الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصة الحلم والخيال والواقع

قصة الحلم والخيال والواقع
7 مايو 2009 01:02
ليس هناك معضلة في تشكل النص الإبداعي أكبر من معضلة التداخل بين الأجناس الأدبية، حيث تضيع الحدود بين ما يطلق عليه شعراً أو ما يسمى قصة، ومن هذا المنطلق امتلك كل واحد فيهما خصائصه، حدوده، حتى ليبدو التداخل بينهما ضرباً من الضياع في الجنس الآخر. ثمة عناصر صغرى في الشعر وفي القصة، يمكنها أن تنتقل بينهما بوصفها عناصر مشتركة حين يكون السرد جزءاً من النص الشعري أو حينما يكون التصوير اللغوي والتسامي فيه جزءاً من الوصف في القصة، ولكن هذا لا يعني أن تصبح هذه العناصر الثانوية المشكلة للبنى الكبرى، شعرية كانت أو قصصية، بنى أساسية في الحقل الإبداعي الذي وظفت أو نقلت إليه. تأتي مقولاتي هذه وأنا أتحدث عن نص نثري «قصة قصيرة» استغرقت اللغة الشعرية فيه مديات وحدود النص بشكل واسع حتى ليبدو كأنه مناجأة نثرية لا تعرض حكاية بقدر ما تستعرض اللغة الواصفة. وفي هذا الإطار أحيل إلى قراءة سبق أن قدمتها هنا حول ديوان شعري استغرق فيه الشاعر السرد إلى حدوده القصوى وتمثل الحكاية إلى أقصى جزئياتها وكان من المفترض إلا يحصل ذلك. هنا وهناك، بين الشاعر والقاص.. هل تضيع الحدود أم ثمة حدود فاصلة يجب أن تبقى ما دامت الأجناس الأدبية قد ترسخت قوانينها وثبتت مصطلحاتها ولم تعد قابلة للتحوير والتعديل والإضافة إلا في حدود المنهج والأسلوب والقراءة لا في اختراع أجناس أخرى تفعل فيها العناصر على حساب البنى. تداخل في مجموعة قصصية بعنوان «ابتسامة الموتى» للقاص خالد الجابري صدرت حديثاً عن مشروع «قلم» التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث تتمثل كل تلك التصورات التي طرحتها حول ارتحال العناصر من الشعر إلى القصة وبالعكس، وفي حدود ثانويتها مما يجعل الأجناس الأدبية تتداخل في اطر معقولة لتتولد الاستفادة لتفعيل وتقديم الشكل الجديد، أما أن يصبح هذا العنصر في الحقل الذي ارتحل إليه ذات بنية كبرى، فإننا إذاً نشتغل على الوهم لخلق جنس ادبي مختلف. أقول إن خالد الجابري قدم في مجموعته «ابتسامة الموتى» 14 نصاً قصصياً هي بالتعاقب «ابتسامة الموتى» و»أوراق» و»إيقاع الألم» و»رقية» و»سقوط» و»صابر ياشوق» و»صوت لم أسمعه» و»ظلام» و»لمحات» و»لوحات من الملح» و»مازلت أشعر بها» و»معركة الأمواج» و»مغزل.. وخيوط» و»لامست كفي النجوم». في البدء نلاحظ أن جميع النصوص قد سردت بضمير المتكلم ما عدا في قصة «ابتسامة الموتى» و«لمحات» و»معركة الأمواج» وهذا له دلالة واضحة ومهمة في تشكل خطاب خالد الجابري من أنه «أقصد ضمير المتكلم» يرتبط بذات السارد إلى حدود التماهي حتى لتبدو ذاتية النص جزءاً من تشكل ذاتية السارد التي طغت بشكل واضح.. ولكن ما أهمية ذلك؟ تأتي الأهمية من أن هذه الذاتية التي عبر عنها بضمير المتكلم السارد قد توجهت إلى اللغة فقدمت عروضاً وصفية عالية القيمة في بلاغتها، أي أن ضمير المتكلم والأنا السارد واللغة الوصفية جميعها تمازجت لتقدم نصوصاً شعرية في أغلب مقاطع القصص حتى أن القاص نسي أنه يسرد أو يركب نصاً قصصياً. اللغة هنا تبدو انها قد هيمنت على عناصر القصة.. ونحن نعرف أن القصة القصيرة بالرغم من تحولها الآن إلى إمكانية وصفها بأنها قصة اللحظة الخاطفة، لكن هذا لا يعني أنها تبتعد عن قيمة الحدث خلال هذه اللحظة الخاطفة.. أي أن ثمة حدثاً هناك على القاص أن يرصده حيث يصير هذا الحدث همه الأول، ضمن إطار زاوية النظر إليه «التبئير» في كشفه وتقديمه إلى المتلقي.. أما أن يضيع الحدث ويبقى النص غارقاً في لغة شعرية فتلك هي معضلة الإبداع التي أشرنا إليها في مقدمة المقال هذا. في قراءاتنا هذه لا نشترط على القاص كل عناصر القصة التقليدية.. أبداً.. إن ذلك لم يعد الآن ضمن قوانين الإبداع، حيث أصبح الإبداع ابن لحظة رؤية الحدث، أو ما يراد تشكيله في النص. ومن هذا المنطلق أصبح من أساسيات بنية النص القصصي أن يبحث القاص عن زاوية الرؤية التي يستطيع من خلالها اقتناص تلك اللحظة لا أن يهيم باللغة وجوازاتها واستعاراتها ليبحر بعيداً عن حدث النص. النص القصصي كنائي يحاول دائماً تجنب الاستعارية.. أما الأخيرة فهي لاعب أساسي في ميدان الشعر. لذا من الصعب أن تغرق القصة نفسها بالاستعارات التي لا ضرورة لها. من جانب آخر.. تلك اللغة الهائمة باستعارات متتالية سوف تجعل الحدث يتضاءل، يمحي، بل يتلاشى حتى كأننا في النهاية نتساءل ماذا أراد هذا القاص أن يقول مثلما قلنا من قبل ماذا أراد هذا الشاعر أن يقدم لنا؟. حوار في قصة «ابتسامة الموتى» يقول السارد: «ترى.. هل مات؟.. هذا ما يقوله جسده المسجي وأنفاسه الهامدة على الرغم من تلك الابتسامة المخيفة المتشفية التي ترتسم نهائية على شفتيه. لم يقتله.. هو من ظهر أمامه فجأة». كان النص قد ابتدأ واقعياً برصد جثة من خلال ضمير الغائب الذي تحول بعد أن استنفد حسية التناول إلى ضمير المخاطب.. «التفت إلى الجثة التي ازدادت ابتسامتها سخرية، كأنما تسخر من خوفه واضطابه وتقول له بكل حزم وقسوة» (ضمير غائب). «أنت القاتل!.. ولن تفلت بفعلتك هذه» (ضمير المخاطب). يتكرر ضمير المخاطب في النص مع سرد مستقبلي يستدعي توجيه القارئ بأن ما يجري يندرج في إطار «الحلم» حيث محاولة القاتل دفن الجثة أولاً ومجيء الشرطي وقرار المحكمة بإعدام القاتل وصراخه المستمر. «هز الرجل رأسه في نفي مغمغماً». كلا: لقد ظل يهذي بكلام لا معنى له عن الأشباح والجثث الحية». ويبقى الحلم بتشكل ابتسامة الميت هاجس النص، بيد أن النص لم يفصح عن سبب هذه الابتسامة.. وهي مجرد جثة تبتسم، ولو أشير إيماءً إلى السبب لارتفع النص إلى تأثيث فني آخر. سرد في قصة «أوراق» يصف السارد بحراً من الأوراق المختلفة الأحجام والألوان هذا البحر يهيج مع الرياح الصادرة من جهاز التكييف. انه يغرق بكل معنى الكلمة. النص يحاول أن يصور مشهداً واقعياً «المكتبة والأوراق والرجل» يستعين بمشبهات به خارجية «البحر والغرق» ولكن عندما تتداخل الصورتين مع البعض لا نستطيع أن نعيد المقطع فعلاً إلى الواقع الآني أو إلى الواقع المشار به. لاحظ هذه الصورة: «ما زال يجاهد ليبقى طافياً على سطح مكتبه قبل أن تبتلعه تلك الأوراق إلى الأبد» ثم يواصل «لقد حدث ذلك مع سالم، لم يسبح في ذلك البحر، بل استسلم له وغاص فيه تماماً حتى غرق، يعمل في صمت بدون أن يعلق ولا يتكلم». هذا الانتقال السريع بين وصف وآخر لإيجاد علاقة تشابهية بينهما بعيداً عن لملمة أجواء الحالة التي يعيشها بطل القصة مضر بالنص بل يبعده عن أن يكون نصاً واقعياً لأن جملة التشبيه تقطع النص في لحظة توثيقه عن واقعيته. ثم يعود القاص الجابري ليقول على سان السارد: «أخذ يحدق في تلك الكومة من الأوراق» ويستمر في تساؤلاته المعقولة عن الجهد المضني الذي يمارسه السارد خلال 20 عاماً من خلال هذا الوصف»: «عشرون عاماً تقريباً مرت كليلة البارحة» هنا تستوقفنا لفظة «البارحة» وكأننا نلمس تداخلاً في الزمن بين عشرين عاماً والبارحة.. ولماذا البارحة؟. يشبه الجابري حياة السارد في قصته تلك