الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحرية قيمة إنسانية... وليست فوضى!

18 فبراير 2012
جاء في "لسان العرب" لابن منظور في معنى الحر والحرية: "والحر بالضم نقيض العبد، والجمع أحرار وحرار… والحرة: نقيض الأمة، والجمع حرائر. والحر من الناس أخيارهم وأفضلهم، وحرية العرب: أشرافهم، والحرة الكريمة من النساء، والحر يعني أيضاً الفعل الحسن، يقال: ما هذا منك بحر، أي بحسن ولا جميل». ويقابل مفهوم الحر العبد، وهو الإنسان المملوك، أي الذي لا يملك قرار ذاته.. هذا في المعنى اللغوي. وبالمعنى الفكري، يتحدث كثير من المفكرين عن وجود لونين من الحرية، وهما: الحرية الطبيعية، والحرية الاجتماعية. فالحرية الطبيعية هي تلك الحرية الوجودية التي يمنحها الخالق سبحانه وتعالى. والحرية الاجتماعية هي الحرية التي يمنحها النظام السياسي والاجتماعي القائم على منظومة أفكار ومعتقدات محددة، وبحيث يكفلها المجتمع -بكل مؤسساته وهيئاته وإداراته- لأفراده أجمعين من حرية الفكر والتعبير والتنظيم، إلى حرية المعتقد والنقد والإعلام الحر… الخ. ولكل من الحرية الطبيعية والأخرى الاجتماعية، طابعها الخاص. والحرية الطبيعية تشكل عنصراً جوهريّاً في داخل كيان وذات الإنسان نفسه، ويمكن القول إنها ظاهرة أساسية تشترك فيها الكائنات الحية بدرجات مختلفة، تبعاً لمدى حيويتها ووعيها. ولذلك كان نصيب الإنسان من هذه الحرية أوفر من نصيب أي كائن حي آخر، وهكذا كلما ازداد حظ الكائن من الحياة والوعي، أي كلما ارتفع وجوده وكماله الممكن، عظم نصيبه من الحرية الطبيعية.. وهذه الحرية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان كأعلى الموجودات على هذه الأرض التي استخلف فيها، هي التي تعتبر بحق أحد المقومات الجوهرية للإنسانية ككل، لأنها تعبير عن الطاقة الحيوية فيها. فالإنسانية بدون هذه الحرية لا قيمة لها، ولا تعدو أن تكون أكثر من لفظ دون معنى، بحسب رأي كثير من المفكرين والفلاسفة. ولا غرو أن الحرية جبلت مع فطرة الإنسان ذاته، أي مع كينونته الفطرية، ولكنها تخلق طبيعية بسيطة غير معقدة، وسرعان ما تتصاعد وتتكامل في حركة الوجود مع تكامل وتطور وسيرورة حركية الإنسان في مسيرته الحياتية لتتحول من حال إلى آخر، بحيث يكون أساسها الوعي والمسؤولية والالتزام المجتمعي والانضباط والوقوف عند حريات الآخرين وعدم التعدي عليها، أو بعبارة أوضح فالحرية الحقيقية هي الحرية المسؤولة التي تحترم حريات الغير، وتلتزم بالشرائع والقوانين النافذة والأخلاق العامة. ولما جاءت الحداثة بعد عصور الأنوار والتنوير، وتحررت المجتمعات البشرية من قيود بعض المطلقات وبعض أنماط التفكير الحتمي القديم ذي الأفق الضيق، ومع انطلاقة عصر العقل على مستوى إثبات قدرته على بناء الحياة البشرية من موقع التفكير والفعل الإنساني الحر المباشر، برزت الحرية كأحد أهم مقومات هذه الحركة التنويرية العقلانية والحداثة العملية التي منعت وجود أي رقيب على العقل إلا العقل نفسه، ودمجت العقل في ثالوث يقوم على العقلانية، الحرية، والعدل السياسي الاجتماعي، وإعلان حرية وتحرير التاريخ والإنسانية من بعض الأفكار الخاطئة والتأويلات المتعددة والمختلفة والمتناقضة أيضاً التي راجت في القرون الوسطى الأوروبية. ومن هنا، كانت الحرية هي القاعدة الأساس لمجمل منظومة حركة التطور والتنوير والحداثة العلمية وغير العلمية التي برزت لدى كثير من المجتمعات والأمم والحضارات في العصر الحديث. ولكن الحرية كقيمة إنسانية، وحيث إنها أسهمت في إغناء مسيرة الإنسان وتطوير مواقعه المختلفة في الحياة، لم تكن -ولا يمكن أن تكون في أي وقت من الأوقات- قيمة منفلتة، لا ضابط أو رادع لها، وخاصة عندما تلتزم هذه الحرية بقيد الحرية نفسه.. لتصبح حرية مسؤولة، سقفها العمل والبناء والتطوير وخدمة الناس والمجتمع، والمساهمة التشاركية في تطوير الدول، والالتزام بقضايا الناس والوطن، والالتزام بالنقد الحر الموضوعي البناء بهدف البناء الواعي والتطوير الدائم ومراكمة النتائج الإيجابية بعد نقد السلبيات وتلافي الأخطاء الواقعة والقائمة في أي مجتمع ونظام وحضارة. ولهذا: فإن الحرية الحقيقية الطبيعية أو التي يتيحها أي نظام اجتماعي سياسي لأفراده ليست شعاراً يمكن إطلاقه بسهولة للاستهلاك الدعائي كيفما اتفق.. بل هي ممارسة مؤسساتية قائمة على التزام أخلاقي تضمنه قوانين ونظم مؤسساتية في الدول، ولهذا فلا حرية حقيقية إلا مع وجود دولة حقيقية وعادلة. ولا حرية إلا بأن نكون أحراراً من الداخل لا أن نكون تابعين في تفكيرنا. وأن نكون أحراراً بإرادتنا وقناعاتنا أولاً.. وأن نكون مع الإصلاح الرشيد الهادئ العقلاني المؤسساتي. والحرية لا تعنى أيضاً الانفلات السياسي ولا الغرائزي الفتنوي، إنها قبل كل شيء مسؤوليتك في أن يكون قرارك من ذاتك من نفسك ومن قناعاتك الوطنية الرشيدة القائمة على محبة الوطن والعلم والوعي.. ولذا فإن للحرية إذن، حدوداً وضوابط تتركز أساساً على عدم الاعتداء على حريات الآخرين، وعدم إثارة مشاعرهم ومقدساتهم، وتقصّد الإساءة إلى قناعاتهم ومعتقداتهم بقطع النظر عن صحتها وأحقيتها وفاعليتها الحضارية. نبيل علي صالح - كاتب سوري ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©