الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

حفريّات معلوف الروائيّة

حفريّات معلوف الروائيّة
27 ابريل 2016 15:42
نبيل سليمان بسرعة ضوئية يحسده عليها كبار المبدعين، تصدّر أمين معلوف المشهد الروائي الفرنسي والعربي، وبالتالي: انفتح له باب العالمية. وإذا كان ثمة من يشير مشككاً إلى دور الفرانكفونية في ذلك، أو من يشير مداعباً إلى دعاء الأم المستجاب لابنها في ليلة القدر، فلولا إبداع أمين معلوف المميز لما بلغ ما بلغ، ولما مضت إليه جوائز مرموقة، كجائزة الشيخ زايد اليوم، والغونكور من قبل، وسواهما، عدا عن مقعد كلود ستروس في الأكاديمية الفرنسية. يحفل تاريخ الرواية بمن قدموا إليها من حقول شتّى، كالطب أو الهندسة أو الشعر أو التاريخ.. لكن من قدموا من الاقتصاد ندرة نادرة، كعبد الرحمن منيف القادم من اقتصاد النفط، وأمين معلوف الذي بدأ حياته المهنية في الملحق الاقتصادي لجريدة النهار اللبنانية، ثم تابع في مجلة إيكونوميا الاقتصادية، قبل أن يبدأ البحث في والكتابة عن الحروب الصليبية، حيث المنجم الأول لإبداعه الروائي. المتشائل في لحظة مفصلية للحاضر وللمستقبل، كالتي نعيش، يحق للقراءة أن تتطلع إلى ما في إبداع أمين معلوف، مما يخاطب هذه اللحظة. وربما كان أوله تلك الرؤية الثاقبة التي يقدمها كتاب (اختلال العالم)، حيث شخّص المؤلف علامات اختلال فكري واقتصادي ومالي وبيئي، جاد بها مطلع هذا القرن، فانفلتت المطالبات بالهويات من عقالها. ولخروج العرب من هذا المأزق يقترح معلوف مساهمتنا في مشروع الإنقاذ العالمي بحكمة وغضب أحياناً، هو (غضب الأبرار). ومن أسف أن قراءة معلوف المستقبلية تتحقق بأسرع وأفدح مما قدّر حين قال إنه ستكون هزات وانقلابات تخرج منها البشرية مثخنة بالجراح، ومنهكة، لكنها ربما تكون أكثر نضجاً. إذا كان أمين معلوف يبدو هنا متشائماً، فقد بدا في حوارٍ له مع عبد الإله الصالحي، متفائلاً، حين عدّ الحراك في ربيع 2011 نهضةً للحريات، وبداية عصر جديد انتقلنا فيه فجأة من صورة العربي الإرهابي إلى العربي الذي يثير الإعجاب. كما عدّ الحراك علاقة جديدة بين المواطن والسياسة، تغني عن العنف. ولا يوافق معلوف المتخوفين من الحراك، بل يذهب إلى أنه سيغير نظرة الغرب للعرب، ونظرة العرب الازدرائية لأنفسهم. ومن أسف أن ما تفاقم منذ 2011 قد جاء نقيضاً لكل هذا التفاؤل. أليس أمين معلوف، في هذا، وفيما سبق من التشاؤم، متشائلاً بامتياز؟ الهويات القاتلة قبل الانتقال إلى روايات أمين معلوف، هوذا كتابه (الهويات القاتلة: قراءات في الانتماء والعولمة) الذي يبدأ بالتوكيد على أن الهوية لا تفتأ تتشكل، وهي يمكن أن تتحول إلى أداة حرب. ينفي معلوف أن يكون الإسلام السياسي المعادي للحداثة وللغرب تعبيراً عفوياً وطبيعياً عن الشعوب العربية. وفي واحدة من (الشطحات) النادرة يجزم بأن الحركات الأصولية وليدة عصرنا بتشوهاته وخيباته، وليست وليدة تاريخنا، فهل هي الرغبة بتبرئة تاريخنا و/‏أو خلع جذور تلك الحركات؟ يحلم أمين معلوف بعالم تنفصل فيه الحاجة الروحانية عن الحاجة إلى انتماء، عالم لا يستخدم فيه الدين كوشيجة بين إثنيات متحاربة. ومن درر كتابه هذا، قوله: «أكثر الكلمات شفافية غالباً ما تكون أكثرها خيانة»، وكذلك خاتمة الكتاب: حيث الفهد الجريح، كالطليق، وكالمطارَد، خطِر، لكنّنا نستطيع ترويضه، بينما لا تروَّض الهوية، لا بالاضطهاد ولا بالتواطؤ. الطائفية بين كتب أمين معلوف، و رواياته حبل السرّة الذي لا ينقطع. وهكذا يخاطبنا كتاب (اختلال العالم) بالطائفية التي لا تشجع على تفتح الديمقراطية إطلاقاً، فهي إنكار لفكرة المواطنية، ولا يمكن بناء نظام سياسي متمدن على أساس كالطائفية. وكذلك هي العشائرية، إذ من المدمّر أن يقام نظام محاصصة يقسم الأمة بصورة مديدة إلى عشائر متخاصمة. حسناً، وماذا إذن هو هذا الذي جرى ويجري في لبنان وسوريا والعراق ومصر واليمن؟ من رواية (موانئ الشرق)، تأتي بضعة من جواب. فمن أمس قريب يبدأ بالحرب العالمية الثانية، وليس من بطن للتاريخ، يخرج (عصيان كبتدار) العثماني الأصل، وابن الأرمنية، من بيروت إلى باريس، لينخرط في عصبة مقاومة للنازية، ومنها اليهودية كلارا التي ستصير زوجته. ومع حرب 1948 وقيام إسرائيل يكون عصيان قد عاد إلى بيروت، وكذلك كلارا، حيث يحتضر والد عصيان، فينهار الابن، ويتخلى عنه الجميع، حتى كلارا الحامل. ولن يلتقيا إلا بعد ثمانية وعشرين عاماً، حيث تحضر ابنته، فيشفى من علته، وتعيد الرواية المعزوفة الأثيرة لكاتبها: انتصار الحب، وكذلك الوئام الديني الحضاري. يعبر هذا الوئام فوق الطائفية. ويتكرر هذا العبور في رواية (رحلة بالداسار) حيث اليهودي ميمون، صديق بالداسار الذي ينفح بحكمته، ومنها: الخرق هو المبدأ الذكوري للتاريخ. وفي هذه الرواية، كما في رواية (صخرة طانيوس)، للحفر في التاريخ مركزه العثماني، واللعبة الروائية هي لعبة (الكتاب)، لكأنما هو شخصية روائية، بل الشخصية المحورية، كما في رواية (سمرقند) أيضاً. حفريات روائية في التاريخ من جبيل تنطلق رحلة تاجر التحف بالداسار بحثاً عن الكتاب الذي اشتراه منه فارس فرنسي، وربما يكنز سر الحياة. وترافق بالداسار مارتا التي يشبكها العشق إلى بالداسار، وهي تسعى خلف وثيقة من السلطان العثماني تؤكد موت زوجها سياف، لتتحرر من أسر غيابه. وكما في روايات أمين معلوف: ثمة الرحلة والمطاردة والخطر والعشق والتشويق وغرائب البلدان، مما يوثقه بالداسار في يومياته التي تبلغ ثلاثة كراريس تضيع منه. وفي الرابع يعثر في لندن على ضالته (الكتاب) عند كاهن يشترط عليه أن يترجمه إلى اللاتينية. لكن نظر بالداسار يتضبب كلما حاول القراءة في الكتاب. ومع هذه الـ (غريبة) تشتبك ليلة القيامة من (سنة الوحش) في 12/‏9/‏1961، وهي ليلة نهاية السنة الروسية، حيث ييأس بالداسار، ويودع الكتاب أحد الرفوف، فهل هو يعلن بذلك أن لا سر ولا حقيقة ولا سعادة إلا في أعماقنا؟ إلى فترة الصراع العثماني الإنكليزي المصري على لبنان، تعود رواية (صخرة طانيوس)، ماتحةً من قصة (حقيقية) شعبية هي اغتيال (أبو كشك معلوف) لبطريرك، كما يذكر المؤلف. والمتح إذن هو هنا من تاريخ شعبي، وليس من تاريخ رسمي. تبدو المخيلة في هذه الرواية أكبر حرية ونشاطاً منها في الرواية التي قامت على الحفر في المدونات التاريخية، وبخاصة في (حدائق النور) و(سمرقند) و(ليون الإفريقي). ولكن قبل المضيّ قدماً، ومن أجل أن نتبين موقع حفريات أمين معلوف الروائية في المشهد الروائي العربي، علينا أن نذكّر بما بين الرواية التاريخية مما كتب جرجي زيدان أو معروف الأرناؤوط، مثلاً، وبين الحفريات الروائية في التاريخ مما كتب عبد الرحمن منيف وأهداف سويف وجمال الغيطاني وعبد الخالق الركابي وحبيب عبد الرب سروري وربيع جابر وسميحة خريس وواسيني الأعرج