السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فؤاد بطرس.. «جوكر» سياسي

فؤاد بطرس.. «جوكر» سياسي
24 مارس 2010 21:17
لماذا المذكرات الموازية والمتقاطعة؟ يروي جورج فرشخ في كتابه “فؤاد بطرس مذكرات موازية متقاطعة” ان وزير الخارجية اللبناني الأسبق فؤاد بطرس قال له، ذات يوم، انه “اذا باح ببعض ما يحتوي عليه صدره سينفجر البلد”. ويضيف: انه لا يحاول الإيحاء بأنه من الاصدقاء الحميميين، أو من المقربين الذين يلتقي بهم الوزير بطرس بانتظام. “ليس لي هذا الشرف، انما اتاحت لي مهنتي ان ألتقي به أكثر من مرة في ظروف عملي، فاحتفظت له بمكانة خاصة”. كاد اللبنانيون يقطعون الأمل بأن يكتب فؤاد بطرس مذكراته. وعندما حسم امره اخيراً، واصدرها، تحققت آمالهم. وبرهن الاقبال عليها انها كانت حاجة وطنية اكثر منها وثيقة تاريخية. وقد ساد نوع من الاعتقاد أن فؤاد بطرس تأخر بكتابتها واصدارها كي يتوج بها مسيرة طويلة من العمل السياسي والسعي الدؤوب الى قيام دولة القانون والسيادة والحرية. فمنذ اليوم الاول الذي دعاه فيه الرئيس فؤاد شهاب الى تحمل مسؤوليات وطنية رهن نفسه لهذه الغاية، ولم يحد عنها. وجاء في مذكراته يروي بصدق ونزاهة المعارك التي خاضها، والتجارب التي عاشها، والمشاريع التي اقترحها والعراقيل التي واجهته، والتي تغلب على بعضها، وعصى عليه بعضها الآخر، في وقت فيه الظروف صعبة، واحياناً فوق طاقة الاحتمال. من هنا، اعتقاد الناس بأهمية هذه المذكرات ولزومها، لأنها ستقدم شرحاً او تعطي نظرة جديدة، او تلقي نوراً من زاوية غير مطروقة. ويجوز اعتبار تلك الخبرة ارضية متينة للانتفاع بالأساليب التي استنبطها، والقواعد السليمة التي ارسى عليها، للاقتداء به ولمتابعة البناء، واستكمال ما بدأه “السلف الصالح”، اذا جاز التعبير. فجوات وثغرات وعلى غرار معظم الاعمال من هذا النوع، تشكو المذكرات البطرسية من فجوات وثغرات لا يجوز القفز فوقها حتى وان كان واضحاً ان كاتبها تعمد التكتم او الاختصار احياناً، لأسباب يبررها بالحرص على المصلحة الوطنية. تبقى هذه المذكرات ذخراً كبيراً لتاريخ المرحلة المعنية، وثروة للذاكرة الوطنية، ومعيناً لا ينضب للباحثين والمؤرخين الذين يحاولون، حاضراً ومستقبلاً، فهم ما جرى في لبنان، في العهود الثلاثة التي تعاون فيها فؤاد بطرس مع فؤاد شهاب، ومع شارل حلو، ومع الياس سركيس. في المقدمة مثلاً، يتحدث فؤاد بطرس عن “مؤامرة” تعرض لها لبنان. ومن لم يتكلم عن المؤامرة؟ ومن لم يتهم الآخر بالتآمر؟ اما وقد أراد فؤاد بطرس أن يشير الى المؤامرة، فكان الزاماً عليه ان يفصلها، لا ان يزيد في التعميم الذي يوازي هذا التعتيم. لأنه يحق للقارئ ان يعتبر ان احد المع وزراء الخارجية الذين عرفهم لبنان، لا بد وان يكون اطلع على خيوطها، وانه سيبوح لهم بحقيقتها، واهدافها، وبالمتآمرين، والجهات التي ينتمون اليها، الى آخر الاسئلة التي تنخر رؤوس اللبنانيين من سنوات طويلة. وطلب الافصاح والتوضيح ليس من قبيل الاثارة الرخيصة، ولا لكشف الفضائح واطلاق الاتهامات، وتسويد صفحات وتبييض اخرى، بل على قاعدة انه يحق للمواطنين ان يعرفوا الحقيقة، ولأنه يدرك ان كلمة “مؤامرة” قسمت اللبنانيين، وانها اكثر توصيفاً واسهله للأحداث الكبيرة التي عصفت بالبلاد. مع الرؤساء فمنذ وزارته الأولى ارتقى فؤاد بطرس الى رتبة الأقطاب بحسب قول المؤلف، جاء به فؤاد شهاب من القضاء، حيث أصبح جوكر السياسة اللبنانية، يتنازع عليه مؤلفو الحكومات. هو بالتأكيد الشخصية اللبنانية التي رفضت أكثر من مرة عروض التوزير. مع انتهاء عهد شارل حلو، عاد الحق للجنرال فؤاد شهاب بأن يترشح مرة ثانية لرئاسة الجمهورية. لم يستجب الرئيس شهاب لمناشدة مناصريه من النواب الذين كانوا يضمنون له النجاح لو ترشح، وربما من الدورة الاولى، ومع ذلك رفض الترشح، وهذا حقه الشرعي. الغريب في القصة، ان الرئيس السابق، لتبرير الرفض، اشترط على النواب ان يعدلوا الدستور ويمنحوا رئيس الجمهورية الصلاحيات التي تخوله استخدام الجيش دون موافقة رئيس الحكومة. ولكن قبل ان يترشح؟ وقبل ان ينتخب؟ اذا حصلت مفاجأة غير سارة؟ لو ورد هذا الكلام في كتاب آخر لصعب تصديقه. لقد عودنا بطرس على منطق اكثر تماسكاً... في الممارسة السياسية هذا التصرف لا يسمى زهداً. هذا استقالة امام المسؤولية. وبما ان الكلام عن جندي، هذا فرار امام العدو. هل كان الجنرال ديغول واثقاً من نجاح مغامرته عندما تمرد على الشرعية الفرنسية الذاهبة الى الاستسلام في يونيو 1940؟ صحيح ان الجنرال شهاب ليس الجنرال ديغول، وان فرنسا غير لبنان، ولكن الدولة تبقى دولة... وخلف سليمان فرنجية الرئيس شارل حلو، في سدة الرئاسة. السنة الاخيرة من عهده عصفت بها الأزمات السياسية والامنية والعسكرية، وهددت الوطن ووحدته ومؤسساته. تطوع الوزير فؤاد بطرس وزار الرئيس فرنجية وفاتحه بالموضوع بهدوء: “يقولون، فخامة الرئيس، إن استقالتك تحل المشكلة، هل فكرت بالأمر؟”، فأجابني على الفور بلهجة واثقة: “انا اثق بك وبرأيك. اذا كنت مقتنعاً بأن استقالتي تحل الأزمة فأنا على استعداد تام للتقدم بها”. هذا الكلام كبير، ألا يستحق من الوزير شرحاً وتفسيراً للثقة التي توطدت بين الرئيس المأزوم والوزير المعتكف عن العمل السياسي؟ غاب فؤاد بطرس عشرة ايام. وبنهاية البحث تأكد له ان العملية لم تكن سوى لعبة، ولن تحل المشكلة المستعصية. “وعدت الى الرئيس فرنجية وقلت له ان عليه البقاء في سدة الرئاسة لأن الاستقالة لن تنفع”. هذا كل شيء، هذا قليل. هل يجوز ان يصرف فؤاد بطرس حدثاً بهذه الاهمية بأسطر معدودة؟ يحاول ان يتخلص بكلمة لعبة؟ وثيقة يوقعها 66 نائباً من اصل 99، وتكون لعبة؟ اما انهم أغبياء أو متواطئون. وفي الحالتين يجب تقديم شرح لما ارتكبوه... ليس المطلوب من الوزير فؤاد بطرس ان يكون فضائحياً، ولا ان ينتهك الاسرار العلية... اقترح الرئيس الياس سركيس الاستعانة بالرئيس السابق سليمان فرنجية لتهدئة ثورة الاسد. كتب فؤاد بطرس في مذكراته يقول: “ساد المحادثات مع الاسد جو من التصلب والحزم ولكن بكياسة واضحة. استغربت في الواقع جرأة الرئيس فرنجية الذي لم أكن أتوقع منه مواقف حادة كتلك التي أخذها. وفي المقابل لم انتظر ان يكون الاسد بالتشدد الذي بدا فيه مع الرئيس فرنجية..”، ولكن لماذا الاستفزاز السوري الذي فجر الأزمة؟ ماذا طلب الرئيس الاسد وماذا رفض الرئيس فرنجية حتى ارتفعت اللهجة دون ان يتخاصما؟ سكت فؤاد بطرس عن ذلك، وعثر عليه المؤلف في أماكن أخرى.. “ومجزرة إهدن المؤسفة”؟ واضح ان الوزير بطرس لم يولها الاهتمام الذي تستحقه. لم يكتف بإغفال التفاصيل بل ذهب الى درجة اساءة التقدير، فنغصت له حياته طوال عهد الرئيس الياس سركيس، كي لا نقول انها قصمت ظهر العهد. والأدلة كثيرة ومعروضة بنزاهة. اعرب الرئيس القذافي عن رغبته بزيارة لبنان. وعشية 11 يوليو 1979، وعند الثانية بعد منتصف الليل، اتصل نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين بالوزير بطرس، وابلغه ان “الزيارة اذا حصلت سوف تؤدي الى انفجار، وحياة الزائر في خطر”. ونجح الوزير بطرس بإلغاء الزيارة، دون التسبب بنشوب مشكلة مع ليبيا. وكتب يقول:”ان للشيعة في المستقبل دوراً متنامياً في لبنان. ولن يتقرر شيء بعد اليوم بمعزل عنهم”. اما كان بوسعه ان يتوسع قليلاً في شرح اسباب تنامي الدور الشيعي في لبنان، وان يستعرض، في الوقت ذاته، وبالتوازي، اسباب تراجع الدور الماروني؟ وهل الأسباب داخلية تتصل بالديمغوغرافيا وحدها، ام بثورة المحرومين من جهة، وبغفلة المترفين واستقالتهم من المسؤولية الوطنية، من الجهة الثانية. ومجزرة الصفرا؟ ومعركة زحلة؟ واجتياح بيروت؟ ومغادرة ياسرعرفات والفلسطينيين الى تونس؟ واقتراحات فيليب حبيب التي تتضمن بذور مشاريع توطينية؟ ومجزرة صبرا وشاتيلا؟ وانتخاب بشير الجميل؟ ولقاؤه مناحيم بيغن؟ يخاطر فؤاد بطرس على غير عادته، بإعطاء معلومة ليس واثقاً من صحتها ولا من جديتها، مفادها ان “بشير الجميل في صدد القيام بانقلاب والسيطرة على السلطة اذا لم ينتخب دستورياً. هذه الواقعة اكدها الصحافي الفرنسي آلان مينارغ في كتابه “أسرار حرب لبنان”. وما مغزى ان يصف الشيخ بيار الجميل انتخاب نجله بالكارثة، وهو يستقبل صديقاً حميماً لتهنئته بانتخاب ابنه بشير رئيساً للجمهورية؟ وانسجاماً مع موقفه المعارض لانتخاب بشير الجميل، تضامن فؤاد بطرس مع أكثرية اعضاء الحكومة، وامتنع عن حضور جلسة الاقتراع. وصعد الى بعبدا، وجلس أمام شاشة التلفزيون يتابع مع صديقه ورئيسه الياس سركيس وقائع الجلسة. وسجل فؤاد بطرس ان “الرئيس الياس سركيس ارتاح للنتيجة. اما انا فقد كنت اتمنى أن أكون مقتنعاً كي اشاطره ارتياحه واكون اقل انزعاجاً”. أدرك الوزير فؤاد بطرس منذ تجربته الأولى أن قوة لبنان ليست في ضعفه، ولا في جيشه مهما تسلّح. بل قوته هي من إرادة مجموعة من الرجال على اختلاف مصادر الإلهام عندهم، يؤمنون بوطنهم الصغير، ويعالجون شؤونه الداخلية والخارجية، انطلاقاً من الحكمة والحوار وقبول الآخر على حقيقته. لقد أثبت أنه كان بوسعه أن يوقف المعارك، وحده، بنقاشه وحججه الصادقة والخالية من كل مراوغة. كتاب يستعرض مرحلة مهمة من تاريخ لبنان. يقارن يناقش يعاتب ينتقد، ويسأل معترضاً، أو مؤيداً بنبرة يمتزج فيها الحنين بالدعابة، بالغضب على الفرص الضائعة، وبالأسف على غياب الشرح والتحليل. سجالي في الحياة والرواية لم يكن فؤاد بطرس قد انضم الى فريق الرئيس فؤاد شهاب يوم اجتماعه الشهير مع الرئيس جمال عبدالناصر في الخيمة على الحدود اللبنانية السورية، فلجأ الى الجنرال فرنسوا جينادري واستقى منه المعلومات التي جاءت ناقصة وغير دقيقة، وغير لائقة في بعض التعابير التي استعملها الجنرال جينادري ونسبها الى الرئيس فؤاد شهاب. روى اللواء جينادري ان عبدالحميد السراج تقدم إلى الرئيس فؤاد شهاب وقال له:”ان الرئيس جمال عبدالناصر وصل، ألا تذهب للترحيب به؟”، فأجابه فؤاد شهاب على ذمة اللواء جينادري: “لقد حطت طوافته على أرضه، كيف لي ان أرحب به وهو في بلاده؟ ثم لا تنس ان سيادة الرئيس كان أدنى مني رتبة، قبل وصوله الى السلطة. كان عقيداً اما انا، فـ “لواء”. كيف اقتنع الوزير فؤاد بطرس بهذا الكلام؟ هذا سر من أسرار الجنرال جينادري. لأنه لا يعقل ان يتفوه رجل بكياسة الرئيس فؤاد شهاب بمثل هذا الكلام عن الرئيس جمال عبد الناصر، وهو الذي كان يكن له كل الاحترام، ويعلن إعجابه به. ويضيف المؤلف ان الصور الفوتوغرافية والتلفزيونية التي يملكها عن ذلك اللقاء تظهر بوضوح اللواء منير السردوك وهو الذي رافق الرئيس شهاب الى الخيمة، وليس فرنسوا جينادري، واللواء السردوك لم يشاهد طوافة على الحدود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©