الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مطرقة المرجعيات

مطرقة المرجعيات
21 مارس 2017 22:33
1 تشكل الفكر السياسي الإسلامي مبكراً من خلال منظومة شفوية ومكتوبة عاكسة للواقع السياسي الذي فرضته الأنظمة. جرى التفكير في الدولة على مستويات ثلاثة: الفقه (السياسة الشرعية)، والأدب السلطاني (السياسة العملية)، والفلسفة (السياسة المدنية). قدَّم الفقه تقنيناً «نصياً» لواقعة «التغلب» كآلية لإسناد السلطة، فيما قام الأدب السلطاني بتكريسها والترويج لها بتقنيات تاريخية وثقافية متنوعة، أما الكتابات الفلسفية المتأثرة بالفكر اليوناني، فلم تقدم اختراقاً حقيقياً للطرح الأوتوقراطي الذي قننه الفقه وكرسه الأدب السلطاني، رغم بعض التنبيهات النقدية التي كانت تصدر غالباً عن دوافع سياسية أو مذهبية. لقد اكتمل هذا التشكل في ظل تناغم واضح مع محيطه الاجتماعي المباشر، وبلا تناقض مع المناخ العام لثقافة العصر الوسيط الأوتوقراطية. منذ البداية وحتى المراحل الحديثة لم يواجه الفكر الإسلامي «أزمة حداثة» أو مشكل تنافر حضاري مع المحيط الاجتماعي، ولم يعان من عقدة نقص أمام نموذج ثقافي بعينه، بالمعنى الذي يعرفه اليوم مع المحيط الاجتماعي المعاصر، وأمام النموذج الثقافي الغربي، فالأنظمة الدينية والفكرية المقابلة التي كانت تمضي على وقع العصور الوسطى البطيء نسبياً، لم تكن تتوافر - بالنسبة له- على سبق حضاري متميز، فيما كانت الثقافة الإسلامية تبدو، من بعض الزوايا، كنموذج «حداثي» لا يفتقر إلى الجاذبية في ظل حالة المد والانتصار السياسي. أما الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، فيشتغل تحت ضغط الإشعاع الضروري لثقافة الحداثة السياسية التي تسربت بالتراكم عبر القرون الثلاثة الماضية، وهي ثقافة مناقضة في جملتها لمرجعياته النظرية الثابتة التي يصدر عنها من جهة، ولمعطيات الواقع السياسي المتغيرة التي صار يتعاطى معها من جهة ثانية. لم يتحول الإشعاع الثقافي لقيم الحداثة السياسية إلى مكونات بنيوية داخل العقل الإسلامي الذي لا يزال سلفياً في بنيته ومزاجه العام، وهي نتيجة مفهومة بالنظر إلى المدى التاريخي الطويل الذي استغرقه التراكم السلفي، وإلى عمق التضافر بين الواقع السياسي المتواصل والثقافة الأوتوقراطية الموازية له. تسربت ملامح الحداثة السياسية- بفعل الاحتكاك- إلى القشرة الخارجية (شكل النظام السياسي)، ولكنها لم تفلح بعد في التغلغل إليه وتغيره من الداخل، وظل الروح التقليدي للنظرية التراثية ساكناً في الوعي العام وفي سلوك الأنظمة. ومع ذلك فالعقل الإسلامي صار مضطراً إلى الوعي باتساع الفارق بين مقولات النظرية التي أفرزتها علاقات الاجتماع السياسي في القرون الهجرية الأولى، وبنيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعاصر. وهكذا تنكشف الطبيعة المعقدة للمشكل داخل العقل السياسي الإسلامي المعاصر عن علاقة جدل ثلاثية، أطرافها: الواقع، والنظرية، والحداثة. الواقع: الذي يعكس حالة بؤس سياسي واجتماعي مزمنة، والنظرية: التي تبدو عاجزة عن التعاطي مع أزمة الواقع أو الاستجابة لثقافة العصر، الحداثة: التي صارت جزءاً من ثقافة الواقع دون أن تفلح في تغييره، وهي تسهم في تضخيم