الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البيوت أسرار

البيوت أسرار
25 مارس 2010 21:03
حرمان في الفقر والغنى نورا محمد (القاهرة) - خطوت أولى خطواتي في الجامعة بملابس قديمة، استغنت عنها ابنة عمتي التي تكبرني بعدة سنوات، ولانها كانت بدينة وأنا نحيفة بسبب سوء التغذية وربما لعدم الشبع في كثير من الاحيان اضطررت للاستعانة بجارتنا لتضبط لي هذه الملابس، لا يخفى على احد أنها ليست لي في الاصل، ومع هذا فقد كنت سعيدة بأنني حصلت عليها لانني لا املك إلا فستاناً واحدا وهذا العطاء من ابنة عمتي لحل مشكلتي. قرأت في عيون زملائي وزميلاتي استنكارا ورفضا لحالتي، كأنني مذنبة او ثرية تملك الملايين وتبخل على نفسها حتى بملابس جديدة في هذا المكان الذي تحول من محراب للعلم ووسيلة للحصول على الشهادة العلمية، إلى مسرح كبير فسيح لعرض الازياء بين الطلاب والطالبات، كنت غريبة بينهم، ربما اكون دخلت هنا بطريق الخطأ والعيب ليس فيهم وانما النقص عندي. أبي عامل أجير يتحصل على رزقه يوما بيوم ولا يدخر جهدا، ولا يكتفي بعمل واحد ولا يرفض مهمة كبيرة ولا صغيرة تعود عليه بالقليل، أحيانا يخترع عملا يرتزق منه، يخرج بعد ان يصلي الفجر دون أن نعلم إلى أين، كل يوم في مكان مختلف وعمل جديد حسبما تسوقه وتقوده الاقدار، يدرك ان مسؤوليته جسمية كبيرة ونحتاج إلى المزيد، لا مجال للراحة لالتقاط الانفاس، انظر إليه دائما وأنا مشفقة عليه، يحمّل نفسه فوق ما يطيق، أحيانا أبكي ولا أتمكن من السيطرة على دموعي وأنا اراه يجر قدميه في نهاية اليوم ثم يرتمي في فراشه بلا حراك، لأنه يدرك ان وراءه عشرة من البنين والبنات في مراحل التعليم من الابتدائية حتى الجامعية، أفواه مفتوحة ومطالبهم بلا حدود. وأمي إمرأة لم تعرف يوما الطريق إلى المدرسة، ففي أيام طفولتها لم تكن هناك مدارس ولا جامعات في منطقتنا كلها وبالتالي تجهل القراءة والكتابة تماما ومع ذلك فقد كانت أفضل من أمهر وزير مالية في العالم ولديها حكمة فطرية وقدرات اعجازية وثقافة إدارية أكثر من الحاصلين على الدكتوراه في هذه التخصصات، تدير أمور البيت والزوج والابناء بأقل القليل، لذلك كان أبي وأمي يكملان بعضهما، جمعهما الله ليعين كل منهما الآخر على هذا العدد من الابناء، الدرس الاهم الذي تعلمته هو الرضا من كليهما، لا شكوى ولا تأفف، سعادة مشوبة بالمعاناة لكن المعاناة لا تطردها ولا تخفيها، كل منهما يشفق على الآخر ويشعر بمتاعبه ويرجع إليه الفضل في تسيير وتوجيه دفة الاسرة الكبيرة إلى بر الأمان، وكل ما يحدث في بيتنا مهما كان صغيرا أو كبيرا فهو سر دفين، ولا يجب أن يصل إلى أحد أو يعرفه أحد مهما كان حتى من الأهل. كنت الوسطى بين اخوتي، خمسة من البنين وخمس من البنات أبي وأمي لديهما قدرة فائقة على أن يشعرا كل واحد منا على حده بأنه المفضل والاحب عندهما، حتى لو كنا مجتمعين كلنا شربنا حسن العلاقة بين الأب والأم، فشاركنا في هموم وتبعات الاسرة حتى ولو بالاقتصاد الشديد في الانفاق وربط الاحزمة على البطون، لا نطلب إلا الضروريات القصوى لا مكان للرفاهية ولا وجود للكماليات، صدقوني مع اننا نعيش على هامش الحياة، إلا أننا لا نهتم إلا بمستقبلنا والنجاح في الدراسة، حتى نتمكن من تحقيق أحلامنا التي ستنقلنا إلى وضع أفضل، وتوديع المعاناة والألم. لهذا كله لم استنكر الفارق بيني وبين كل الطلاب