و.. فيما عرفت هذه الحفريات من موران وفوران بعد هزيمة 1967، وحيث تسيّد الفن الروائي على التأرخة، وتخففت الرواية من وطأة الوثيقة والموعظة والمدرسية، ليكون التخييل أولاً وأخيراً. بالموهبة والخبرة والدربة يصير للكاتب (ة) المكر الفني الحلال، وهذا ما تألق فيه أمين معلوف، شأن أقرانه ممن ذكرت ومن سواهم، مع ملاحظة أن شعبيته تقدمت على كثيرين، ربما بما وفره لرواياته من عناصر المغامرة والإثارة والوصف الماتع والحبكة المشوّقة والمحْكمة وبناء الشخصية الساحرة، وكذلك بصدى النجاح في الفضاء الفرنسي والأوروبي، وبتفوق ترجمات رواياته إلى العربية. من تاريخ السلاجقة يأتي أمين معلوف بعناصر رواية (سمرقند) في الفضاء الفارسي، وصولاً إلى أواسط آسيا، ومن القرن الحادي عشر إلى مطلع القرن العشرين. وإذا كانت (اللعبة الرواية) ستتركز حول العالم والفيلسوف والشاعر عمر الخيام، فهي تتركز أيضاً في الشخصيات التاريخية الأخرى: نظام الملك وحسن الصباغ زعيم الحشاشين. وعبر شخصية الأمريكي الذي يسعى خلف النسخة الأصلية من رباعيات الخيام، ويشهد الثورة الدستورية الفارسية 1905-1907، وصولاً إلى فقد الرباعيات (لعبة الكتاب) في غرق الباخرة تايتانيك. إنها رواية الشعر والفلسفة والوجد الصوفي، ويوتوبيا الرفض المتلبس بالإرهاب. ولأن الرواية لم تغرق في التوثيق فقد نجت شخصياتها من النمطية، وهو ما لم يتوفر بالحذاقة عينها لرواية (ليون الإفريقي) التي تعود إلى ما بين 1488-1527م، وترمح ما بين الأندلس والمغرب ومالي ومصر والجزائر وتركيا وإيطاليا، منهمكة في سرد الأحداث التاريخية، ومومئة إلى السيرية عبر ما يجمع بين شخصيتي ليون والكاتب، من الاغتراب. وتعزز ذلك عتبة الرواية من شعر ييتس: (ولا ترتبْ مع ذلك أن ليون الرحالة كان أيضاً أنا). وتعود هذه الرواية إلى (لعبة الكتاب) المركزية في إبداع أمين معلوف. والكتاب هنا هو (وصف إفريقية) لـ (ليون) الإفريقي. أما سؤال الرواية فهو سؤال الهوية المركزي في إبداع الكاتب، ويجري تشغيله هنا عبر حياة حسن الوزان. ولئن كان لكل من (موانئ الشرق) و(رحلة بالداسار) شخصيتها اليهودية، فقد ركزت هذه الرواية على اضطهاد اليهود في الأندلس، بينما هونت من اضطهاد المسلمين، وأجّلته إلى (فاس)، مما أخذه بعضهم على الكاتب. أما رواية (حدائق النور) فتتمحور حول مؤسس المذهب المانوي في القرن الثالث الميلادي. وبقدر ما انشغلت الرواية بالتاريخ كان انشغالها بالفلسفة، سواء عبر ماني أم عبر شخصية والده الذي ينضم إلى الجماعة التدمرية. ومن بلاد ما بين النهرين إلى بلاد فارس والهند وتدمر، ترمح الرواية، بينما يميل ماني إليه بالملك شاهبور وبملكة تدمر زنوبيا، وهو يبشر بإلغاء الامتيازات والفروق الطبقية ويناهض الحرب. مناوشات الخيال العلمي سوى حفرياته الروائية، كتب أمين معلوف أيضاً روايته «القرن الأول بعد بياتريس»، مناوشاً فيها الخيال العلمي، عبر لعبة الفولات العجيبة/ الدواء الذي يمكن من إنجاب الذكور فقط. كما كتب معلوف رواية سيرية واحدة هي «التائهون» ذات الإيقاع البطيء والوصف المسهب، وفيها يغادر المؤرخ آدم بيروت إثر الحرب الأهلية إلى فرنسا. ولمعلوف في المسرحية الشعرية والأوبرا «الحب عن بعد»، التي تحفر في التاريخ أيضاً، لترمّز الغرب برجل والشرق بامرأة، عكس مألوف الرواية العربية الحضارية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©