الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مقتلة الشرّ المزدوجة

مقتلة الشرّ المزدوجة
24 مارس 2010 21:12
عرضت الشهر الماضي فرقة فن تحدي الإعاقة التونسية بتونس مسرحية “حرقص” الإماراتية وهي من تأليف الكاتب صالح كرامة العامري، بتوقيع المخرج التونسي منير العماري. كذلك لاقت المسرحية صدى طيباً عند عرضها في ختام مهرجان مكناس بالمغرب، بعد أن تم قبل ذلك إخراجها من قبل المخرج المصري أحمد رمزي على خشبة ساقية عبد المنعم الصاوي بالقاهرة. وكانت قد عرضت لكرامة على خشبة الساقية مسرحية “سراب” من إخراج الشاب حسن الصواف، وكذلك مسرحية “حاول مرة أخرى” من إخراج خليل تمام. جاءت مسرحية “حرقص” هذه المرة توليفة من الحب والكراهية، وقد نجح فيها المؤلف بامتياز لأنه أصر على أن يرتقي بالنص المسرحي هذا إلى مستوى المشاهد. وقد أدت المسرحية نخبة من شباب الساقية هم أيمن صبحي في دور “حرقص”، والممثل مدحت عربان في دور “كبير الجند”، والممثل المغني بلال الشيخ في دور “حارث”، وكذلك الفنانة مروة إمام في دور “شرفة”، والممثلة شيماء ممدوح في دور “رباب”. للوهلة الأولى تجد نفسك مأسوراً لما سوف يقدم على خشبة مفتوحة نصبت في وسطها شاشة سينما تعرض فيلماً عن صناعة السلاح، مع احتواء الديكور على أسلحة معلقة تضفي عليه الإضاءة الصارخة إيحاءً بأنه مصنع للسلاح.. هذا المكان الذي استفاق عليه النص المسرحي يعتمد على فكرة تاجر السلاح “حرقص” الرجل الجشع الذي يقوم ببيع السلاح إلى الأعداء الذين يقاتلون أهله ويبيدونهم. كان مجمل المسرحية ينصب على فكرة أن السلاح هو محور الشكل العام، ولكن الدخول في ترتيب النص يجعلك تحاول أن تكتشف أن المسألة هي مجرد ترتيب أولويات، ما يطرح السؤال عن هوية تاجر السلاح، ما يبرر العودة إلى نص رواية باولوا كويلهو “الشيطان والآنسة بريم”، وبالمقارنة مع نص صالح كرامة نجد أن الكاتب الإماراتي قد تفوق عندما أدخل فلسفته في فكرة تجارة السلاح وحولها إلى تجارة الشر، بل استخدم لغته التي تعودنا عليها ذات الروح الجياشة السلسة فأوقع النص في حضنه وأصبح طوع أمره حتى عندما تصدى للنص المخرج أحمد رمزي. “حرقص” في النص شخص مدني يعيش بيننا، يلبس الملابس المدنية نفسها التي لا ترهقه، ويفكر كأنه أي رجل متحضر كما ظهر على الخشبة، ولعل المخرج قصد أن يسقط هذا المظهر على الواقع المعيش بعيداً عن “حرقص” النص الذي يصوره على أنه يعيش في منطقة نائية ومعزولة تنطبق عليه كل صفات الآدمي/ العفريت، فجاء تحركه فوق الخشبة ليجعل المشاهد يحس أن هذه الشخصية هي مفتوحة على تأويل أن الشخص قد يصبح شريراً أكثر من أي وقت مضى، وبهذه الفكرة انطلق المخرج أحمد رمزي يحفر في النص ليؤكد أن الحياة الحديثة وتبعاتها هي ثقل كبير. وبذلك وجدنا “حرقص” تاجر السلاح يقع في شر طمعه فيقوم ببيع السلاح للأعداء ويترك أهله عرضة للنزيف. وقد جسد الممثل أيمن صبحي هذه الشخصية باقتدار عندما ظهر في المشهد الأول فرحاً بحصوله على الذهب من الأعداء مقابل السلاح، ويظل ينتظر المزيد. وعندما يصل “حارث” ذلك الصديق من قريته ينبئه بأن أهل قريته ينتظرون سلاحه، أجاب أنه قد باعه للأعداء. هنا تتضح المفارقة، فـ”حرقص” يعتبر تجارة السلاح مجرد مهنة خالية من العاطفة فهو باع السلاح للأعداء ليس بقص إيذاء أهله وإنما بحثاً عن الربح. ويدور بين “حرقص” وابن قريته “حارث” الذي قدم إليه لكي يشتري لقريته