السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

زعامة زايد عميقة الجذور والشفافية عنوان دبلوماسيته عربياً ودولياً

زعامة زايد عميقة الجذور والشفافية عنوان دبلوماسيته عربياً ودولياً
4 مارس 2018 23:04
إن حركة التاريخ الإنساني والزعماء في العالم تتحدد في اتجاهين رئيسين، أولهما الرجال الذين صنعوا التاريخ، وثانيهما هم الذين صنعهم التاريخ، فالزعيم الذي يصنع التاريخ يستهل مسيرته السياسية مبكراً، وهو يحمل أفكاراً أو أحلاماً ذات صبغة وطنية ويتمسك بادراك عميق أن مصيره كإنسان هو من مصير وطنه وشعبه، كما أن صانع التاريخ لا ينطلق من فراغ لأنه يستقرئ أحداث الماضي الوطنية والعالمية على الرغم أنه لا يعتبرها من المسلمات بل هي اتجاهات وتجارب خاضعة للنقاش فيطلع عليها بعمق حتى يأخذ منها ما يناسب الاستراتيجية التي يحملها في فكره. أما من صنعه التاريخ فهو غالباً ما يعتمد على تصرفاته الشخصية والفردية وبأسهل الطرق والوسائل لأنه يدرك أنه لا يحتل مساحة في ضمير شعبه، وبالتالي لا يقف على أرض صلبة تكفل له الاستمرار في الحياة السياسية، بينما صانع التاريخ قد يأتي سابقاً لعصره مع قدرته على تحليل مكونات الواقع والانطلاق إلى آفاق المستقبل مع زهده بالسلطة إذا ما تطلبت الظروف ذلك، ومن هنا فإن أقوى ذاكرة هي ذاكرة التاريخ التي لا تنسى من وضع بصماته واضحة على صفحاته. وإذا ما تتبعنا الإنجازات التاريخية التي حققها الشيخ زايد، رحمه الله، منذ أن تولى مقاليد الحكم في أبوظبي عام 1966 نجد أنها جاءت نتيجة لزعامة تاريخية شكلت نقطة تحول في منطقة الخليج العربي بكاملها، حيث بدأ في إقامة نهضة حضارية شملت كافة مرافق الحياة والخدمات على كل مستوى إلى جانب إيمانه بأن الاتحاد قوة وفي ظله يمكن للخير أن يعم الجميع، كذلك تطلعه نحو القدرة العلمية كعامل أساس في بناء الوطن الاتحادي الذي نجح في إعلانه في ديسمبر عام 1971 تجسيداً لقوله:(إن الاتحاد أمنيتي وأسمى الأهداف لشعب الإمارات). من الاجتماع التاريخي لإعلان الاتحاد في 2 ديسمبر 1971 وتتجلى الزعامة التاريخية للشيخ زايد، رحمه الله، في التجربة الوحدوية لدولة الإمارات من خلال شموخ الإنجازات ورسوخ المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي حققتها على أرض الواقع، ومن هنا جاء التجديد المتواصل لقيادة الشيخ زايد من المجلس الأعلى للاتحاد تجسيداً لما تنجزه قيادته في كافة المجالات ونواحي الحياة. نوع فريد من القادة كل من عرف الشيخ زايد، رحمه الله، عن قرب أو درس فكره ورؤيته الوطنية قد تمكن من أن يضع يده على جوهر زعامته التاريخية فهو لا يحب المناورات السياسية التقليدية، فالسياسة عنده تطبيق عملي للمبادئ الوطنية والإنسانية التي كان يحملها في فكره، ومن هنا كانت تلقائيته وبساطته الملفتة للنظر، وفي أي لقاء إعلامي أو صحفي لم يكن يطلب أن يرى الأسئلة التي ستوجه إليه مسبقاً، فليس هناك ما يمكن أن يسبب له حرجاً أو يلزمه بإخفاء أمور وإظهار أمور أخرى، ويقول الكاتب إبراهيم سعده رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير صحيفة «أخبار اليوم» المصرية سابقاً: «بعد أن التقى الشيخ زايد، رحمه الله، في شهر مايو عام 1991: لقد بهرني الرجل ببساطته المفرطة وبهرني أكثر أنه على غير عادة معظم الملوك والرؤساء لا يشترط معرفة الأسئلة المطروحة عليه مقدما بل على العكس من ذلك قال لي: (اسأل كل ما جئت لتعرف إجابتي عنه ولا تتردد في التطرق إلى أي موضوع يشغل بال أمتنا العربية هذه الأيام، فليست لدي حساسية تمنعني من الحديث في أي موضوع أعرف أبعاده، أن ما أقوله داخل الغرف هو الذي أقوله علنا). ويرى الشيخ زايد، طيب الله ثراه، أن الله عز وجل قد منح الإنسان القدرة على الكلام والتعبير من أجل التعبير عن الواقع وتفسيره ثم تطويره إلى الأفضل. ويتابع الكاتب إبراهيم سعدة أن الشيخ زايد، رحمه الله، طراز فريد من نوعه وكان يمكنه أن يرد على أسئلتي بكلمات كثيرة تحمل المعاني البراقة في عالمنا العربي، وكان يمكنه أن يجيب بأكبر كم من العبارات الرنانة التي تقول الكثير ولا تعني شيئاً كما يفعل كثيرون من القادة لكن شيئاً من هذا لم يحدث، فما وجدته لدى الشيخ زايد كان مختلفاً وجديداً، ومن هنا فإن أعمال وإنجازات الشيخ زايد في جميع المجالات كانت أضعاف أضعاف كلماته وتصريحاته، والمثال على ذلك بياناته السنوية في اليوم الوطني لدولة الإمارات، أو في خطبه لدى افتتاح الفصول التشريعية للمجلس الوطني الاتحادي حيث نجد أنها خطب مركزة لا تطويل فيها إلى جانب كونها عقلانية وعلمية هادئة وحضارية، ويضع فيها النقاط على الحروف لتصل إلى عقل المستمع بلا حيل لفظية أو بلاغية أو عبارات طنانة، فهي تمثل وضوح رؤيته وخطه الاستراتيجي الممتد عبر الزمن في تناسق لا يعرف التناقضات. وضوحه السياسي كانت الصراحة من أهم سمات الزعامة التاريخية للشيخ زايد، رحمه الله، لكن حكمته في التأمل مع البشر وحنكته في دروب السياسة علمته أن الخط المستقيم ليس دائماً أقصر الطرق ذلك أن النفس البشرية أكثر تعقيداً من الخطوط الهندسية، ويقول رحمه الله:«يجب أن تكون هناك صراحة بين الشقيق وشقيقه، وما يدفعك لمصارحة الشخص إلا حبك له، أما الإنسان الذي لا تحبه فلا تسمح لنفسك أن تصارحه، فالبعض يتحمل الصراحة ويقبلها والبعض الآخر لا يتقبلها ولا يتحملها». ولذلك كان الشيخ زايد جاذباً للأصدقاء بعيداً عن الخصومات التي لا طائل منها. وفي حديث آخر مع الكاتب البريطاني كلود موريس سأله عن الأسلوب الذي اتبعه لينطلق ببلاده من نقطة الصفر إلى هذا البنيان الحضاري الشاهق، فما كان من الشيخ زايد، رحمه الله، سوى أن أجابه بكلمة واحدة كررها ثلاث مرات:» العمل، العمل، العمل «، ذلك لأن الزعامة التاريخية تجد نفسها في سباق مع الزمن، وعليها أن تجدد باستمرار قوة الدفع حتى تتواصل المسيرة دون عقبات، ويجسد مثاليته في زعامته بالقول: «صحيح أنني أعمل من أجل الوحدة في كل الظروف لكن الأفضل بكثير أن تكون صبوراً وأن تصل إلى هدفك بطريقة طبيعية من أن تكون سريعاً وتخطئ الهدف». ومن جوهر هذا الفكر جاء التأييد الشعبي