وعيه بالمشكل أكثر مما تسهم في إخراجه منه. خلافاً لما تفعل معظم الكتابات الإسلامية المعاصرة عن عمد أو غلط، يلزم التمييز بين مصطلح النظرية التراثية والمبادئ الكلية للإسلام في الشورى والعدالة. ما أعنيه بالنظرية هو مجموعة النظم والقيم التي سادت بالفعل على مدى زمني طويل من تاريخ الإسلام السياسي، وشكلت بحمولتها المخزونة في ذاكرة العقل المسلم الخلفية الكامنة لثقافته السياسية الراهنة. أمام المبادئ الكلية للإسلام في الشورى والعدالة، كما وردت مجملة في القرآن، فهي قواعد مثالية ممعنة في العمومية، تستخدم عند الخلط كحائط صد في مقابل الانتقادات التي توجه إلى النظرية والتاريخ الاستبدادي الذي أنتجها. سنياً، عكست نظرية «الخلافة» بشكل حرفي الطبيعة الأوتوقراطية للسلطة خصوصاً في الدولتين الأموية والعباسية. بينما عكست نظرية «الإمامة» الرؤية الثيوقراطية ذات النزوع الوجداني للمعارضة الشيعية. وحيال الصلاحيات الأوتوقراطية المخيفة للخليفة السني، والصلاحيات الثيوقراطية المطلقة للإمام الشيعي، لا مجال للحديث عن الشورى، حيث لا يحضر «المحكوم» أصلاً كطرف في المعادلة السياسية، ومن جهة العدالة، فهي نص دائم الحضور في جميع النظريات عبر التاريخ، ولا يجود، من ثم، معيار تقييمي لقياسها، إلا على الصعيد الفعلي، وهو صعيد لا يشهد لصالح أحد. أما في النظرية الإباضية، حيث تظهر ملامح واضحة لسيكولوجيا الاعتراض التي تكرست تاريخياً لدولة الخوارج، فتحتل الشورى بالفعل موقعاً بارزاً مدعماً، بالقياس إلى النظريتين، بضمانات «دستورية» منصوصة، ولكنها لم تتطور في اتجاه مبادئ المشاركة والحرية الفردية، لأن قيود الشورى على سلطة الحاكم لم تكن مقررة لصالح المحكومين (الشعب)، بل لصالح العلماء، أهل الحل والعقد، وهم بمقاييس النظرية «حكام» محتملون يختار من بينهم الإمام. ومن ثم فقد ظلت، رغم تميزها النسبي في تقييد سلطة الحاكم تدور كسابقتيها في نطاق المفهوم التقليدي للسلطة ذات الجذور القبلية. 2 لا يشير مصطلح الحداثة السياسية هنا إلى أيدلوجيا معاصرة بعينها كالليبرالية أو الاشتراكية أو حتى إلى الديمقراطية كصيغ إشكالية مثقلة بتحفظات نظرية وعملية متباينة، بل إلى المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة في التفكير السياسي الحديث، والتي يمكن اعتبارها مبادئ «قبل أيديولوجية» بقدر ما تعبر عن القيم الأولية اللصيقة بالنزوع الإنساني للاجتماع والحرية معاً. جرى تكريس مفهوم «المجتمع» ومفهوم «الفرد»، وأيضاً مفهوم «الشعب» كمفاهيم سياسية في مقابل مفهوم «الحاكم» الذي كان يستغرق مفهوم الدولة، الدولة كيان اعتباري عام منفصل عن الحكومة وعن الحاكم. والسلطة ليست لفرد، بل موزعة على عدد من المؤسسات، مع رسوخ فكرة القانون، وتأكيد قيم الحرية الأساسية وقيم المشاركة. وهي مبادئ غائبة بوجه عام عن الواقع الإسلامي الراهن وعن النظرية التراثية. متوجساً من مفردات الثقافة الغربية، لا يرحب الفكر الإسلامي المعاصر عموماً بمصطلح الحداثة، الذي يختلط في الوعي الموروث بمفهوم «البدعة» وهو مفهوم عام حسب منطوقه النصي «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، ورغم الشروح التقليدية التي تخصص هذا العموم بالمجال