السلاح لصد الأعداء عنها، الحوار التالي: حارث: أهلك بقريتنا يناشدونك.. حرقص: أهلي على زندي.. ولكن أظل بحكم مهنتي تاجر سلاح، أقبض أولاً، أعطي السلاح وأخذ النقود وإلا أغلقت هذا المكان. حارث: أهلك يحتاجونه. حرقص: السلاح؟! حارث: أجل.. حرقص: أهلي هم أهلك.. السلاح لمن يدفع. حارث: القرية في خطر. حرقص: أنا أيضاً في خطر. هنا يتأزم البعد الدارمي الذي ينبني عليه النص، فهو كما يقول كاتبه، يحتمل كل تأويل قبل أن يدخل باتجاه تصاعدي عندما يدخل كبير الجند الممثل مدحت عربان، وهو يحمل بندقيته ويصوبها ناحية “حرقص” في حضور “حارث” الشخص الثائر والذي قام بدوره الممثل بلال الشيخ. هنا تكمن المعادلة في التلاقي بين طرفين، بين إنسان يحاول أن يحقق الثراء وبطرف يبيع وبطرف مقاوم. وقد ظل النص في هذه الناحية متوتراً جداً بغية الإمساك بهذه النقطة بغية إيجاد تسوية بين الطرفين. لقد كان “كبير الجند” قائد الأعداء بمدلولاته قد أسر “حرقص” بأمواله واشترى منه البنادق وترك له الذهب. وهنا يطلق “كبير الجند” النار على “حارث؛ ويرديه قتيلاً، وبموت حارث أصيبت المقاومة في خاصرتها ووئدت، وبذلك يؤشر النص على مأزق الحق وأحقية الخير في الانتصار والاقتصاص من الشر، ويخرج “كبير الجند” ويترك “حرقص” يعيش هواجسه في اكتشاف نفسه. هنا شاهدنا الخشبة قد اكتست باللون القاني دلالة على صرامة الواقعة ووحشية هذا العنف المتجسد في اغتصاب الناس، والثورة التي عمد إليها “حرقص” في النواح إذ وجد صديق عمره أمامه صريعاً بالسلاح الذي باعه للأعداء.. هنا تثور ثائرة “حرقص؛ ويعطي ما يبرره في البحث عن الشر ويظل يصرخ في أرجاء المسرح، بل إن الممثل هنا يخرج إلى الصالة ليواصل عويله بين الجمهور. وفي قراءة ثانية لشخصية “حرقص” تتمظهر أكثر عناصر الشر فيها، حتى عندما ينتبه إلى ما صنعته يداه، فيعبر عن ذلك بصراخه: حرقص: هل من المعقول أن يموت كل الناس دفعة واحدة وأخرج من بين هذا الركام مدمراً؟ كيف يكون الإنسان شريراً؟! وبأسلحتي سيكون شريراً.. أريد أن أنبت في مكان آخر بفكري المجذوب. ثم يخرج “حرقص” من على الخشبة متجهاً في بحثه الدائم عن ماهية الشر في أرجاء المكان وفي طريقة إلى الخارج، وهنا اعتمد المخرج على أسلوب الطرح المرن الذي حدد معالم الشخصية بحيث تصبح أقرب إلى الواقع ومشرعة على الاحتمالات كافة التي يجب تحقيقها وهي الحفر في نواحي الشخصية بما تحتمله من ثورة هائجة على تأصيل الشر. وفي النسخة التونسية من العمل اعتمد المخرج منير العماري على شخصية “حرقص” الصارمة الدموية في بحثه عن الشر، وهي مقاربة مغايرة لما طرقه المخرج أحمد رمزي الذي بحث في داخل حرقص الإنسان الذي يبحث بمحض إرادته المنساقة المذنبة عندما صرع صديقه “حارث” أمامه. إن التقارب الذهني الذي شكله النص في ذهنيته اعتمد في المقام الأول قدرة متأججة من تناص ثنائي بين المخرجين. ففي العرض التونسي رأينا “حرقص” ثائراً في اللحظة التي اكتشف فيها مقدرته على زرع الشر، وكأن الدواعي متأصلة فيه، أما عرض ساقية الصاوي فكان “حرقص” فيه يرقص فرحاً وهو يبحث عن الشر وكأنه سيجده وقد اعتمد المخرج أحمد رمزي على المنهج البريختي في إخراجه عكس المخرج منير العماري الذي اعتمد المنهج الاتروي نسبة إلى (ارتوا) مسرح القسوة حيث يظهر المسرح عارياً إلا من نشارة الخشب وبعض الأدوات التي حاكت القسوة وحاكت الغربة الداخلية للشخصيات وغلبت فيها