الكامل للقرارات التاريخية للشيخ زايد، رحمه الله سواء من أبناء الإمارات، أو من أبناء الوطن العربي كله لأنها صدرت بوحي من نبض شعبه، ولذلك ألقت كل الراحة والاطمئنان في نفسه. لعل من أخطر هذه القرارات المصيرية على سبيل المثال قراره بقطع البترول عن الولايات المتحدة الأميركية لدعمها العسكري والاقتصادي لإسرائيل في حرب أكتوبر عام 1973 م، وقال في مؤتمر صحفي حول هذا الحدث البالغ الأهمية، ودون تردد أو لجوء للعبارات الديبلوماسية رغم خطورة القرار:«لقد أصدرت هذا القرار ولم أكن انتظر كل هذا التأييد، ولم أكن أتطلع إليه لحظة واحدة، لقد أصدرت قرار قطع بترول أبوظبي عن أميركا لإيماني بأنني أؤدي واجبي كاملاً تجاه أهلي وقومي، إن الإنسان يجب أن يشعر بالعدالة ويلتزم بها في كل قراراته، لكن الولايات المتحدة في موقفها ضد العرب ومساندتها لإسرائيل تقف ضد العدالة، والدول العربية لا تسعى إلى الحرب، وإنما تسعى إلى استعادة الحق المسلوب، إن العالم العربي يدافع عن وطنه ويسعى لاستعادة أملاكهم التي انتزعها الغير دون وجه حق أو سند قانوني، نحن ندافع اليوم عن أرضنا التي عشنا عليها منذ آلاف السنين والتي أكلنا من خيراتها وخبزها، ونحن نغار على أرضنا وعلى استعداد لأن نبذل في سبيلها كل غال ورخيص». من المؤتمر الصحفي 20 أكتوبر 1973 كان يمكن للشيخ زايد أن يرفع شعارات الشجب للعدوان الإسرائيلي، وتأييد الكفاح العربي ضد هذا العدو وتحويل أجهزة الإعلام إلى خطب تلهب المشاعر، وبذلك يجنب بلاده خطورة هذا القرار المصيري وعواقبه المحتملة، وفي الوقت نفسه يوفر عليها تحمل بعض الصعوبات المالية نتيجة وقف تصدير البترول، ثم يملأ هذا الفراغ بدور إعلامي يوحي بخوض المعركة مع التمنيات بالنصر. لم يفعل الشيخ زايد، رحمه الله، مثل هذا الأمر لإيمانه بأن القدوة العملية هي خير متحدث بلسانه، والمحرك الحقيقي للمواقف والأحداث التي يمكن أن تتوالى بعد ذلك، ولذلك كان قراره الرائد بمثابة العملية الأولى التي أدت بعد ذلك إلى الموقف الموحد الذي اتخذته دول النفط العربية تجاه الدول المؤيدة لإسرائيل. مواقف بقناعة مطلقة وتبدو الزعامة التاريخية في قراراتها المصيرية للعين العابرة، وكأنها اتخذتها فجأة من وحي اللحظة دون تفكير متأن وتأمل مسبق، إلا أن قرار الشيخ زايد، رحمه الله، كان نتيجة لمقدمات كامنة في وعي الزعيم التاريخي الذي وجد أن اللحظة المناسبة قد حانت لإصداره. وقال الشيخ زايد رحمه الله: «لقد كنا دائماً نطالب باستعادة حقنا في الأرض السليبة ولم نترك باباً واحداً للسلام إلا طرقناه، ولم يجد العالم العربي من يناصره، وكانت الولايات المتحدة تقف دائماً ضد العرب مع إسرائيل، يجب أن يحظى كل إنسان فوق هذه الأرض بالاحترام، والشعور الإنساني الذي يرفض الظلم لأننا نتأثر بكل ما يقع للبشر في كل أنحاء العالم من ألوان الظلم، ونتألم لآلام الشعوب المغلوبة على أمرها». من هنا كان وضوح الرؤية للزعامة التاريخية للشيخ زايد، طيب الله ثراه، وهو وضوح أدى إلى تماشي نظرته، ومعالجته لكل الأمور والقضايا التي قد تواجهه سواء كانت متوقعة أو مفاجئة وطارئة. وقال في نفس المؤتمر الصحفي الذي عقد في قصر البحر بأبوظبي بعد عودته من لندن: «كيف يمكن أن تستمر العلاقات والمعاملات بين دولة وأخرى من طرف واحد؟ إن دولة الإمارات العربية المتحدة يسعدها أن تقيم علاقاتها مع الدول على أساس المصلحة المتبادلة، نريد أن نفيد وتستفيد ولا نريد أن نتشاحن مع أي دولة صغيرة أو كبيرة، ولكننا أجبرنا على رد الإساءة، إن تعاليم ديننا هي أن نرد الخير بأكثر منه، كوننا لا نستطيع أن نتحمل الإساءة إلى ما لا نهاية، ونحن الآن نرد الإساءة». وفي نهاية المؤتمر يشكر الملك فيصل على دعم موقفه، ويمسك الزعيم التاريخي الشيخ زايد، رحمه الله، بيده متغيرات العصر، وثوابت الاستراتيجية التي رسمها لنفسه بما يمكنه من التحرك عند أي طارئ بما يضمن سيره على هدى تقاليده وقيمه الثابتة، وفي الوقت نفسه يملك إمكانية التعامل مع المتغيرات الطارئة خطوة خطوة. ورداً على سؤال أحد الصحفيين على خلفيات قرار قطع البترول، وهل كان قرار أبوظبي الصغيرة بسكانها الكبيرة بآمالها وطموحها على أساس دراسة مسبقة، وما يمكن أن يسفر عنه من ردود سيئة؟ أجابه الشيخ زايد، رحمه الله بنفس الوضوح الفكري والتناسق المنهجي قائلًا: « إن العدو لم يترك لنا الوقت لندرس ونخطط وندقق ونتأكد مما إذا كان قرارنا سليماً أو غير سليم، إننا كالعائلة التي تجلس في دارها ثم يأتيها من يهاجمها، هل يمكن لهذه العائلة وهي تواجه الخطر أن تجلس لتخطط وتدرس؟ إنني أقول لكم ليس هناك ما هو أكثر من الموت، الموت في أعماق البشر منذ أن خلق الله الإنسان، والموت بيد الله وليس بيد دولة صغيرة أو دولة كبيرة، إن أي قوة على هذه الأرض لا تستطيع أن تنزع روح الإنسان. إلى متى سنظل نخاف ونخشى؟ لم يخصنا الخطر وحدنا ونحن فقط؟ لماذا لا يخاف العدو؟ إن إسرائيل تطلق صواريخها على الأرض العربية وتتمركز فيها والولايات المتحدة تساندها وتدعمها بالسلاح الذي يصل إليها براً وبحراً وبالمال الذي يدفع من الخزائن الأميركية كل يوم بلا حساب، ماذا أفعل إذا وجدت ابني وأخي يطعن ويقتل؟ إن الواجب الطبيعي والمنطقي هو أن أقف مع أخي، ومع ابني لأسانده في ملاقاة الأعداء إن ضبط النفس وما إلى ذلك من العبارات يكون في وقت السلم أما في وقت الحرب فإما حياة أو موت». بهذا المنطق المتماسك وضع الشيخ زايد، رحمه الله، يده على ما تؤكده علوم الإستراتيجية الحديثة من أن عامل المخاطرة ضرورة ملحة لا يمكن لأي قرار مصيري أن يتجاهلها أو يتجنبها، وقد كانت نظرته ثاقبة بعيدة المدى إذ أن كل التداعيات والنتائج التي ترتبت على قرار قطع البترول بصفة خاصة، وعلى تطورات المعارك بصفة عامة أثبتت أن قراره التاريخي لم يكن ارتجالًا، أو انفعالاً طارئاً أو طفرة حماسية بل كان نابعاً من وعي عميق وحس حضاري شامل صهر المتغيرات السياسية والثوابت الإنسانية، ونال احترام كل الأطراف المعنية. الرؤية الواقعية في الداخل على صعيد أخر لسمات الزعامة التاريخية لزايد، رحمه الله، فقد كان يملك قدراً