادتها من الحياة لا من الذهن، بهذا استطاع قبل سواه أن يحوّل المكان الدقيق والصغير النائي في أقصى الجنوب العراقي فضاءً للقصيدة يحضر بحضورها وتحضر به، جيكور وبويب، القرية القصية المنسيّة قبل قصائده، وبويب النُهير الذي ينزف ماءه القليل في صفوف النخل المتناثر على ضفتيه، صار لهما وجود شعري خلَّدَهما، وأثبت أن المكانة لا تكتسبها المدن والأمكنة عموماً بسعتها الجغرافية أو بنيتها الاقتصادية بل بما تترك أيدي مبدعيها في الفن والثقافة· فتياً وشاباً، صحيحا وسقيما كان السياب يعود إلى جيكور هربا من المدن التي لم تهبه سوى الألم، حتى تلك التي لجأ إليها في فترات نشاطه السياسي تركت في نفسه غصة لأنه سمع فيها كلمات الرثاء والشفقة فقال في (غريب على الخليج) (الموت أهون من خطيَّه) مستخدماً اللفظة ذات الدلالة على الشفقة في العامية العراقية، ولكن كم هي المرات التي سمع فيها السياب هذه الكلمة وهو يطوف مريضاً مشلولاً في مدن لم ير منها سوى مصحاتها، وكتب فيها سلسلة قصائد عن ليالٍ قضاها وراء الأبواب دون أنيس سوى أطياف وذكريات وكوابيس تصور له الوجوه كما يريد في تداعياته وهذيانات ألمه، ويرتفع صراخه كارتفاع إيقاع شعره كلما أحس باقتراب الموت الذي شبّهه في إحدى قصائده بثعلب القرى الذي يخطف أرواح دجاجها الخائف دون أن يلحظه أحد، وفي كثير من مراثيه يكرر ذلك الإحساس بالضعف إزاء الموت ومؤشراته ومنها الشفقة التي كان يقابَل بها، وعوضاً عن ذلك العجز نشطت مخيلته لتلهمه بأكثر الصور والمفردات دلالة على حبه للحياة ومقاومة الموت، فتظل نوافذ حبيباته وكوى بيت جده وطرق جيكور ومياه بويب تذرّ النور الذي يبدد العتمة ويجعله يتساءل (كم حياة سأحيا ؟) فهو يختزن في أعماقه طاقة الحياة التي تجعله يود لو خاض في مياه بويب يتبع القمر ويسأل السمك الساهر هل ينام في السحر؟ ويقرأ الحفائر والآثار متابعا خطى عشتار في شارع الموكب ببابل المسورة منتظراً فاديه ومنقذه بجرحه الناري كما يقول في (مدينة بلا مطر): تموز الذي يعود بالأزهار والأمطار كل عام·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©