والطالبات حتى لو كان كبيرا، وهو بالفعل كذلك فالفجوة بيننا لا يمكن ردمها، اذ استطيع أن أقول ولا فخر انني الافقر على الاطلاق ولم اتخذ من ذلك شماعة لأعلق عليها أي فشل ونقص، وانما اتخذت منه دافعا للاجتهاد والتفوق والاهتمام بالمحاضرات والاستذكار والبحوث. في البداية انفض الزملاء من حولي ولا انكر أنني تأثرت بهذا وترك في نفس حزنا وألما، ولم استسلم لأنني لست مذنبة بل فخورة بأبي وأمي خاصة وانهما لا يقصران في واجبهما، وعندما بدأ البعض يتقربون مني ما كان ذلك إلا للتسلية أو معرفة من أكون وما هي قصتي وحقيقتي؟ وقليل منهم كان من قبيل الشفقة والاعتراف بالواقع. الانشطة والرحلات وكل التحركات في الجامعة تحتاج إلى أموال ونفقات لكنها في نفس الوقت ترفيهية وليست أساسية ولا مهمة في الدراسة ومن ثم فقد كانت بالنسبة لي من المحرمات، فكنت اجتنبها تماما، ونجحت بدرجة ممتاز في تخطي هذه العقبة التي كانت جل اهتمام زملائي وغاية آمالهم، وضعوها فوق الدراسة والعلم وكانت كل همهم يعيشون من أجلها ويفكرون فيها ويخططون لها، هم في واد وأنا في واد آخر. لم يخطر لي على بال، او يرد في حلم نوم او يقظة ان أجد من هو على شاكلتي، مثلي تماما، إلا بعض من الرتوش والاختلافات البسيطة وجدته يسير معي في نفس الاتجاه، جمعنا الفقر والتفوق ووحد بيننا العوز والحاجة، ووفق بيننا النجاح المشرف، التقت مشاعرنا وعزاؤنا الحصول على الشهادة الجامعية بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف، هناك ظهر الفارق بيننا وبين زملائنا الآخرين فمنهم من نجح بالكاد ومنهم من رسب ومنهم من فشل من قبل ولم يكمل المشوار، تكللت جهودنا بالتعيين في الجامعة زميلي اصبح حبيبي ودخلت الاموال إلى جيوبنا لأول مرة، ثم عرفت طريقها إلينا بانتظام في بداية كل شهر ووضعنا خطة لاعادة إعمار وبناء حياتنا وتعويض ما فاتنا واستفدت من تجربة أمي وطبقت نظرياتها وأساليبها التي ابتكرتها بخبرتها، فاستطعت أن أتولى قيادة أسرتي الصغيرة واسير بها بثبات ونجاح من تقدم إلى تقدم، فتزوجت هذا الشاب المكافح وانا أرى منه كل تشجيع ومؤازرة خاصة في عملية ضبط الانفاق. عندما بدأ الجنين الأول يتحرك بين أحشائي وتظهر آثار الحمل والوحم طلب مني زوجي أن اترك العمل حفاظا على الجنين فوافقت خاصة ان دخل زوجي وحده اصبح كافيا لنا، وعندما قلت تحركاتي تولى هو الانفاق على البيت وشراء الاحتياجات المنزلية، وهنا كانت المفاجأة الكبرى التي اكتشفتها متأخرة بعد عدة سنوات من تعاملي معه ومن زواجنا، زوجي مريض، ومرضه بلا علاج لا يجدي معه الاطباء ولا تنفع الأدوية زوجي مريض بالبخل والشح الشديد، خلق الفقر عنده نوعا من الخوف والرعب، يخشى ان يعود إليه مرة أخرى بعدما ودعه، فكثيرا ما قرصه الجوع، وعانى البرد والحر، وعاش حياة قريبة من التشرد، لذلك لا يريد أن يعود اليه العوز والحرمان أما أنا فلم يفارقني الأمل لحظة، وانظر دائما إلى المستقبل على انه أفضل ومع هذا لم أسرف والآن عرفت لماذا كان بثني على طريقة الادخار والانفاق عندما كنا في فترة الخطبة لقد كان ذلك من قبيل الحرص على المال والتمسك به. رزقت بطفلي الاول، ودخلت بعده بسنوات قليلة مرحلة الحمل الثاني، واصبح عندي طفلان ولم يغير زوجي من اسلوبه، بل تمكن منه «المرض» يزداد كل يوم ولا يهمه الصغيران ولا احتياجاتهما، كل ما يهمه اضافة المزيد إلى رصيده في