مماثلًا من النظرة الواقعية التي ترى أن تراجع قوة الدفع داخل البلاد هي أخطر بكثير من الغزو الخارجي، ذلك أن العدو الخارجي واضح ومحدد، ويمثل هدفاً يمكن محاربته وضربه في الصميم، أما التحلل عندما يسري في همم أبناء الوطن فإنه قد يشكل مرضاً قد يصعب محاصرته، والسيطرة عليه إذا لم يتم اجتثاثه مع ظهور بوادره، وهذا ما تناوله في حديثه لبعثة الإعلام المصرية يوم 17 أكتوبر 1975 عندما أكد:«أن قيام اتحاد الإمارات هو قوة لكل العرب، وأن الكثير من التقدم والاستقرار قد تحقق بفضل الاتحاد، وإني لا أخشى على الاتحاد من غزو خارجي، وإنما أخشى عليه من تقاعس الهمم من داخله آملا ألا يكون له وجود بين الصفوف». وفي حديثه مع الصحافة وأجهزة الإعلام المحلية في 21 أكتوبر 1975 قال رحمه الله:«علينا أن نعرف الطريق الصحيح ونجمع عليه لأنه طريق السعادة، وهذا الطريق هو الموقف الواحد والمسيرة الواحدة، وأنا أقول ذلك لأنه لا يمكن أن تكون لدينا أهداف متفرقة، ولا يمكن أن يكون لنا إلا هدف واحد هو صيانة وطننا، ونرتفع فوق المصالح الشخصية، وعلينا أن نتجنب المصالح الشخصية لأن المصلحة العامة هي التي تجمع الشمل». زاهد في السلطة والسلطة في نظر الزعيم التاريخي ليست مصلحة له يتمسك بها، بل هي وسيلة لتحقيق المصلحة العامة للوطن، ولذا فهو يبدو زاهداً فيها خاصة إذا رأى أن جميع الأعمال التي قام بها أصبحت متكاملة، وأتت ثمارها أو إذا أراد المزيد من دعم شعبه لمراحل قادمة تتطلب المزيد من الجهد والعمل. وجاء قوله في مؤتمر صحفي يوم 7 أغسطس 1976:» إنني توليت القيادة في الإمارات وأخذت على عاتقي أن أعمل كل ما يمكنني من أجل الأبناء والإخوة في وقت كانت الإمارات مبعثرة، وكانت تعاني من تخلف شديد، فواجهت مسؤولياتي وبدأت العمل في الداخل والخارج، وبكل ما أملك من وقت وقوة وطاقة، وكان جهدنا في الخارج لا يقل عن جهدنا في الداخل، كنا نعمل ليل نهار من أجل إسعاد شعبنا الذي عانى طويلا، ويعلم الله كيف كنت أسهر بنفسي على كل عمل نريد إنجازه حتى اتصالاتنا الخارجية كنت أتابعها وأسهر عليها لإيماني بأنها لصالح دولتنا». وهكذا يرى الزعيم التاريخي أن الدافع الذاتي من داخل المواطن لا بد أن ينطلق ليلتقي بفكره بشكل مباشر فهو يرى أن إنجازاته تحتاج دائماً إلى تضافر جهود المسؤولين، ومساهمة الشعب في تطبيق استراتيجيته، مجسداً في ذلك القول بأن الزعيم والشعب وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن للزعيم أن يقود أمته من دون الدافع الذاتي من داخل المواطن، كما أن الشعب لا يمكن أن يسير في طريق تقدمه دون القيادة المستنيرة للزعيم. و يجسد الزعيم صورة التقدم السريع والشامل في بناء الإمارات في إجابته على سؤال للإعلامي الأميركي «جون تفن من تلفزيون سي بي اس» في جولة في القرى الجديدة على طريق أبوظبي العين يوم 9 فبراير 1986 عندما سأله عن معنى كلمة الوثبة وهي إحدى القرى الجديدة حيث قال:«إن الوثبة هي سمة العمل الكبير الذي يتم في هذه الدولة، فالخطوات لا تعوض شعبنا ما فاته على مدى