الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العبقرية.. سرٌّ مكنون

العبقرية.. سرٌّ مكنون
8 مارس 2018 02:24
كلوديا كالب ترجمة: أحمد حميدة من ليوناردو دافنشي إلى أينشتاين أو مايلس ديفيس، لماذا كانت بعض الأدمغة الفذّة المتفلّتة عن كلّ المعايير قادرة على تحويل وجهة تفكيرنا وتغيير رؤيتنا للعالم؟ يحاول العلم اليوم، باستكشافه ما يتمّ داخل تلك الأدمغة، الإجابة عن هذا السّؤال. سلسلة كاملة من التّحف الغريبة والنّادرة كانت معروضة في متحف «موتّر» بفيلادلفيا. في الطّابق السّفليّ، وفي وعاء بلّوريّ، كبدان موصولان، لقطّين من سيام، وغير بعيد عن ذلك، وقف الزوّار مشدوهين أمام أياد ورّمها مرض النّقرس، وكلى مليئة بالحصى، ورصاصة منزرعة في عظم فخذ جنديّ وافته المنيّة في حرب الانفصال. ولكن قرب المدخل، كانت توجد تلك العيّنة التي سوف تربك حقيقةً جمهور الزّائرين. كانت تلك العيّنة التي أسَرَتْ الجميع، مودعة في صندوق خشبيّ صغير، وتتمثّل في ستّ وأربعين صفيحة مجهر، وعلى كلّ واحدة منها مقطع رقيق من دماغ ألبير أينشتاين. وإن كانت تلك البقايا لا تنبئ بشيء ذي أهميّة عن الملَكات الفكريّة الخارقة لهذا العالم الفيزيائي، فإنّها أشاعت في الحضور رغم ذلك، حالة من التهيّب والانبهار. وفي أنحاء أخرى من القاعة، احتوت صناديق العرض على نماذج لأفراد صعقهم الموت بفعل أمراض مستعصية أو نتيجة أخطاء طبّية. وكان دماغ أينشتاين يبدو وحده متفرّداً في هذا المشهد، إذ كان رمزاً لفكر شامخ، راسخ، تجاوز بعبقريّته كلّ المعايير المتعارفة. «إنّه كان يرى ما لا نرى» قالت إحدى الزّائرات، وعيناها مثبّتتان على أحد المقاطع الدّماغيّة. ثمّ أردفت قائلة: «لذلك كان هذا الفيزيائيّ الاستثنائيّ قادراً على القيام باستنتاجات مذهلة، كشفت عن المتخفّي في العالم اللاّمرئيّ، حقّا.. إنّ هذا الأمر لغاية في الرّوعة». أينشتاين.. شموخ العبقرية إن أينشتاين هو أبلغ تجسيد للعبقريّة في تاريخنا الحديث. لنتأمّل مثلًا تأثيره في الفيزياء. فالرّجل، بلا أداة أخرى غير طاقته الفكريّة، كان قد توقّع في نظريّته العامّة عن الجاذبيّة، أنّ الأجسام السّماويّة المتناهية في الكبر، تسري فيها حركة متسارعة (ثقبان أسودان يطوف أحدهما حول الآخر مثلًا)، تولّد تحرُّفاً في الزّمكان. وكان لابدّ من أن يمضي قرن بأكمله، وثورة إعلاميّة هائلة، واكتشاف تقنيات بالغة الدقّة، حتّى يتمّ التأكّد بصورة قطعيّة ممّا ذهب إليه أينشتاين، إذ لم يقدّم العلم الحديث الدّليل على حقيقة الأمواج التّجاذبيّة، إلاّ منذ أقلّ من سنتين. أن نتنبّأ باللاّمرئيّ تنبّأ أينشتاين بالتّفكير وحده بوجود موجات تجاذبيّة، وتموّجات في النسيج الزّمكاني. بعد ذلك بقرن، اكتشف علماء مثل كزوهيرو يماموتو تلك الحقيقة بواسطة مكشاف تحت أرضي، في اليابان.لقد أربك أينشتاين فهمنا للقوانين التي تحكم الكون، ولكنّنا لا نزال نحن نجهل على وجه الدقّة كيف كان يشتغل عقل مثل عقله، فكيف أوتي أينشتاين هذه الملكات التي أتاحت له مثل تلك التمشّيات الذّهنيّة المذهلة؟ وما الذي جعل منه شخصيّة نسيجَ وحْدِها بين نظرائه من العلماء، وذلك بقطع النّظر عن درجة إشعاع هؤلاء وأولئك؟ وقد يقودنا ذلك إلى تساؤل ملحاح: ما الذي قد يميّز الإنسان العبقريّ عن غيره من النّاس؟ أصل العبقرية تأمّل الفلاسفة طويلاً في أصل العبقريّة، فرأى فلاسفة الإغريق قديماً أنّها تعود إلى غزارة المَرَار الأسود (وهو أحد الأمزجة الجسديّة حسب هيبوقراط)، ويرى المؤرّخ دارين ماك ماهون في كتابه «سخط إلهيّ: تاريخ العبقريّة»، أنّ تلك المادة هي سبب تألّق الشّعراء والفلاسفة، والعقول المتفوّقة الأخرى التي أوتيت قدرات ذهنيّة خارقة. وقد حاول العارفون بأسرار التبصّر والفراسة من ناحيتهم، العثور على مكمن العبقريّة في تحدّبات الجبهة، فيما عمد الدارسون لأحجام الأدمغة، إلى فحص وقياس ووزن تلك الأدمغة، ومنها دماغ كانط، غير أنّه لا أحد منهم استطاع العثور على سبب أوحد للعبقريّة، وإنّه لمن المرجّح أن يظلّ الأمر دوماً كذلك. فالعبقريّة كظاهرة استثنائيّة، تظلّ متملّصة وغير قابلة للحجز، لأنّها تلامس في الإنسان.. جوهره، وكيما يكون تعريفها أمراً يسيراً، فإنّها ترتهن لحكم التاريخ. وفضلاً عن ذلك، وحتى لا نجعلها مقتصرة على خاصّيّة واحدة بمفردها، فهي تفترض الإحاطة بملكات كثيرة. فيكون من الأجدى حينئذ فهمها بفكّ التشابك بين عناصر مختلفة، مثل الذكاء والقدرة على الخلق والإبداع والثبات في البحث.. أو ربّما.. مجرّد قدَرٍ يسير من الحظ (حتّى لا نذكر غير بعضها)، وهي عناصر متداخلة في تركيبة الإنسان المتفوّق، الذي يكون قادراً على تغيير العالم. العبقرية والذكاء أحياناً اعتبر الذكاء معيار تقييمٍ للعبقريّة، وهي الوظيفة التي غدت اليوم قابلة للقياس. وكان لويس ترمان، عالم النفس بجامعة ستانفورد، الذي قام بالاختبارات الأولى لحاصل الذكاء عند الإنسان، يعتقد أنّه بإمكان مثل تلك الاختبارات الكشف أيضاً عن بعض أسرار العبقريّة. ففي العشرينات من القرن الماضي، قام ترمان بمتابعة 1500 تلميذ في كاليفورنيا ليتبيّـن أيهم يحظى بحاصل ذهنيّ يفوق مستواه 120، وهو الحدّ الذي يسمح بتقدير إن كان الإنسان عبقريّاً أو في وضع قريب من العبقريّة. وقد انشغل هذا الباحث بمعرفة سلوكات أولئك الأطفال وما كان يميّز بعضهم عن البعض الآخر. واستمرت المتابعة طيلة حياتهم، لتوثَّق جميع الملاحظات بشأنها، في تقارير دقيقة. ومن تلك المجموعة التي كانت موضوع الدّراسة، غدا البعض أعضاء في أكاديميّة العلوم وأصبح بعضهم الآخر سياسيّين مرموقين وأطبّاء وأساتذة وموسيقيّين موهوبين. وفي الجملة، وبعد مضيّ أربعين سنة على بداية تلك المتابعة، نشر هؤلاء آلاف الدّراسات والكتب، وأودعوا 350 براءة اختراع، وألّفوا قرابة 400 رواية. غير أنّ الذكاء الاستثنائيّ لا يضمن وحده تحقيق نجاحات استثنائيّة، هذا.. ما انتهى إليه ترمان ونظراؤه من الباحثين. فبعض العناصر التي كانت محلّ المتابعة، كانت قد بلغت الجهد لتحقيق النّجاح، وذلك رغم ما كانت تحظى به من ذكاء غير عاديّ، فيما أنّ البعض الآخر كان مآلهم الرّسوب في امتحاناتهم الجامعيّة، وآخرين ممّن أوصدت أمامهم أبواب الدّراسة لعدم توفّرهم على حاصل ذهنيّ مرتفع، حقّقوا نجاحات باهرة في مجالاتهم. بل إنّ اثنين منهم حازا جائزة نوبل للفيزياء. وثمّة في هذا الصّدد حالات سابقة، فكان يحلو لشارلز داروين مثلًا التّذكير بأنّه كان يُنظر إليه على أنّه «طفل ذو ذكاء عاديّ، بل إنّ ذكاءه كان يعدّ أدنى من المتوسّط»، هذا الّذي حين غدا راشداً، تحدث عن أسرار التطوّر! إنّ نظريّة داروين عن التطوّر والانتخاب الطّبيعي، لم تكن لتتبلور لولا الذكاء الخارق الذي أوتيه هذا الرّجل، وهو الذكاء الذي لم يكن بوسع ترمان قياسه. ويوضّح راكس يونغ، الأخصّائيّ في علم الأعصاب، أنّ التمشّي الإبداعي ينجم عن تفاعل ديناميّ بين شبكات الخلايا العصبيّة التي تعمل في تناغم، وتنشط سويّاً، انطلاقاً من زوايا مختلفة للدّماغ، بين نصفيه الأيمن والأيسر، وبشكل خاصّ في زوايا محدّدة من اللّحاء الدّماغي الواقع داخل عظم الجبهة الأماميّة. وتُمكّن إحدى تلك الشّبكات من الاستجابة للطّلبات الخارجيّة (الأنشطة التي نكون مطالبين بها مثل الذّهاب إلى العمل أو دفع الضّرائب)، وتحتلّ حيّزاً مهمّاً من الزّوايا الخارجيّة للدّماغ. وثمّة شبكة أخرى تؤثّر في التمشّيات الباطنيّة مثل التّفكير والحلم والخيال، وتوجد بصورة رئيسة في الجزء الأوسط من الدّماغ. إنّ الارتجال في مجال الجاز لمثال لافت يبرز الطّريقة التي تتفاعل وفقها الخلايا العصبيّة خلال مثل هذا النّوع من التمشّيات الإبداعيّة. لقد صمّم شارل ليمب الأخصّائيّ في الجهاز السّمعي بجامعة سان فرانسيسكو في كاليفورنيا، لوحة مفاتيح لآلة بيانو، هي على قدر من الصّغر، يسمح بالعزف عليها داخل جهاز تصوير بالذّبذبات المغناطيسيّة «إي.آر.آم»، ثمّ طلب من ستّة عازفين على البيانو جاز، عزف السلّم الموسيقي ومقطوعة موسيقيّة يحفظونها، ثمّ بعد ذلك الارتجال على إيقاع موسيقى جاز ينجزها تخت رباعيّ. فتبيّن أنّ الصّور التي قامت الآلة بتصويرها جاءت مختلفة بشكل جوهريّ، بمجرّد أن شرع الموسيقيّون في الارتجال. كما تبيّن أنّه أثناء الارتجال، كانت شبكة الخلايا العصبيّة الدّاخليّة أكثر نشاطاً ممّا هو مألوف، فيما كان نشاط الخلايا الخارجيّة، المرتبطة بالانتباه والرّقابة الذّاتيّة، دون نشاط الخلايا الدّاخليّة.. فكما لو أنّ الدّماغ قد يتوقّف عن رقابته الذّاتيّة.. ذلك هو الاستنتاج الذي خلص إليه شارل ليمب. وقد يجعلنا ذلك نفهم عل نحو أفضل الحفلات الرّائعة لعازف البيانو كيث جارّيت، الذي بوسعه الارتجال لمدّة ساعتين متتاليتين. ولئن كان كيث جارّيت ذاته لا يدري كيف تتأتّى له مثل تلك القدرة على الارتجال، فهو مع ذلك، وبمجرّد أن يجلس للعزف أمام الجمهور، تنبعث النّغمات من تحت أنامله فيضاً من الأحاسيس الرخيمة.. الآسرة، وقد أسرّ لي قائلًا: «حين أجلس أمام البيانو، أذهل عن كلّ ما حولي، وأغدو رهن قّوّة غريبة تستحثّني على العزف، ولا أملك غير مبادلتها مشاعر الامتنان». ويستذكر جارّيت خاصّة حفلًا أقامه بميونيخ، يومها.. أحسّ كما لو أن النّغمات الحادّة للبيانو قد أذهلته تماماً عن نفسه. فنَفَسُهُ الإبداعيّ الذي غذّته عشرات السّنين من السّماع ومن العمل على التّناغميّة، لم تكن له إشراقة موسيقاه حين كان يطلق العنان لنبضه الباطنيّ ويسلم نفسه