البنك، وحجته المتكررة التي مللت سماعها، انه يريد ان يؤمن مستقبل الولدين، حتى لا يعانيان مثل ما عانينا، ولا يواجهان ما واجهنا وما كان ذلك الا كلمة حق يراد بها باطل، إذ يمكنه أن يفعل ذلك، بينما يستطيع أن يوفق بين الحياة وتأمين المستقبل كما يدعي، ان ما يفعله هو حرمان تام وتقتير كامل، ولأنني لا أريد أن اخالف نصيحة أمي رحمها الله بألا أجعل أي خلاف بيني وبين زوجي يخرج من عتبة بيتنا، ولانني أيضا تعلمت منها ان اسرار البيت مقدسة لا يجوز ان يطلع عليها أحد، لم أستطع أن أشكو لقريبة او صديقة، وفشلت في اقناعه أو إصلاحه خاصة وأن الصغيرين كبرا والتحقا بالجامعة ويستطيعان ان يميزا بين الامور ويلاحظان بوضوح تصرفات ابيهما ويرفضانها جملة وتفصيلا. لقد أصبحنا الآن في مفترق طرق، زوجي لا يريد أن يتراجع عما هو فيه، ومُصر على موقفه والولدان أعلنا عليه الحرب، وتسلل الشقاق إلينا، وأنا تحملت كثيرا، ولم أعد قادرة على تحمل المزيد، فقد عشت في طفولتي وشبابي فقرا مدقعا وانا لا أملك شيئا وعشته معه والمال بين ايدينا، وها أنا اقترب من الخمسين والحرمان مستمر ولست على استعداد للاستمرار مع عدم الاضطرار، فقد امتد البخل من المال إلى مشاعر زوجي وطارت احاسيسه ولم يعد لها وجود. ميزان العدالة يقظة ضمير القاتل أحمد محمد (القاهرة) - اختفى الدكتور «عزت» الأستاذ بكلية الطب في ظروف غامضة، لم يعد الجيران يرونه ولا يسمعون فتح وإغلاق باب مسكنه كما اعتادوا، لا يصادفه أحدهم في ذهابه او إيابه، لا يعرفون ماذا جرى، وهل هو على سفر هذه المرة؟ أو انتقل الى مكان آخر دون أن يخبر أحدا منهم؟ فهو يعيش وحيدا، لم يتزوج ولا يزوره أحد ولا يستقبل أحداً في شقته، يخرج في الصباح الباكر ويعود في وقت متأخر، دائما مشغول بين عيادته وعمله في التدريس بالجامعة، يحبه كل من يعرفونه من جيرانه وأقاربه وتلاميذه ويغدق على الجميع بماله وجهده، يفحص المرضى الفقراء مجانا وربما يشتري لهم العلاج على نفقته اذا علم أحوالهم وظروفهم، يشفقون عليه من الوحدة ويدعون له بالتوفيق ويتمنون ان يروه مع عروسه مستقراً في بيته وعندما ذهبوا إلى عيادته وجدوها أيضا مغلقة ولم يجدوا جوابا عن سؤالهم، هرعوا إلى شقيقه لعله يجيب عن تساؤلهم، ولكن كانت المفاجأة انه لا يعرف شيئا عنه، فأسرع الجميع إلى الجامعة حيث عمله، فوجدوا نفس الجواب المؤلم الذي زادهم حيرة، وجعلهم يضربون أخماسا في أسداس، وتدور رؤوسهم من كثرة الأفكار والهواجس وأخيرا ليس أمامهم سوى اللجوء إلى الشرطة وأبلغوا القسم باختفاء الدكتور «عزت» وتم تشكيل فريق بحث موسع يجمع المعلومات من هنا وهناك ويلتقي بكل من يعرفه في كل موضع أيام وأسابيع وشهور. ودون أن تأتي الجهود بجديد خاصة بعدما وجدوا ان كل محتويات شقته وعيادته كما هي لم يدخلها غريب ولم يعبث بمحتوياتها لص ولم تفتح وأصبحت الحقيقة الوحيدة انه خرج ولم يعد، لكن لم يتم التوصل إلى المكان الذي ذهب اليه ولا ماذا حدث، وبعدما يقرب من عام صدر قرار النيابة العامة كما في مثل هذه الحالات بحفظ ملف القضية وإغلاق التحقيق وقيدت ضد مجهول، وظل اختفاء الدكتور «عزت» لغزا منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام أي منذ عام 2007 وبالتحديد في شهر مارس منه. وفي هذا الشهر مارس 2010 نسى الجميع الواقعة برمتها وقليلا ما يتذكرونها لكن حدث ما لم يكن في الحسبان مثلما يحدث