السنين الماضية من تخلف، إننا في سباق مع الزمن وعلينا أن نلبي لمواطنينا كافة احتياجاتهم من الخدمات والمرافق، لقد أنعم الله علينا بالثروة وعلينا أن نحسن استغلالها ونكرسها لخدمة مواطنينا». ونظراً لأن طموح الزعامة التاريخية عند الشيخ زايد، رحمه الله، طموح قومي، وليس شخصياً فهو يفرق بفكره بين نوعين من الطموح، أولهما الطموح الذاتي الذي يجعل من الذات هدفاً، ومن الوطن مجرد وسيلة لتحقيق هذا الهدف، وثانيهما الطموح القومي الذي تتألق شعلته دائماً مع كل إنجاز للجميع على أرض الواقع، وفي هذا يقول الشيخ زايد رحمه الله:» الطموح له طريقان أولهما طموح الغرور وثانيهما طموح أداء الواجب، والثاني هو الطموح الذي أسعى إليه دائماً وهو طموحي لخدمة شعبي». وفي السياق نفسه يقول الشيخ زايد، رحمه الله، في كلمته إلى مجلس الوزراء: «إنني أطالبكم بأن تعملوا متعاونين وتتبادلوا الرأي والمشورة وتعملوا سويا كمجموعة واحدة لأن ذلك يقلل من احتمال ارتكاب الخطأ، والحمد لله فإن تجربتنا قد أثبتت أن شيئاً من هذا لم يحدث، ولقد كنت دائماً أتوسم فيكم الخير وأعرف فيكم القدرة على تحمل المسؤولية والعمل على رفع مستوى أمتكم ووطنكم، لقد أثبتت مواقفكم أنكم عند حسن ظني بكم، وعند حسن ظن مواطنيكم، ولكن حرصي على الحاضر والمستقبل يدفعني إلى هذا الحديث حتى تكون الرؤية واضحة لنا جميعاً». الإنسان أثمن شيء طرحت الصحفية الأميركية سؤالها حول هل بالإمكان تلقين الآباء في مجلسه أبناءهم ليسيروا على الطريق الذي ساروا هم وأجدادهم عليه، أجابها رحمه الله: «إذا وجهت إليهم هذا السؤال سيقولون لك نعم، ونحن بشر ونواجه في الحياة الخير والشر، ولكن إيماننا بكتاب الله هو أكبر عاصم من الخطيئة لأنه احتوى على كل ما ينفع الناس، وينظم العلاقة بين العبد وربه والعلاقة بين الإنسان وأهله وجيرانه وأصدقائه، وإذا كان الله قد أعطانا الثروة فقد أراد أن نستخدمها ونحافظ عليها، ومن واجبنا أن نبذل كل جهد للاستفادة بها، لقد وفرنا العلم وأقمنا المدارس وشجعنا أولادنا على ارتيادها، وأقمنا المستشفيات المجهزة بالأطباء والآلات الحديثة إلى جانب العلاج المجاني وسهلنا المواصلات، وهدفنا من ذلك هو إيجاد المواطن السليم المتعلم لنعوض ما فاتنا، حتى إذا ما نضبت الثروة البترولية أصبح لدينا الإنسان القادر وهو أثمن ثروة في الوجود». من هنا كان بناء الإنسان هو الهدف الاستراتيجي الذي سعى إليه الشيخ زايد، رحمه الله دائماً، ومن أجل هذا البناء لا بد من توافر شروط معينة حددها في حديثه إلى مجلس الوزراء في إحدى جلساته في شهر أبريل عام 1978 قائلًا: «ينبغي علينا أن نتكاتف لتعويض ما فاتنا من تخلف وحرمان، ونعمل لتوفير متطلبات مجتمعنا في كافة المجالات لتأمين سعادة هذا الشعب الذي آمن وعمل من أجل قيام الاتحاد، إن مهمتنا الآن أن نبدأ بترسيخ دعائم الدولة والاستفادة من تجاربنا السابقة، ولا نتأخر طويلاً في معالجة الأخطاء وسد الثغرات، وإن الثروة ليست كل شيء بل إن الرجال هم الذين يصنعون الثروة، ومهمتنا في بناء