السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تعالقات في البنى السردية والواقع والشخصيات

تعالقات في البنى السردية والواقع والشخصيات
14 مايو 2009 00:51
الحديث عن الأنساق السردية يقود بالضرورة للحديث عن الزمن في القص، بما يعني أن النسق السردي وجه من وجوه السرد المحكوم بالتلاعب الزمني في الحكاية. ما يهمني هنا مناقشة نسق التناوب - على اختلاف تعدد الأنساق - الذي يجمع قولين أو حكايتين تتناوبان السرد في إطار حكاية كبرى وأخرى صغرى.. ويتعالق هذا النظام السردي مع التضمين كونه زرق نص في نص آخر، ومن الطبيعي في التناوب أن يبتدئ النص بالقصة الكبرى كونها إطاراً أصلياً، وتأتي الحكاية الصغرى المتناوبة لتعطي دلالة إضافية أو تنويرية تغني الحدث الأصل. وحين نرمز للحكاية الكبرى رقمياً والصغرى حروفياً يكون التناوب بهذا النظام 1 أ 2 ب 3 ج 4 د. أما انتهاء النص فيحدد بحسب طبيعة بنية الموضوعة وعليه يصبح القفل إما بالحكاية الكبرى أو بالصغرى على السواء. السرود لا حصر لها، بحسب بارت، تنشئ أنظمتها الخاصة، وتتداخل مع بعضها ضمن إطار من الصعب فصله، إلا أن الطبيعة الجمالية للنظام السردي تتأتى من قدرته عى كسر تعاقبية الزمن في الحكاية، حيث لم يعد الزمن التعاقبي - الكورنولوجي - مغرياً في الإبداع الحكائي، إذ إن اجتراح أنساق جديدة هو ما يرتقي بأدبية الأدب. في هذا الإطار قرأت مجموعة قصصية مثيرة لقاصة تصدر نصوصها لأول مرة بعنوان «منينة» وهي مريم ناصر عن مشروع قلم التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث. ضمت المجموعة 5 قصص تراوحت أطوالها بين القصة والقصة القصيرة وهي «ثمالة» و»قهوة ملائكة» و»منينة» و»الرجل الذي يشتهي كل النساء ولا يشتهيه أحد» و»أنثى سرير». حين قرأت المجموعة كان ما يشغلني فيها قصتان وهما «ثمالة» و»منينة».. أما منينة فلأنها أولاً صعدت إلى عنوان المجموعة بأكملها هذا بالإضافة إلى أنها تحفل بنسق سردي تناوبي استخدم بشكل غير تقليدي أو نمطي، مع الاحتفاظ بنسق التضمين وقد لعبت القاصة على نسقين معاً. أما قصة «ثمالة» فلأنها القصة الأطول أولاً أي أن هيكلها السردي يقرب إلى القصة الطويلة(66) صفحة لها من (166) صفحة للمجموعة كلها ولأنها قدمت نموذجاً - عبر شخصية بطلتها - مركباً كشفت من خلاله جانباً من بنية نفسية واجتماعية تعيشها البطلة «نادية». في قصة «منينة» نقرأ حكاية صغرى ترويها الامرأة العجوز «منينة» لأطفال الحي ومن ضمنهم «نادية» الساردة للحكاية الكبرى المتعاقبة فيما بعد. الحكاية الصغرى تسرد قصة رجل ظالم عائد من القنص يرى خلال عودته جسد أنثى بثوب أخضر. لم تعره تلك المرأة اهتماماً فانكسرت كرامته، كونه الرجل الأهم في المنطقة تلك، ذلك هو مهيّر». ينقطع السرد في الحكاية الصغرى لتدخل الحكاية الكبرى عن علاقة علياء الطفلة الساردة بالجدة «منينة» الراوية. تلك هي «منينة» العجوز ذات الوجه الأسمر المغطى بالبرقع الكبير