لوحي اللّحظة وإلهامها. التواصل في «الرؤوس الكبيرة» وتمثّل القدرة على إقامة جسور تواصل بين مفاهيم تبدو في ظاهرها مختلفة، إحدى تجلّيات الفكر المبدع. ولعلّ التبادلات الأكثر ثراء بين أجزاء الدّماغ هي التي تثير مثل تلك التوثّبات الحدسيّة. وقد قام أندرو نيوبارغ، البحّاثة في جامعة توماس جيفرسون بجامعة فيلادلفيا، باستخدام جهاز الـ«إي. آر. آم»، لرسم خرائط للدّورة الكهربائيّة للخلايا العصبيّة في أدمغة أشخاص مبدعين، وأخضع هؤلاء إلى اختبارات لتحسّس درجة الإبداع لديهم، ثمّ طلب منهم العثور على استخدام مبتكر لأشياء عاديّة مثل فرشاة أسنان. وقارن نيوبارغ شبكات الوصل لدى «الرّؤوس الكبيرة» بمجموعة شاهدة، حتّى يتبيّن إن كانت الأجزاء الدّماغيّة لدى أفراد المجموعتين تتفاعل أم لا، وإن كان ذلك يتمّ بنفس الطّريقة. وكان الهدف النّهائيّ، هو القيام بعمليّة مسحٍ لخمسة وعشرين شخصاً من كلّ مجموعة، وأن يتمّ داخل كلّ مجموعة، تبيّـن إن كانت ثمّة أوجه تماثل أو تباين محتملة، قد تتكشّف وفقاً لمجالات عمل هؤلاء الأشخاص. فهل تكون بعض الزّوايا من الدّماغ مثلًا أكثر نشاطاً لدى ممثّلٍ منها لدى عالم نفس؟ وكانت المقارنة الأوّليّة بين «العبقريّ» (ويستخدم أندرو نيوبارغ هذه المفردة للتّمييز بين المشاركين في كلتا المجموعتين) والإنسان العاديّ قد كشفت عن تباين مذهل. لقد بيّنت صور الدّماغ أنّ المادّة البيضاء (وهي مادّة تسمح بنقل المعلومات على شكل إشارات كهربائيّة) تخترقها أشرطة حمراء وخضراء وزرقاء. وعلى كلّ صورة، بقعة حمراء تجسّد الجسم الخشن (كومة من مائتي مليون من الألياف العصبيّة التي تصلُ نصفي الدّماغ). ويوضّح أندرو نيوبارغ أنّه كلّما ازداد احمرار تلك البقعة، كلّما دلّ ذلك على تزايد عدد الألياف العصبيّة. وكان الاختلاف شديد الوضوح، إذ كان الجزء الأحمر من الدّماغ (العبقريّ ) أكثر انبساطاً بمقدار مرّتين ممّا كان عليه في دماغ الإنسان العاديّ. وخلص نيوبارغ إلى القول: «ويعني ذلك أنّ التبادل بين نصفي الدّماغ هو أكثر كثافة لدى العبقريّ منه لدى الإنسان العاديّ، وتلك خاصيّة كنّا نتوقّع وجودها لدى الأشخاص المبدعين.. البالغي الذّكاء. فنحن نلاحظ مرونة أكبر في تمشّياتهم الفكريّة، وإسهامات أوفر انطلاقاً من الزّوايا المختلفة للدّماغ». أثر الوراثة ويرى عالم النّفس دارولد تريفّارت أنّ مثل تلك الملكات تفسَّرُ باتّصال استثنائيّ بين نصفي الدّماغ، الأيمن والأيسر. وتكشف الأشرطة الخضراء أو الزّرقاء عن مناطق وصل تتحرّك من الأمام إلى الخلف (ومنها منطقة الحوار)، في الأجزاء الأماميّة أو الدّاخليّة أو الصّدغيّة للدّماغ. ويأمل نيوبارغ أن تمنحنا هذه الأخيرة المزيد من المعلومات الدّقيقة: «لا زلت أجهل ما سوف نكتشفه في القادم من الأيّام، ولكن ما توصّلنا إليه هو فحسب قطعة من اللّغز». وفيما يحاول العلماء فهم أسباب التغيّرات الطّارئة على المفاهيم المرجعيّة في الدّماغ أثناء التمشّيات الذّهنيّة، يتساءل آخرون عن لحظة تطوّر تلك الملكة الدّقيقة، وانطلاقاً من ماذا يتمّ ذلك التطوّر. فهل تكون العبقريّة نتاج ملكات فطريّة، أم تكون تلك الملكات مكتسبة؟ كان فرنسيس غالتون، ابن عمّ داروين، يعارض ما كان يسمّيه «الادّعاءات بوجود مساواة طبيعيّة»، معتبراً أنّ العبقريّة تنتقل بالوراثة، وحتّى يثبت ذلك، قام ببناء شجرة عائليّة لمجموعة من الشّخصيّات الأوروبيّة المرموقة، منتمية إلى مجالات إبداعيّة مختلفة، من موزارت إلى هايدن وبايرون، ومن تيتوس إلى شوسر وبونبارت. وفي سنة 1869 نشر نتائج بحوثه في «العبقريّة الوراثيّة»، كتاب سوف يغذّي الجدل حول «الطّبيعة المضادّة للثّقافة»، الذي سيسمح ببروز منهاج علميّ مزعوم، عرف بعلم النّسابة. لقد غدا من الممكن اليوم، وبفضل علم الوراثة، دراسة خصائص الكائن البشريّ بمقاييس جزيئيّة. وفي العقود الأخيرة، حاول العلماء العثور على الجينات المرتبطة بالذّكاء والسّلوك وبمنن كثيرة أخرى. على أنّ البحث في موضوع الذّكاء كان يثير تساؤلات أخلاقيّة على علاقة بالأسلوب الذي يمكن وفقه استعمالها. وهي فضلًا عن ذلك على درجة قصوى من التّعقيد، لأنّ آلاف الجينات تتدخّل، ولكلّ منها تأثير طفيف في هذا السّياق. حاضنات العبقرية وماذا عن المهارات الأخرى مثل رهافة السّمع؟ هل تكون تلك المهارات منناً موهوبة بشكل طبيعيّ؟ لقد اعتُبر عدد غير قليل من الموسيقيّين المعروفين، مثل موزارت أو إيلاّ فيتزجيرالد مثلًا، أنّهم يمتلكون الأذن المطلقة، أذن تكون قد لعبت دوراً مهمّاً في نجاحهم الموسيقيّ الباهر. غير أنّ الطّاقة الوراثيّة الكامنة في الإنسان، لا تعدّ وحدها ضماناً للنّجاح. وأن نغدو عباقرة، فإنّ ذلك يفترض أيضاً أن نجدّ في التعلّم، وقد توفّر المؤثّرات الاجتماعيّة والثّقافيّة الوقود والدّافعيّة الضّروريّة لتحقيق ذلك. هكذا برزت في أماكن وفي أزمنة مختلفة، «حاضنات» للعبقريّة، مثل بغداد في الزّمن الذّهبيّ للحضارة الإسلاميّة، كلكوتّا زمن نهضة البنغال، والسّيليكون فالي في أيّامنا هذه. وقد يجد فكر متعطّش إلى المعرفة التّحفيز الذي يحتاجه كي يبدع وهو داخل بيته. فتيرانس تاوو، الذي يعدّ من أعظم علماء الرّياضيّات الأحياء، يقيم بضاحية أديلاييد بأستراليا. كان وهو لا يزال صبيّاً، يمتلك قدرات فائقة للتّلاعب بالكلمات وبالأرقام. وقد حرص والداه على إحاطته بكلّ ما قد يساعده على بلورة مواهبه، فوفّرا له الكتب واللّعب والألعاب، وحفزاه على أن يتعلّم بنفسه. ويرى والده بيلّي أنّ ذلك ساعده إلى حدّ كبير على تنمية قدراته الإبداعيّة ومضاعفة طاقته على حلّ المشاكل. وحين أتمّ تيرانس دورته الدّراسيّة الابتدائيّة وهو دون السّابعة، وفّر له والداه بيلّي وزوجته غريس، أفضل الأساتذة لمرافقته، فساهم هؤلاء في تنمية قدراته العقليّة وتحفيزها. لقد تمّ ترسيمه في المدرسة الإعداديّة وهو في سنّ السّابعة، واعتلى مدرج الجامعة وهو في سنّ الثّالثة عشرة، ليصبح أستاذاً بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس ولم تتجاوز سنّه الواحدة والعشرين. وقد أكّدت سيرة تيرنس أنّ المواهب الفطريّة هامّة للنّجاح، ولكنّ طريقة رعايتها وتنميتها هي الأهمّ. وفي غياب الحافز والمثابرة، فإنّ الصّفات الذّاتيّة وتوفّر الوسط الملائم، لا يضمنان بالضّرورة انبثاق العبقريّة. إنّ تلك