بأمواج البحر الصاخبة التي تضرب صخور البحر وكأن حياته القاسية هي أشبه بتيار يصطدم بأشياء صلبة. في هذا النص يطالب السارد ذاته بالتغيير عبر تساؤلات يضطلع بها النص ثم وفي لحظة ما يقرر السارد أمراً.. إنه الانتحار في البحر وكأنه بذلك يشبه الانتحار في لجج البحر بالموت بين أكداس من أوراق العمل. موت في «ابتسامة الموتى» و»أوراق» و»إيقاع الألم» يهيمن الموت المأساوي على تلك النصوص الثلاثة ولا أعرف لماذا ابتدأ الجابري برصد هذه الثيمة.. هل ثمة قضية وراء التشديد على هذا الموضوع في بداية نصوص المجموعة التي أظن أنها مجموعته الأولى له كما أشير على غلافها. «إيقاع الألم» امتزاج بين الرقص على أنغام الطبول الأفريقية في زمن أسبق من زمن السرد الذي هو الآن «ما بعد زمن ارتطام سيارته ورقاده مريضاً» حيث تتشكل لدينا 3 أزمنة هي: زمن الحادث وزمن سماع الأنغام الأفريقية وزمن ما بعد الحادث. والسارد يسرد من الزمن الأخير بطريقة استرجاعية فيستذكر: «العجيب أن الألم الشديد الذي اعترى جسدي من شدة الارتطام هو ما أضفى على ذلك الايقاع لذة لا تقاوم وتعطشاً عارماً للألم».. ويقرر السارد: «حفل شيطاني أقامه الموت محاولاً اقتناص ضحية جديدة بأسلوب جديد من أساليبه التي تتفاوت بين الرحمة والتعذيب». وهذا النص الأخير ليس له علاقة بالقصة مطلقاً، انه إسقاط من السارد ليس من الضرورة أن يقنع المتلقي. ولكن عندما يستمر السارد فيقول: «على الرغم من الجحيم الذي أشعل الكون كله كنت أرتجف من صقيع غامض زحف إلى أطرافي بسرعة ليتحول ذلك الرقص إلى إيماءات هادئة هائمة لا تكاد تلحظ حتى تلاشت مع ملامستي لتلك الأرض الأسفلتية الحمراء». يبدو النص السابق مقنعاً لأنه يصور ما أحس به السارد ما بعد لحظة الارتطام حيث شعر بتغير العالم حوله حتى ان الأسفلت الأسود صار أحمر، ربما من دمه النازف، هنا على المتلقي أن يتخيل مكملاً إشارات السارد التي منحها له لكن أن يقرر السارد بأن الحفل «كان حفلاً شيطانياً أقامه الموت» هنا يحق للمتلقي تقبله أو عدمه. تبدو قصص خالد الجابري شعورية ذات أطر حلمية في أغلبها أي أنه لا يكمل رصد الواقع الذي يعيشه بل هو يعيش لحظة تجلي ذلك الواقع في الخيال الرحب الذي تساعده على وصفه لغته الغنية بالتشبيهات والاستعارات العالية. في قصة «ظلام» التي كما يبدو تكمل قصة «أوراق» حيث الظلامية التي يشعر بها السارد: «ـ بما تشعر الآن.. ـ دوار بسيط، لكنه شعور لم أجربه من قبل يبدو مثل.. ـ كأنما تطفو فوق بحر هادئ الأمواج ـ عجباً لقد أجدت الوصف تماماً! هذا ما أشعر به بالفعل.. كيف عرفت؟». ذلك هو استهلال النص وهو حوار بين السارد وشخص آخر ولكن يقطع هذا الحوار بالسرد ويعود ثانية وكأننا أمام بنية جديدة لنص يقوم على «حوار.. سرد.. حوار.. الخ». «ـ مازلت تشعر بذلك الشعور؟ ـ لم تجب عن سؤالي الأخير». أما السارد فيقول على مبدأ الصمت أمام التساؤلات التي لا جواب لها بسبب الظلام والطنين في رأس السارد الذي يطالب الشخص الآخر بأن ينزع عن الطنين والظلام.. «ـ الظلام؟ - إضاءة. نار، أي لمحة ضوء». وأخيراً ينتهي النص بجملة الشخص المحاور: - «عجباً إن الضوء يغمر المكان منذ البداية! ألا تراه». تلك هي صورة القصة الحلمية التي يكتبها خالد الجابري.. لها علاقة بالتصور والخيال حتى ليبدو في كثير من الأحيان أن تشكيل هذه الصور الخيالية أو الحلمية صعب لدى المتلقي، وقد يعد هذا أسلوباً أراده القاص هدفاً أساسياً في مجموعته هذه «ابتسامة الموتى».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©