الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المستمر

18 فبراير 2011 21:22
نجحت الثورة في مصر.. لن أشغلك بآرائي السياسية لأن هذا ليس مكانها. لكني فقط أحكي لك عن تلك الأيام السوداء التي تلاشت فيها الدولة تماماً .. لم تعد هناك شرطة .. لا مصارف .. لا مصالح حكومية ... لا شيء .. والسبب هو أن النظام يعاقب الشعب الذي ثار ضده .. أنتم غير راضين بحكمي .. إذن جربوا الحياة من دون دولة. الإعلام المصري يحكي عن عصابات البلطجية والمساجين الفارين من السجون الذين يروعون الأحياء السكنية، وهكذا في المساء قرر شباب كل حي أن يكونوا لجاناً للحماية الليلية.. وضعوا المتاريس وأشعلوا النيران وتسلح كل واحد بشيء .. عن نفسي حملت مطرقة ونزلت إلى الشارع مع ابني، لأجد أن كل واحد من شباب الجيران يحمل سلاحاً مرتجلاً.. سكين مطبخ .. عصا .. وهكذا مرت الليالي على الحي حتى بدأ الأمن يعود نوعاً ما.. لا توجد دولة .. هناك خطر أن يأتي يوم لا تجد فيه طعاماً ولا ماء ولا كهرباء، وفي الأسبوع الأول للثورة انقطعت اتصالات الهاتف المحمول وخدمة الإنترنت، توطئة لأن تتوقف القطارات كذلك .. وسط هذا كله، كنت أرى هذا الشاب المتحمس الذي يحمل دفتراً ومجموعة من الإيصالات ويدور على البيوت. لا يحتاج لأن يضع بطاقة كي تعرف أنه محصل .. محصل كهرباء أو ماء أو غاز طبيعي .. الظهر المنحني والنظارة السميكة والكآبة والرتابة الحكوميتان المعتادتان. تشتعل الشوارع وتسمع عن حريق في شارع كذا، وأن المتظاهرين يحرقون بناية كذا، وأن دبابات الجيش تتحرك في المنطقة الفلانية .. الشوارع خالية من الناس، لكن الأخ المتحمس يمشي وحده في الشارع بحثاً عن عنوان آخر ، وقد مط شفته السفلى في تعصب .. لا يخاف ولا يجري ولا يهمد .. من يصدر له التعليمات ؟.. في أية مصلحة يوقع صباحاً ؟.. من يدفع له راتبه ؟. لا يوجد مخلوق في مصر قد تقاضى راتبه لأن الثورة بدأت يوم 25 يناير فأغلقت المصارف، أي أن جيبه خال تماماً .. لو كان محصلاً فلأية جهة يسلم الأموال التي يحصلها ؟.. ومن يدفع له إذا كانت جيوب الناس خاوية أصلاً ؟ إنه لغز كوني .. كنت أشعر بالنحس فعلاً.. من دون دولة يمكنك أن تسطو على من تريد، ويمكنك أن تمشي بسيارتك عكس الاتجاه في أي شارع، ويمكنك أن تتجاهل إشارات المرور تماماً، ويمكنك أن تتناسى سداد فاتورة الهاتف .. حتى دفاتر مخالفات المرور أحرقها المتظاهرون... لكن يشاء حظي العاثر أن الموظف الوحيد الباقي على حاله وحماسه في مصر كلها هو محصل، وهذا المحصل يعمل في شارعنا! كيف تتوقف خدمة الهاتف المحمول ولا تتوقف خدمة تحصيل الفواتير، إن كانت خدمة أصلاً ؟ قابلته في الطريق صباحاً عندما كان يسأل عن عنوان (سيد الشماشرجي).. سألته عن الفواتير التي يحصلها بالضبط والدولة قد ذابت .. لم يرد ..فقط راح يتصفح الفواتير التي يحملها وهو يرتجف .. قال لي: ـ»لا يهم .. المهم أن هذا واجبي وأنا أؤديه» هنا أدركت أن هذا الرجل أكبر من الواقع ذاته. إنه بطل من الأساطير الإغريقية .. الكاتب المصري الجالس القرفصاء الذي يمثل البيروقراطية المصرية العتيدة. إنه آلة بدأت العمل وانكسر الزر الذي يوقفها فلن تتوقف أبداً .. سوف يحصّل إلى أن يموت وليس لديه خيار آخر .. انطلقت أركض هارباً منه، بينما هو يناديني في إلحاح .. يثب فوق الحجارة والمجاري التي طفحت والرصيف المهشم: ـ»ما اسمك يا أستاذ ؟.. لابد أن عندي فاتورة لك !.. انتظر يا أستاذ !!» د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©