الصّفات التي دفعت داروين إلى صياغة نطريّته عن التطوّر طيلة عشرين سنة، والعالم الرّياضيّ الهنديّ سرينيفاسا رمانوجان إلى تصفيف آلاف المعادلات، شكّلا أساس عمل أنْجيلاَ دوكوورث، الأستاذة في علم النّفس بجامعة بنسيلفانيا. وقد استخلصت من بحوثها أنّ الشّغف والمثابرة هما مفاتيح النّجاح. وأنجيلا دوكوورث، المكرّمة من مؤسّسة ماك أرتور، تعتبر هي ذاتها «عبقريّة». وقد اعترفت هذه الأخيرة أنّ احتماليّة الإبداع لا تكون في البداية متساوية بين عموم النّاس، وأنّه مَهْما كانت درجة التفوّق التي قد يدركها الفرد، يظلّ الإصرار والانضباط لا محالة، ضروريّان لتحقيق النّجاح. ثمّ إنّ هذا النجاح لا يتأتّى من الوهلة الأولى، مثلما يؤكّد ذلك كيث سيمونتون الأستاذ الشّرفي في جامعة كاليفورنيا، فللوصول إلى نتيجة ما، تكون القاعدة الأولى في نظره، هي «الإنتاجيّة»، لأنّ النّجاحات الكبرى لا تتحقّق إلاّ بعد محاولات مضنية ومتكرّرة. فتوماس أديسون الذي اشتهر باكتشافه الفونوغراف وأوّل فانوس كهربائي قابل للتّرويج، كان قد قدّم ألف مطلب للحصول أخيراً على براءة اختراع. وأحياناً ما تكون مجرّد مصادفة تجتمع فيها الموهبة بوضعيّة ملائمة، كافية كي تترجم العبقريّة عن مكنوناتها. وإن كان هنالك من أحد جسّد مفهوم العبقريّة في تجلّياتها المختلفة، وباعتبارها مجموعة مواهب اندمغت منجزاتها في ذاكرة العباد، فهو بلا شك ليوناردو دافنشي. دافنشي.. تجسيد باذخ للعبقريّة ولد ليوناردو دافنشي سنة 1452، وقضّى السّنوات الأولى من عمره في بيت ريفيّ مُقامٍ من الحجارة، وسط غرسات زيتون تتدرّج على سفح وادي أرنو، تحت سماء غائمة تنمّشها الزّرقة. كانت بداياته متواضعة، ولكنّها أفصحت عن قدراته الفكريّة والفنيّة الخارقة، إذ كشفت رؤاه الفنيّة ومعرفته المعمّقة ببنية جسم الإنسان وبصيرته النّافذة، عن مهارات استثنائيّة لا نظير لها. وقد انفسحت أمامه طريق العبقريّة حين كان لا يزال مراهقاً، وهو في طور التّدرب لدى المعلّم أندريا دال فروشّيو بفلورنسا. وبلغت طاقته الإبداعيّة درجة من العلوّ، جعلته على مدى سنواته الطّوال، يدوّن آلاف الدّفاتر التي تضمّنت ملاحظاته، دراساته وتخطيطاته المتّصلة بعلم البصريّات وبمشاريع اختراعات، ومنها تخطيطه لجسر متحرّك ولآلة طيّارة. ورغم التحدّيات التي كانت تصادفه، كان لا يني يبحث ولا يستسلم. ونذكر في هذا السّياق قوله: «أنَّى للعراقيل أن تثنيني. من كانت تحدوه نجمة في السّماء، ليس بوسعه أن يلتفت إلى الوراء». ومن حسن الطّالع أنّه عاش في مدينة فلورنسا زمن النّهضة الإيطاليّة، التي كانت الفنون فيها تحظى بدعم وتشجيع الأثرياء للمبدعين، وفي فترة شهدت خلالها فلورنسا تنافساً خلاّقاً بين مبدعين كبار أمثال مايكل أنجيلو ورفائيل. كان يحلو لليوناردو تصوّر ما كان يبدو محالًا، ووفقاً لكلمات قالها عنه شوبنهاور: «كان يريد إدراك هدف يتعذّر على أيّ كان رؤيته». واليوم، تشكّلت مجموعة من البحّاثة والدّارسين من أنحاء كثيرة من العالم، تعمل على تحقيق مهمّة مماثلة، يبدو موضوع أشغالها، وعلى غرار أعمال دافنشي، متملّصاً وغير قابل للحجز، إنّه ليوناردو