المواطن كأساس لكل تقدم، وإن كل مسؤول سوف يحاسب عن عمله ولا فرق في ذلك بين كبير وصغير لأن قدر كل مسؤول يقاس بما يؤديه من واجبات ومدى التزامه وحرصه على أداء مسؤوليته وخدمة أهداف الاتحاد وتحقيق آمال شعبه». العمل الدؤوب ولعل أوفى ما نصل إليه في الحديث عن الزعامة التاريخية للشيخ زايد، رحمه الله، أن نذكر كلماته في اليوم الوطني لدولة الإمارات لخص فيها مسيرته مع شعبه ووطنه بقوله: «مثل ما يولد الفجر في الظلمة يولد النصر، وفي سنين من العمل الدؤوب المتواصل لم يحجب الظلام عنا رؤية الحقيقة، ولم تفت في عزمنا مصاعب وعقبات واجهتنا بل ذللناها بالإيمان الصادق والهدف الواضح والعمل الجاد فكان ثمرة ذلك ما تنعمون به الآن من خير ورفاهية وازدهار». رحم الله زايد الوالد الحكيم والزعيم التاريخي لشعبه وأمته العربية الحكمة في التجارب يؤكد الشيخ زايد، رحمه الله دائماً على أن التجارب التي نواجهها في الحياة هامة وضرورية كي نعرف الطريق الصحيح ونسلكه ونحن أشد قوة، فالذي لا يخوض التجارب في حياته قد لا يجد طريق الصواب، ومن لا يخسر لا يعرف أسباب النصح. بالإضافة إلى استيعاب تجارب الآخرين وأخطائهم، خاصة أن الدولة تمر بنقطة تحول مصيرية تفصل بين ماض متخلف وبين مستقبل منطلق حافل بمختلف الإنجازات الحضارية على أرض الواقع. ولعل ظهور الثروة البترولية كان يمثل أحد التحديات التي يتحتم استيعابها حتى لا يفقد أبناء الوطن المؤشر الذي يوجههم، وفي لقائه، رحمه الله، مع الصحفية الأميركية «فوندا جابلونسكي من مجلة بتروليوم انتليجنس» في نوفمبر 1972، قالت له: «إنها زارت عدداً من البلدان التي ظهرت فيها الثروة المفاجئة من البترول ووجدت طبائع الناس القديمة تغيرت فيها وتأثروا بالغرب، فكيف استطعتم أن تحافظوا على شخصيتكم والاستفادة في نفس الوقت من التقدم والمدنية بما فيها من تكنولوجيا حديثة؟». فأجابها طيب الله ثراه:«إذا كان هناك من ترك عادات الأسلاف فقد أخذنا الاحتياط وأخذنا الدرس، ورأينا كيف انهمك غيرنا فيما تحتويه المدنية من مزايا وعيوب وهذا أعطانا الحذر، ولهذا كما قلت أقمنا المناطق السكنية الخاصة بأهل البلاد حتى يحافظوا على أخلاقهم وطباعهم والروابط الأسرية الخاصة بأهل البلاد، وفي الحدود التي رسمها الله لنا واقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام، ونحن إذا ما رجعنا إلى ما تركه الأسلاف لنا من تراث لوجدنا أنها عادات أصيلة وتراث غني، وعندما اتبع العرب تعاليم الدين فإنهم سادوا العالم وحققوا الأمجاد، وديننا حافل بالتعاليم العظيمة ولا يجب أن تجذبنا قشور المدنية». وتتابع الصحفية بتعليق قالت فيه: ولكن البلاد التي أتحدث عنها يا صاحب السمو هي بلاد عربية وإسلامية، وكان أهلها على الفطرة وكانوا يتبعون أوامر الدين الإسلامي، ولكني شاهدت مع ذلك تغيراً كبيراً في أخلاق الفرد في هذه البلاد بعد ظهور البترول». ويجيبها رحمه الله: «إن الخطر قائم وموجود، ولا بد من مواجهة هذا الخطر، ولا أعتقد، إن شاء الله، أننا سنتعرض لما تعرض له غيرنا لأننا لا