الذي لا يظهر إلا عينيها الضيقتين، لا أذكر أني رأيت وجهها دون هذا البرقع أبداً، حتى وهي تأكل وهي تشرب فنجان قهوتها الذي لا يفارقها، كانت مثل اللص الذي يختلس لقمته ويرشف ببراعة ولا يلحقه أحد». عند انتهاء هذا المشهد الأول تنتهي فترة زمنية كاملة من حياة الطفلة «علياء» ويحصل انقطاع تام على مستوى الحكاية الصغرى التي لم تكتمل والحكاية الكبرى التي تتطور أيضاً» أي أن النص في مقدمته يصبح «1، أ، 2» أما الـ (1) فهو رمز ابتداء القصة الكبرى بجملة «وفي مرة من المرات يا عيالي». وهو حاضر القص على لسان علياء. و»أ» وهو رمز الحكاية الصغرى الذي يبدأ بجملة «كان هذا الرجل الظالم» وينتهي بـ «لحظتها عرف الجميع أن عليهم الرضوخ له، ولم يتكلم بعدها أحد» في حين أن «2» هو إكمال للحكاية الكبرى في جزئها الأول ويبتدئ من «- عليا، عليا، ياله نروج للبيت» وينتهي عند «ويرشف ببراعة ولا يلحظه أحد». ما تقدم جميعة رصد في زمن الطفولة، وانقطع التواصل في القصتين على مستوى الواقع «منينة» بانتقالها الى بيت جديد وبعيد عن الحي مع ابنها وعائلته. تقول الساردة: «منينة منذ انتقلت لم أرها الا مرتين خلال سنوات عدة». ثم تضيف: «شعرت بقسوة فراقها ومثلي شعر أخوتي الصغار». وبعد زمن طويل وانقطاع امتد لسنوات بعيدة تقول الساردة علياء في الحكاية الكبرى: في الطريق تساءلت، هل ستعرفني؟ هل بقي في ملامحي ما قد يذكرها بعليا «الشقية». ويستمر سرد علياء حتى تصل إلى منزل ابن منينة وتواجهها بجفاء زوجة ابنها ووصفها للعجوز بأنها غير قادرة على التذكر ولكن المفاجأة أن المرأة العجوز تدهش وتسمي الأشياء بمسمياتها حيث تستقبل عليآء بحفاوة في غرفتها الضيقة التي لا نافذة فيها، ولا خزانة ملابس فقط فراش مهترئ. هنا لا نزال عند السرد التناوبي حيث تستدعي علياء ذاكرة منينة لرواية الحكاية الصغرى. التي تتواصل بزواج مهير من صاحبة الثوب الأخضر، حسن الحكاية تتمخض عن زواج مهير من امرأة مملوكة لرجل آخر، ولأن القرية ساخطة على هذا الزواج، يهاجر مهيّر إلى مدينة أخرى، ويرزق بأطفال ثلاثة، كان أقل ما لديهم هو العقوق لها، بعد وفاة مهير، ويتضح أن «منينة» هي ذاتها المرأة صاحبة الثوب الأخضر بعد انتهاء قص الحكاية الصغرى لتنتهي القصة بالحكاية الكبرى التي تعلن فيها موت منينة. لاحظنا فعلاً أن اندماج الشخصيتين وهما منينة بالفتاة ذات الثوب الأخضر، وكأن الشخصية تلعب دورين في الحكاية الأصل «المتخيلة» وفي الحكاية الواقعية، مما جعل التطابق النهائي بينهما ينحو منحى امتزاج النظام السردي التناوبي أي 1، أ، 2، ب، 3، ج، ج، بمعنى آخر أن لا حكاية متخيلة داخل النص بل هي حكاية منينة ومهير ومنينة وعلياء، وما دامت منينة كشخصية واقعية تلعب دوراً في كلتا الحكايتين، إذاً لا وجود للتخيل أصلاً. أي أن القاصة سردت نصين واقعيين، حاولت من خلال الأول إعطاء مسحة تخيلية، مما أوحت بأن الحكايتين مختلفتين ولكن سرعان ما اكتشفنا أو كشفت لنا