دافنشي ذاته. ويطمح «مشروع ليوناردو» هذا.. إلى إعادة تركيب سلسلة نسب عائلة الفنّان والتعرّف على تركيبته الجينيّة. وقد يوفّر لنا مثل هذا البحث، معلومات ثمينة عن أسلافه، عن خصوصيّات تركيبته الجسديّة، وقد يساعدنا على التثبّت من أصليّة أعمال نسبت له، والأروع من كلّ ذلك، هو أن تمنحنا تلك الدّراسات مؤشّرات نلج بها سرّ عبقريّته. منذ سنتين.. نقل مخبر الأنثروبولوجيا الجزيئيّة لجامعة فلورنسا أعماله إلى مبنى من القرن السّادس عشر، يطلّ على كاتدرائيّة سنتا ماريا دال فيوري التي أقيمت كُرتها العلويّة بمساعدة ليوناردو سنة 1471. ويترأّس هذا المخبر ديفد كرملي، العضو في «مشروع ليوناردو»، الذي كان قد نشر تحاليل أّوليّة عن هيكل عظميّ يعود إلى عصر النّياندرتال، والذي ينكبّ اليوم، وباستخدام نفس التّقنيات، على دراسة الحمض النّووي لليوناردو دافنشي. ويأمل فريقه الكشف عن آثار لتلك التّركيبة في بعض البقايا البيولوجيّة: في عظامه، في خصلة من شعره، في قطع من الجلد وجدت ملتصقة في لوحاته الزّيتيّة أو على ورق دفاتره، بل وحتّى في لعابه الذي كان يستخدمه لمعالجة اللّوحات التي كان يرسم فوقها بمسمار فضيّ. كانت الأهداف غاية في الطّموح، ولكن أفراد الفريق كان يحدوهم أمل كبير، وأعمالهم التّمهيديّة كانت تتطوّر على نسق حثيث، لقد عمد النسّابون إلى البحث عن أحفاد والد ليوناردو لإخضاعهم لتحاليل جينيّة. وسوف يستخدم ديفد كرملي نتائج تلك التّحاليل لتشخيص واسم نسبٍ يُثبت أصليّة الحمض النّووي للفنّان، إن تمّ العثور عليه فعلاً. ويأمل علماء الأنثروبولوجيا في الوصول إلى رفاة ليوناردو الذي ووري التّراب سنة 1519 بقصر أمبواز على ضفّة نهر اللّوار، فيما يحاول مؤرّخو الفنّ وعلماء الوراثة الحصول على عيّنات من الحمض النّووي في رسومات هشّة أو على أوراق تعود إلى زمن النّهضة. وقد جاءت تصريحات جاس أوسييبل المشرف على المشروع والأخصّائيّ في علم البيئة مفعمة بالأمل: «لقد بدأت مقاربتنا تؤتي ثمارها». فهل إنّ الصّفات الفكريّة والإبداعيّة الاستثنائيّة، والوسط الثّقافي المحفّز، تكفي لوحدها لتفسير عبقريّة ليوناردو دافنشي؟ ألم يوهب أيضاً قدرة عل الإدراك متفلّتة عن كلّ المعايير؟.. تساؤلات تثير فضول الكثير من الباحثين. ويوضّح جاس أوسيبيل: «كما موزارت الذي أوتي أذناً استثنائيّة، يبدو أنّ ليوناردو دافنشي وهب حدّة بصريّة خارقة». وقد تمّ التعرّف فعلًا على بعض المكوّنات الجينيّة لطاقته البصريّة، من ذلك أنّ الجينات التي تمكّن من تمييز الأحمر والأخضر تتموقع على الكروموسوم (إيكس). و يعتقد توماس سكمار، الأخصّائيّ في علم الأعصاب الحسّي في جامعة روكفيلر، أنّه بالإمكان استكشاف تلك العناصر من الجينوم، للتثبّت إن كان دافنشي قد استفاد من تفرّده الجينيّ، وإن كان ذلك التفرّد قد سمح له بتمييز أطياف من الأحمر أو الأخضر لا تلتقطها العين العاديّة. ويظلّ القائمون على «مشروع ليوناردو» لا يعرفون في أيّ اتجاه قد يوجّهون أبحاثهم للإجابة عن عديد الأسئلة الأخرى. فالرسّام كان مثلًا يمتلك مهارة مدهشة لرؤية الطّيور المحلّقة، فأيّ تفسير لذلك؟ يقول توماس سكمار معلّقاً: «لكأنّه كان قادراً على خلق صور ستروبوسكوبيّة، ولعلّ بعض الجينات لها دور في تحفيز تلك المهارة». ويعتبر سكمار ورفقاؤه أنّهم في بداية رحلة استكشاف، سوف تفتح لنا دروباً جديدة كلّما أفصح الحمض النّووي عن بعض من أسرار عبقريّة ليوناردو. ويبدو أنّ تلك الرّحلة إلى منابع العبقريّة لن تكون لها نهاية، وأنّ الأسرار التي تحيط بتلك الفرادة التي خصّ بها المبدعون حقّاً، لن تتوقّف عن وضعنا أمام تحدّيات جديدة ومتجدّدة، كتلك التي ستظلّ تثيرها أمامنا غرابة الكون، رغم ما تيسّر لنا من معرفة عن أسرار بعض الكواكب. لقد سألت كيث جارّيت إن كان لا يزعجه جهل الأسرار التي منها تنبع موسيقاه، فأجاب: «لا رغبة لي في معرفة أيّ شيء عن ذلك، وإن تقدّم لي أحد بتفسير ما، سوف أقول له: لتحتفظ بهذا التّفسير لنفسك..». لعلّ الاكتشافات القادمة ستسهم في قدح أنوار العبقريّة لدى عامّة النّاس، فلا تكون استثناء لدى القلّة منهم. نيازك تخترق الزمن قلّة من الأفراد نهضوا عبر التّاريخ، فوسموا.. كلّ في مجال اختصاصه، الفكر الإنسانيّ بدمغة عميقة، تظلّ عبر الأزمان، باهرة وعصيّة على النّسيان. وقد نذكر من هؤلاء، موراسكي شيكيبو وإبداعها الأدبيّ في يابان القرن الحادي عشر، مايكل أنجلو ولمساته الإبداعيّة التي لا تجارى، ماري كوري وذكاؤها العلميّ الفارق.. وكان شوبنهاور قد قال بصدد هؤلاء: «يخترق العبقريّ زمنه مثل النّيزك، فيطوّف في السّديم، لتتقاطع سبيله مع الأجرام والكواكب» (...). دماغ أينشتاين سنة 1951 تمّ تسجيل ذبذبات صوتيّة منبعثة من دماغ أينشتاين. وبعد وفاته سنة 1955، قام أخصّائيّ في علم الأمراض بقطع دماغه إلى شرائح دقيقة تمّ صبغها، ووضعها على صفائح حتّى تتيسّر مشاهدتها بالمجهر. التبادل بين نصفي الدّماغ هو أكثر كثافة لدى العبقريّ منه لدى الإنسان العاديّ، وتلك خاصيّة كنّا نتوقّع وجودها لدى الأشخاص المبدعين.. بالغي الذّكاء. لا زلت أجهل ما سوف نكتشفه في القادم من الأيّام، ولكن ما توصّلنا إليه هو فحسب قطعة من اللّغز. أندرو نيوبارغ غزارة المَرار الأسود تأمّل الفلاسفة طويلاً في أصل العبقريّة، فرأى فلاسفة الإغريق قديماً أنّها تعود إلى غزارة المَرَار الأسود (وهي أحد الأمزجة الجسديّة حسب هيبوقراط). ويرى المؤرّخ دارين ماك ماهون أنّ تلك المادة هي سبب تألّق الشّعراء والفلاسفة، والعقول المتفوّقة الأخرى التي أوتيت قدرات ذهنيّة خارقة. وقد حاول العارفون بأسرار التبصّر والفراسة، من ناحيتهم، العثور على مكمن العبقريّة في تحدّبات الجبهة، فيما عمد الدارسون لأحجام الأدمغة، إلى فحص وقياس ووزن تلك الأدمغة، ومنها دماغ كانط، غير أنّه لا أحد منهم استطاع العثور على سبب أوحد للعبقريّة، وإنّه لمن المرجّح أن يظلّ الأمر دوماً كذلك. توقيعات أنَّى للعراقيل أن تثنيني. من كانت تحدو به نجمة في السّماء، ليس بوسعه أن يلتفت إلى الوراء. ليوناردو دافنشي *** حين أجلس أمام البيانو، أذهل عن كلّ ما حولي، وأغدو رهن قوّة غريبة تستحثّني على العزف، ولا أملك غير مبادلتها مشاعر الامتنان. كيث جارّيت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©