بد أن نستفيد من التجربة، وما فيها من ميزات، ونحرص على الابتعاد عما فيها من مساوئ». وهذا يدل على وعي الشيخ زايد، رحمه الله، العميق بالتاريخ، سواء تاريخ العالم أو الوطن، فالتاريخ لا يرتبط بالماضي فقط وإنما يدرس الحاضر ويستشرف المستقبل اعتمادًا على المعايير التي استنتجها من دروس الماضي، فالمستقبل هو الامتداد الحي والنتيجة الطبيعية للماضي. الشجاعة في المواقف المصيرية كان الشيخ زايد، طيب الله ثراه، يضرب بنفسه القدوة العملية التي يرى فيها أفضل الأساليب لتبليغ فكرة أو رسالة هادفة، أو رأي في موضوع ما، فقد كرس حياته كلها في خدمة وطنه وتطوره وازدهاره، ساعده في ذلك احتساب فكره ومواقفه التي لا تفصل بين الشكل والمضمون، فهو لم يعرف المناورات السياسية التقليدية، وليس لديه ما يخفيه، ومن هنا كان له هذه المساحة الكبيرة من المصداقية التي عرف بها سواء بين أبناء الإمارات أو الملوك والرؤساء العرب وزعماء العالم، لأن من المعروف سياسياً أن لكل رئيس أو مسؤول موقفاً معلناً، وآخر حقيقياً قد لا يتفقان، أو أن يكون رأيه المعلن أقل تشدداً من رأيه الشخصي، لكن هذه الازدواجية الديبلوماسية لم يكن لها وجود في جميع مواقف الشيخ زايد، رحمه الله، فهو دائماً الرجل نفسه لا يعلن أو يصرح إلا بما يؤمن به، ويعتقد أنه الصحيح، ومن هنا ابتعد عن المجاملة أو المساومة واتبع طريقه دائماً نحو الصراحة. ويعتبر وضوح الرؤية للماضي والحاضر وما يبنيه عليهما للمستقبل من أبرز هذه الملامح، فقد كان يقرأ تفاصيل التاريخ في الماضي كاشفاً إيجابياته وسلبياته حتى يرسم بكل ثقة حقائق المستقبل، ويوجه كل مسؤول إلى ما يجب عليه عمله بشكل مخطط ومدروس ليحقق المطلوب منه، ويأتي العنصر الثاني في هذه الملامح في القدرة على الحزم، وعدم التردد في اتخاذ القرار الصائب . أما الملمح الآخر الذي تفرد به بين قادة ورؤساء، عرباً وأجانب، فقد تجلى في صراحته وجرأته في قول وعمل ما يؤمن به أنه حق ولا لبس فيه بعيداً عن المجاملة أو الحيل الديبلوماسية، وقال، رحمه الله، في هذا المجال: «احذر من المنافق، فهو إن قال من الخير ما ليس فيك سيقول أيضاً أمام غيرك من الشر ما ليس فيك». ويأتي في قمة هذه الملامح التي عززت السمات التاريخية للشيخ زايد، رحمه الله، شجاعته في المواقف التي يتخذها، ومنها مواقف مصيرية بالغة الأهمية، وليس أدل على ذلك من إصراره على إزالة بعض السلبيات في صلاحيات رئيس الدولة حتى يمكن له أن يمضي في تعزيز قوة الإمارات بشكل أفضل إلى جانب قراره في مساهمة قواتنا المسلحة في تحرير الكويت، ووقفته قبل ذلك في حرب أكتوبر لتحرير سيناء والجولان بقطع البترول عن الدول التي دعمت العدو، مروراً بقراره كأول رئيس عربي يعيد العلاقات مع مصر إلى جانب دعم قضية الشعب الفلسطيني بكافة الوسائل. بالإضافة إلى التدخل لحل الخلافات العربية ومشاركة قواتنا المسلحة في قوات حفظ السلام الدولية لمساعدة الشعوب التي شهدت اضطرابات وحروباً في آسيا وأوروبا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©