أن الحكايتين متطابقتان. لذا فإن نسق التناوب جاء بفعل انشطار قصة واحدة إلى قصتين، وكأننا أمام شخصية تروي قصتها، أي «منينة» تسرد حكايتها وأمام شخصية (2) تروي حكايتها مع الشخصية (1) وهي علياء تسرد عن علاقتها بمنينة، من هنا تخلق نسق التناوب. في قصة «ثمالة» اعتمدت القاصة مريم ناصر قراءة نفسية لبطلتها «نادية» التي عانت إشكالية حلمين حلمت بهما. الأول كأنها تغرق في بحر والثاني كأن شخصاً يمسك بزجاجة في يده، ويدلق «سائلاً أصفر اللون» تفوح منه رائحة مزعجة»في فمها، كما جاء في وصفها بينما كان الرجل ذا عيون شيطانية. ويبدأ تكسير الزمن في قصتها «ثمالة» بالعودة لاسترجاع أحداث حصلت قبل زمن القص وزمن الحكاية، عن علاقة أبيها بأمها وهجره لبيتهم وزواجه من أخرى، ومعاقرته الخمرة. الأب غائب، لا وجود له ويبدو أنه هو الذي يظهر في الحلم الثاني، أما حلمها الثالث أثناء توقفها أمام إشارة المرور تقول فيه «لاشيء آخر، لا صورة أبي في ذاكرتي» فهواعتباطي لا دلالة له. يبدو النص محاولاً كشف علاقة الأب بابنته، بالرغم من ظهور شخصيات من مثل لطيفة وأمل والجدة والأم ومنصور ابن أم سعيدالذي حاول اغتصابها الا أن عقدة النص تتضح في قولها حين تخاطب ذاتها لتصف منصور: هل يشعر بالذنب؟ هل يعرف هذا الملعون أنني بسببه صرت أفضل أجساداً بلاستيكية وحشوات قطنية لتكون رفيقة طفولتي بدل الأصدقاء الحقيقيين؟ هل يعرف كم اختلفت أحلامي منذ ذلك الحين، هل يعرف كم صرت أخاف وجوه الرجال إذا لمحت ملامحه فيهم». وتمتزج الشخصيتان والدها ومنصور معاً بقولها «كنت أود أن أفهم لم حدث لي ما حدث في حياتي؟ منصور ووالدي». ولكن ما يغير كل هذه الشخصية التي تعاني من أحلام كابوسية منعكسة من علاقاتها في الواقع هو اقتراب زميلها عامر الذي حاول أن يأخذ بيدها إلى عالم أكثر عقلانية. قدمت القاصة مريم ناصر نصاً تشابكت فيه الشخوص وكلها مرصود] من عين «نادية» بالرغم من مرضها النفسي، لذا كان سردها ليس بالضرورة مقنعاً للمتلقي ونلحظ ذلك من خلال مقطعها التي تصف فيها ثقافة نادية عبر حيرتها في اختيار أي الروايات لتقرأها، أتختار عالم بلا خرائط أم زوربا أم «11دقيقة أو ذاكرة الجسد لكا من عبدالرحمن منيف ونيكول كازانتزاكيز أو كويلو أو مستغانمي، هنا نشعر أن هذا المقطع يقود إلى ثقافة «مريم ناصر» لا بطلتها «نادية». تلعب «مريم ناصر» على السرد المقطوع بالاسترجاعات الكثيرة للملمة الزمن والحكايات المتباعدة فيه، ومثلما ابتدأ النص بحلم البحر القاسي انتهى النص بحلم البحر المبهج، بين عامر وهو يقود نادية نحو شاطئ البحر كونه «المطهر» لكل الأحزان والعذابات ومن هذا المنطلق بنت «مريم ناصر» نصاً من ثنائيات ضدية وتماثلية للشخصيات عامر / منصور والأب/ الرجل في الحلم.. وهي في هذا السياق قد خلقت عالماً نفسياً يحيط بشخصية نادية حاولت من خلاله أن تكشف أشياء كثيرة في عالم الواقع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©