السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المجتمع المدني بين النظرية والواقع

12 ابريل 2008 00:55
يقول مونتسكيو، في كتابه الشهير روح القوانين، ''البشر متساوون في الحكومة الجمهورية؛ وهم متساوون لدى الحكومات المستبدة؛ في الأولى لأنهم كلّ شيء، وفي الثانية لأنهم لا شيء''· فأين نقع نحن من ذلك، وأين موقع مجتمعنا بين أن يكون كلّ شيء أو لا شيء؟ في الواقع، إذا سنحت فرصة لتأسيس المجتمع المدني في بلداننا، فإنها على الأغلب فرصة نادرة ومنقضية، إنها محكومة بالزوال وعرضة للمخاطر والارتداد· وهذا لا يطول المجتمعات المضطربة فقط، بل إنه يطول المجتمعات المستقرة أيضاً، نظراً لهشاشة الأسس السسيو- ثقافية، والاقتصادية، والأخطر السياسية، التي تبذر نذر الشؤم الكالحة يوماً بعد يوم· ولعل المقاطع الزمانية التي يمرُّ بها أي مجتمع تسهم في إلقاء ضوء كاشف على حقيقة، قد يتيه فيها التحليل النظري بعيداً، مفادها أن الطابع الزمني والتاريخي لكل مجتمع يمنح محليته خصوصيةً تجتذب هي بدورها تفسيراً قد لا يصلح لغيرها، ويجتذب بالضرورة نظريات قد يراها بعضُهم قاصرةً، ولكنها تكون بمثابة العلاج الحتمي والضروري لما يجري في مرجل هذا المجتمع· وهذا كله يثبت، مرة أخرى، أن لا حلول نظرية كلية قادرة على إلغاء البعد الزمني التاريخي، وأن لا وسيلة أخلاقية شاملة تستطيع أن تتجاوز حدود الزمان والمكان· ومن جهة أخرى، يبرهن هذا، وهذه المرة خارج حدود أي مجتمع، على أن النظريات، حتى القديمة منها، قد تصلح في أوقات معينة على أوضاع لاحقة· فالسابق قد يجد انسجامه مع اللاحق رغم اختلاف الظروف· والتطور الفكري النظري لا يسير في خط مستقيم، وكذلك المجتمعات، فهي أيضا تشهد نكوصاً، وكلّ نكوص قاتل· يُستفاد من كلّ عرض زماني درس مهم وهو: التطور التاريخي· ولا يستفيد من هذا الدرس، بل لا يراه، إلا من وجد نفسه، أو عرف نفسه كائناً تاريخياً: كائناً قدماه تنغرزان في الأرض مهما اشرأبَّ برأسه إلى الأعلى بعيداً· التاريخ جسد حيّ، وعملية بنائه وصيرورته لا تلغي مراحله المتقدمة، بل إنها أحياناً تصبح واقع حال· وبالضرورة، فإن التفكر الإنساني في حال التجمعات الإنسانية هو أيضاً جسد حيّ، وكلّ مرحلة من مراحله المتقدمة لا تنفد ولا تبور ما دام موضعُها قابلاً للنكوص· الفكر وإن كانت له بنيته المستقلة التي تدفع نفسها إلى الأمام، إلاّ أن علاقاته المتشابكة في ما يفكِّر فيه هي العامل الأوفر حظاً في المساهمة بتقدمه هذا· فالنظريات المتعاقبة لا تأتي ترفاً، إنما هي تتحرك بضرورة لا نقبض عليها، نحن اللاحقين، ما لم نلمَّ بما كان يحدث بجسد المجتمع وروحه· والتشابك بين الطرفين يجعلهما كما لو أنهما ليسا بنيتين مستقلتين، إنما هما بنية واحدة متراكبة نقيم التمييز فيها فقط لغرض الفهم· فلا بنية فوقية مستقلة عما تحتها من بُنى، ولا هذه تحتية من دون انبرامها الحتمي بما يعلوها· فالمجتمع، أي الوجود الإنساني في مجتمع زمكاني، هو كلٌّ واحد· بدءاً بأفلاطون وصولاً إلى أحدث النظريات التي تتناول الوجود الاجتماعي والسياسي، ثمة دائماً صلة حيّة وحتمية بين الجهاز النظري والواقع الاجتماعي السياسي التاريخي الذي عمل على ابتعاثه· ثمة أبداً محفزات تاريخية وواقعية أسهمت في بلورة وتشكيل كلّ نظرية عن المجتمع المدني· لا يذهب الظنّ إلى أن الخوف على المجتمع المدني يمتّ بصلة لنا نحن العرب، فنحن لم نبلغ بعدُ هذه المرتبة من التطور· لكن تآكل المجتمع المدني في الغرب، واستعصاء مشكلات الديمقراطية ونقدها فيه، والسخط المطبق من المجتمع على القيّمين عليه، هي التي صارت علامات على أزمة تحفّ بالإنسان الغربي· ولنتذكر هنا، على سبيل المثال، محاضرات ميشيل فوكو (يجب الدفاع عن المجتمع) في العام 1976 (صدرت ترجمة عربية له عن دار الطليعة في العام 2003) الذي بحث فيه موضوع السلطة، وكتباً أخرى كثيرة تتناول مسألة ''مساوئ'' الديمقراطية أو ''الاستياء'' منها في الغرب، والتعبير الأخير من عنوان كتاب لم يُترجم بعد، هو الاستياء من الديمقراطية Democracy's Discontent لمايكل ساندل· غير أن أزمتنا نحن العرب مختلفة طبعاً، إذ يمكن أن نتصوّرها بدءاً على أنها قلق من تأبيد المجتمع الأبوي، ومن استعصاء مشكلة الحكم لدينا، ومن عوائق تأسيس المجتمع المدني، والديمقراطية، ودولة القانون· ولعل من أسباب هذه الأزمة افتقارنا إلى التقاليد الديمقراطية، ولأن هذا الافتقار يعززه غياب تراث داعم للحرية والمساواة، فنحن نتخبط في غابة من الأخطاء المميتة بصدد نظام الحكم· هذا الوضع يحكم الجميع بما فيهم الساعين إلى الحرية والعدالة، إذ تضعهم ظروف الصراع المعقدة في حرب لا من أجل الحرية بل من أجل دحر الخصوم السياسيين مهما كانت مذاهبهم السياسية· النظرية والواقع بدءاً بأفلاطون وصولاً إلى أحدث النظريات التي تتناول الوجود الاجتماعي والسياسي ثمَّة دائماً صلة حيَّة وحتمية بين الجهاز النظري والواقع الاجتماعي السياسي التاريخي الذي عمل على ابتعاثه· محفزات تاريخية ثمة محفزات تاريخية وواقعية أسهمت في بلورة وتشكيل كلّ نظرية عن المجتمع المدني·
المصدر: واشنطن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©