في الدراما، عندما تقدم «سعد» إلى رئيس المباحث وعرفه بنفسه بأنه فني في الكمبيوتر وعاشت أسرته ثلاث سنوات كبيسة كلها خلافات ومشاجرات، لم يهنأوا فيها بنوم أو طعام، حل عليهم الهم والنكد والحزن، لا تمر ليلة أو يوم بلا كرب او مشكلة، فيتبادلون السباب والشتائم وربما التشابك بالأيدي، وأخيرا ضاقت عليه الدنيا بما رحبت ولم يجد مخرجا من هذا كله إلا أن يعترف بما حدث وما اقترفت يداه هو وشقيقه وأبوهما. قال «سعد» تعرفت على الدكتور «عزت» منذ فترة وطلب مني أن أصلح له عطلا في جهاز الكمبيوتر الخاص بمنزله، وتوجهت معه إلى هناك وبعدما انتهيت من مهمتي فتح خزانة كبيرة، ورأيتها مملوءة عن آخرها بالاموال التي لا اعرف لها عدا وأخرج الدكتور ورقة فئة عشرين جنيها ودسها في يدي ومضيت، لكن تاه من قدمي الطريق لا اعرف إلى أين ولا كيف أسير، فقد ذهبت الأموال بعقلي وعدت الى بيت أسرتي ولم استطع النوم وأنا افكر فيما رأيت وأمني نفسي ببعض أموال الدكتور ولكن كيف لي هذا، ورفضت عرض أمي بأن تقدم لي الطعام فلم تعد هناك شهية تقبل أي طعام، ولاحظ أبي هذا التغير في تصرفاتي فسألني عما بي فقصصت عليه الواقعة فسال لعابه وقال لي: إننا نمر بضائقة مالية شديدة فهل يقبل أن يقرضنا خمسة آلاف جنيه، نسدد بعض ديوننا ونحل بعض مشكلاتنا، فقلت سأعرض عليه الأمر. توجهت في اليوم التالي إلى الدكتور «عزت» في عيادته وأخبرته بمطلب أبي ففكر قليلا ثم أبلغني بموافقته ولكن بشرط، ان يوقع ابي على إيصال أمانة ضمانا للحقوق، فقبلت وأحضر المبلغ وتوجهت أنا وهو إلى بيتنا ورحبت به، ولأن أبي يعمل حلاقا فقد عرض عليه ان يقص له شعره كخدمة يستطيع ان يقدمها له ووافق الدكتور حتى لا يشعر أبي بالحرج او الخجل، واحتفت به الاسرة، وقام أبي وأصر على ان يعد له فنجانا من القهوة بنفسه، وبالفعل عاد به بعد قليل، وما ان رشف الرجل رشفة ثم الاخرى حتى بدأ يفقد الوعي وسقط الفنجان من يده، وفوجئت بأبي يحضر قطعة من القماش مبللة بالماء وكتم بها أنفاسه حتى فارق الحياة وأنا احملق فيه غير قادر على أن اعترض كأنني قد شلت أطرافي ومات الرجل الذي أحسن إلينا، قتل بلا ذنب وأخذ أبي من جيبه الآلاف الخمسة ودسها في جلبابه، وطلب من أخي ان يستأجر سيارة، وقمنا ثلاثتنا بوضعه في جوال وحمله في السيارة وتوجهنا إلى منطقة صحراوية نائية مهجورة، وحفرنا حفرة كبيرة وألقينا فيها جثة الدكتور «عزت» وقام أبي وأخي بإشعال النار فيها حتى يطمسا معالمها ولا يتم التعرف عليه، ثم تم ردم ما تبقى ودفنه، وعدنا وكأن شيئا لم يكن. تنهد «سعد» وأكمل: ومن يومها ثلاث سنوات كاملة أو يزيد وأبي عصبي المزاج، يضربني ويعتدي على أمي وأخي، وأنا ألومه على فعلته، وهو يوبخني لأنني وافقت على استدراجه والمجيء به إلى حتفه ونهايته، ويتهم أخي بارتكاب جريمة أخرى بإحراق الجثة، ونشبت بيننا معارك حامية الوطيس، وفي الاسابيع الاخيرة أصبحت الحياة في بيتنا لا تطاق وكل واحد منا يهدد الآخرين بالإبلاغ ليذوقوا وبال أمرهم، ويلقي بالمسؤولية على الآخرين، لكني اعتبر أنني المجرم الاول، فاتخذت قراري بعدما استجمعت شجاعتي وجئت لأبلغكم بما حدث. اصطحب الضابط «سعد» إلى حيث أخبره بمكان دفن الجثة، وتكشفت الحقيقة وتم العثور على رفاته والقبض على بقية أفراد الأسرة، وتم حل اللغز بعد كل هذه الفترة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©