الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الذئب والإنسان

الذئب والإنسان
27 ديسمبر 2007 00:03
هناك أبيات شعرية تلصق بالذاكرة، وتستعصي على النسيان، بغض النظر عما يتمثل فيها من دلالات نتفق معها أو نختلف، فليست مسألة القيم ومدى صوابها هي الأمر الحاكم في شيوع الشعر وخلود كلماته بالتذاكر والتداول؛ ويبدو أن هناك سرا آخر يكمن في طريقة التعبير هو الذي يضمن حضور النصوص بقوة في ذاكرة الأجيال والأفراد، فنحن نستعرض مثلا قول الشاعر: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير على الرغم من أنه قد بلغ أقصى درجة في سوء الظن بالناس وتفضيل الذئاب عليهم؛ والطريف أنني كنت أحسب هذا البيت لأبي العلاء المعري وأتفهم جيدا أسباب تشاؤمه وعزوفه عن مخالطة الناس بعد أن أصبح رهين المحبسين؛ خاصة لأن البيت يشير إلى الاعتماد في التواصل مع الآخرين على السمع، فهم بالنسبة له مجرد أصوات تعوي أو تنطق، لكنني تبينت من البحث في مصادر الشعر أنه لشاعر عباسي آخر يدعى الأحيمر السعدي، وكان لصاً كثير الجنايات، فخلعه قومه، وخاف السلطان فخرج في الفلوات وقفار الأرض، فهو يمثل موقفه من المجتمع الذي انتهك قوانينه وأعرافه، فاتخذ موقفا عدوانيا متطرفا منه، فليس البيت مجرد مبالغة ظريفة مما يرتكبه الشعراء دون قصد في كثير من الأحيان، وله تكملة أخرى في قوله: فوالله إني للأنيس لشانئ وتبغضهم لي مقلة وضميرُ ولليل إن واراني الليل حكمة وللشمس وإن غابت عليّ نذورُ ولعل سبب بروز البيت الأول، وعلوقه بالذاكرة، هي تلك الصورة المستوحشة التي يجسدها، وهي لا تعتمد على أي شكل من أشكال المجاز أو الاستعارة، كما يظن الدارسون عادة، ولكن الصورة تتشكل فيه من أربعة أفعال متوالية، تكوّن وحدة سردية تحكي مشهدا قصيرا مفعما بالحيوية، إذ يعتمد على التضاد الصريح بين الفعل ورد الفعل، فإذا عوى الذئب كان من المتوقع أن يرتجف الإنسان، لكنه يستأنس، فإذا ما صوت إنسان حار توقعنا لما يحدث إثر ذلك، ولم نتصور أنه يمكن أن يطير من الفزع حتى تفاجئنا بقية الصورة المعتمدة على المفارقة الحادة، فالتخالف بين الأفعال وردودها الطبيعية يبرز ألوان المشهد ويجسد الصورة الشعرية البليغة دون حاجة لأنواع المجاز المختلفة، وهي ما أطلق عليه الصورة السردية التي يحفل بها الشعر· ثم يأتي البيتان التاليان لتأكيد هذا الموقف والإمعان في تجسيده، حيث يقول الشاعر إنه ''شانئ للأنيس'' ومبغض للمتوددين إليه بمقلته وضميره، ومن ثم فإنه يحتفي بالليل الذي يواريه عن الأنظار، ويتمنى للشمس دائما أن تغيب فيقدم لها النذور، فهو إذن على نقيض أحوال الناس في مشاعرهم ورؤيتهم للحياة، ومن هنا ينجح الشاعر في تمثيل صورة الإنسان المستوحش في نغمته على بنى جنسه ونقده لحياتهم·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©