وحشية المكان، بينما في عرض الساقية فقد امتلأ المكان بالأدوات والناس وأصبح قريباً من الواقع المعاش، أي إن المنهج البرختي أعطى نكهة شبه سليمة في تطويع النص بشكل إلزامي بحيث تحركت كل خلجاته باتجاه أن “حرقص” آني وموجود بيننا. وهذا العمران الذي قام به المخرجان حفر في النص بحيث فتحا التأويلات كافة على ما يمكن أن يقال حول المقصود من كل هذه الأشياء البعيدة والقريبة، ولو رجعنا إلى التشكل البصري فإن العرض التونسي يتفوق لما يحمله من دلالات مكانية ومنظور منطقي لقسوة الحياة حيث سيطرت الإضاءة المعتمة والكآبة في محيط الأشياء ما أوحى بالشر الذي يضمره “حرقص” في المكان والزمان، وستظل المعضلة الأساسية في تأكيد أحقية هذا البحث في عرض الساقية حيث نقل المخرج بحث “حرقص” عن ماهية الشر إلى الصالة بين الجمهور أي انه في هذه الحال أشرك الجمهور في اللعبة الأساسية، بل إنه جعل اللقاء الذي تم بين “حرقص” والفتاة “شرفة” في خلفية المسرح مما جعل العرض منقسماً بين أن تشاهد ما يحدث خلفك - وهذا تكنيك ليس بجديد في المسرح البرختي ولو كانت الصالة بيضاوية الشكل لأصبح المشهد سلساً، ولكن الصالة كبيرة وعمقها في الخلف كلف المتابعة جهداً، بعكس العرض التونسي الذي جعل من اللقاء أمراً اعتيادياً، وهو ما يدل عليه الحوار بينهما: حرقص: هل بإلامكان إن تدليني على هذا المكان؟ شرفة: عما تبحث؟ حرقص: عن نفس المكان شرفة: ها أنت وجدته إذاً حرقص: أنت أول مخلوق أصادفه منذ الأمس.. لقد حسبتُ قريتكم مهجورة شرفة: لا أبداً.. فقط أهلها في البيوت.. ولو دققت قليلاً ستجدهم يحدقون بك من خلف النوافذ. هذا الحوار الذي دار بين “حرقص” والنادلة “شرفة” عند وصول “حرقص” إلى القرية النائية لكي يدفن فيها ذهبه ويزرع الفتنة بين أهلها ويختبر أن الشر سوف ينتصر في النهاية عبر صراعهم على اقتناء الذهب والتقاتل من أجله.. كل هذا أعاد إلى الذهن أن كل شي يعتمد على أن “حرقص” شخصية لديها غاية هي الوصول إلى نقطة الشر، والحوار يكشف عمق شخصية “حرقص” المارق الساعي لتحقيق فكرة الشر وزرعه في العالم عن طريق غاية دنيئة. والعرضان التونسي والمصري أكدا أن “حرقص” باحث عن شر كامن ولو اختلف التجسيد، من خلال طغيان شخصيته الانتهازية ففي الساقية ظل الممثل أيمن صبحي ببدلته يقطع الصالة لكي يصل إلى نتيجة حتمية في أن الشر متأصل فينا، وطغت على هذا المشهد صوت الجيتار الحاد الذي كان يحمله الموسيقي أيمن كنج، فتخالط الحوار مع ما يقصده “حرقص” ولكن ثورة الممثل أيمن صبحي وتجسيده للشخصية بشكل فني أوصل هذه الفكرة إلى المشاهد. في المقابل فإن المخرج التونسي منير العماري كان هو البطل وهو الشخص الذي تصدى لهذه الشخصية في لبسها القاسي الأشبه بمصارعي الحلبة فأوحى منذ البداية أن “حرقص” شرس فانطبعت هذه الشخصية في ذهن المشاهد من أنه لا إنساني فحلت الصورة في ذهن المشاهد وقسماته في هذا المشهد بالتحديد ودخول “حرقص” في دوامة الشر عندما يقوم بطريقة إيمائية مع أمرأة أخرى وهي “نجاح العلوي” في تجسيد الشر بينهما بفعل راقص. ولقد مثلت دور شرفة في العرض التونسي “فاتن الشوايبي” وهي ممثلة محترفة حازت العديد من الجوائز في مسرحيات سابقة لها. وعند تحليل ما قدمه المخرج منير العماري وبالتحديد في هذا المشهد باعتباره مشهداً مفصلياً في سير الحدث، بحيث جعل التماس بين مدلولات الشر تماساً مادياً خصوصاً عندما جعل الرقص عبارة عن التصاق جسدي بين “حرقص” وظله. ويحسب للعماري أنه اختصر الكثير من الكلمات في صراع فني وجسدي. أما المخرج أحمد رمزي فكان أميناً مع النص الأصلي وحقق معادلة ما أراد به المؤلف، وهو ما يؤكده الحفاظ على حوار آخر بين “حرقص” و”شرفة”: شرفة: أنت ماكر حرقص: الشر يحتاج إلى مكر مطلق.. يحتاج إلى عريضة من التفكير الساقط الوضيع. شرفة: أنت استغلالي.. ووضيع حرقص: كل ما قلتيه صحيح.. ولكن كل هذا يحتاج إلى إفادة منك.. هل وجدتموني أسرق يوما؟ شرفة: لا.. ولكن عمل يفضحك. وكلا العرضين، التونسي والمصري، اعتمدا على إشراك النص في لعبة التناقض، خصوصاً عند ظهور الأم “رباب” تلك المرأة التي تنبأت بظهور “حرقص” من مكان قصي وحذرت أبنتها “شرفة” قائلة لها: رباب: أين ذهب الغريب؟ شرفة: بالداخل يا أمي.. ياله من رجل غريب الأطوار يطرح ويستنتج في آن واحد، يسأل كثيراً عن الماشية كيف نفقت.. صوت الرعود.. هل هو مصاحب للمطر.. ويسأل عن تمام عقد القران.. في أي سن تتزوج الفتاة وتطلق.. محير يا أمي.. رباب: حكى لي أبوك قبل أن يغادر القرية، أن غريباً سوف يأتي.. يسرق عيون المارة قادم ليستقر بين الشجيرات الخضر.. يبدأ بالتبول حتى تموت الشجيرات.. قالها لي أبوك.. هو يحشو مخزن بندقيته.. أتذكر جيداً عندما وقف أبوك أمام عتبة الباب بصوته الأجش قائلاً: رباب عجلي.. أغلقي الموقد.. القهوة لا تحتاج إلى كل هذا الاحتراق.. يا لقسوتكِ يا رباب لا أريدها سوداء كالكحل.. أنا أحبها بالمرمرية.. اخلطيها بالهيل كان أبوكِ ينادي من الداخل.. كان شارد التفكير.. معلماً في الوقت نفسه عندما حل الصباح كان أبوك قد قطع عشرين فرسخاً باتجاه الشمس. بهذا الحديث الذي دار بين الأم وأبنتها تلخص “رباب” ما تحسه من أن الغريب قادم وأن إنساناً قادماً يحمل شراً في عينيه وأن نيته مبيتة على فعل الشر في القرية، والشر الذي يحمل يكمن فيه. ولكن التناقض في هذا الحدث هو أن الغريب ليس هو بل هم الذين آووه حتى النهاية وماتوا معاً في النهاية عندما انتقم منه الناس بعدما كشفوا حقيقته وأن الخير هو المنتصر. اعتمد عند المخرج أحمد رمزي الطرح المسرحي، أي أنه وضع النتائج على الفعل المسرحي في تأجج المشهد بحيث قام بتوزيع الذهب المدفون في صالة المسرح بين المتفرجين وأشرك المتفرج في لعبة البحث عن الذهب المطمور الذي دفنه “حرقص” بينهم، فكان المخرج أميناً في تقاطع النص مع ما يكنه المتفرج وما يحيل همومه إلى نقطة مشتركة في الحياة، عندها أضحى “حرقص” فرحاً عندما وجد أن الشر تأجج وأن أهل القرية المستكينة قد اقتتلا من أجل الحصول على الذهب المطمور، لقد أصبحوا كلهم له وبذلك يستطيع أن يسيطر على القرية بمفرده. في العرض التونسي اختفت هذه النقطة وبقيت عدوانية “حرقص” ونزعته الشريرة وهذا التوقد في شخصيته من خلال تمرسه على فعل الشر بينما نجد عرض الساقية يركز على أن “حرقص” انتظر لكي يحقق هذه المعادلة وينجح في غرسها حتى ينتهي به أن يجلس هو و”شرفة” وأمها على طاولة واحدة يتناولون الطعام ويباغتهما رصاص ينهمر من ملثمين. لقد احتفت ساقية الصاوي بهذا العرض المسرحي وهيأت له الكثير من الظروف من أجل إنجاحه. بينما كانت النهاية عند المخرج التونسي منير العماري مختلفة سلط عليها قدرة الشر نفسه بحيث جعل “حرقص” و”رباب” وابنتها “شرفة” يعيشون في متاهة ويقعون في طبائع الشر نفسها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©