الديني دون الدنيوي، تظل البدعة مفهوماً غائماً بسبب عدم وضوح الحد الفاصل بين المجالين. في الفكر السياسي التقليدي يختلط الديني بالدنيوي في تعريف الإمامة وتفسير الدولة، فحسب الماوردي في الأحكام السلطانية «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»، ويؤكد ابن خلدون في المقدمة أن الإمامة هي «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به». لكن الفكر الإسلامي – كالفقه الإسلامي- لم يهتم ببيان الكيفية التي تمارس بها الدولة حراسة الدين وحمل الكافة على مراعاة مصالحهم الأخروية التي تتضمن جميع الأحوال الدنيوية، اللهم إلا من خلال إطلاق سلطة الدولة «الإمام» كيف يتم الفصل بين الأخرويات الخالصة والدنيويات الراجعة إليها؟ ما المدى الذي تصل إليه سلطة الدولة للتدخل في الحياة الخاصة والحريات الفردية؟ ماذا تبقى للأفراد من دائرة المباح المقررة بالنصوص وطبيعة العقل؟ من الذي يحدد مفهوم النظر الشرعي أو كيف تدار سلطة التفسير الديني؟ هذه الأسئلة – التي لم تكن مطروحة في سياقات النظرية التراثية- تمثل جانباً من مأزق الفكر السياسي الإسلامي المعاصر: الدولة الدينية في مقابل سؤال الحرية. فإما أن يقبل النظرية التقليدية بحالتها كما يقدمها الفقه السلفي، وعليه في هذه الحالة أن يتحمل أوزارها في مواجهة النزوع الحداثي للحرية، وهذا بالفعل هو موقف الكتلة السلفية القح من العقل الإسلامي الراهن، والتي لا تحفل أساساً بمفهوم الحداثة، وتقدم إلزامية الحكم الفقهي على نزوعات الحرية، وإما أن يعترف بأن النظرية بحالتها السلفية تحمل فعلاً مخاطر الاختلاط بالمفاهيم الثيوقراطية، وتشكل عبئاً على مطالب الحرية، وهذا قريب من موقف التيارات الأقل سلفية خصوصاً تيار «الإسلاميين المنتسبين» (حاملين لثقافة علمانية ممنهجة)، وهو يجادل في وصف الدولة الإسلامية بأنها «دولة دينية»، مستحضراً مخاوف الحداثة السياسية من هذا المصطلح، وسهام النقد التي وجهت إليه في السياق المسيحي الغربي، ولكنه لم يقدم نظرياً ما يكفي لتبديد هذه المخاوف، إذ اكتفى حيالها في الغالب بتبرير دفاعي مقتضب يشير إلى أن الإسلام لم يعرف الكنسية أو حكم رجال الدين. وهو تبرير غير حاسم يعتمد معياراً شكلياً في تحديد معنى الدولة الدينية ويتجاهل جوهر المشكل. جوهر المشكل هو موضوع الحكم قبل شكل الحكومة. الدولة الدينية في الدولة التي يتحد فيها جهاز السلطة مع النص الديني. الهاجس الأساس هنا هو خطر تجميع السلطتين: سلطة تفسير النص التي ستنتسب في نهاية التحليل إلى مراد الله، وسلطة الدولة التي تميل بغريزتها إلى التغول على الحرية. يتعلق الأمر بتديين جهاز السلطة لا بتدين المجتمع ولا بتدين الفرد، فقد كان الدين ولا يزال حقيقة راسخة على مستوى المجتمع والفرد في ظل العلمانيات المتعاقبة قديماً وحديثاً، ولكن اتصاله بجهاز السلطة ظل دائماً عرضة للانقطاع. لم يعاين الفكر الإسلامي السلفي التصورات السلبية التي يطلقها مصطلح الدولة الدينية، فقد انطلق هذا الفكر في تنظيره للدولة الدينية من نموذج فعلي ظل قائماً في الواقع لقرون طويلة، وبتناغم تام مع روح العصر الوسيط الذي امتزج فيه الديني بالسياسة على نحو طبيعي بلا معارضة من أي اتجاه. على خلاف الفكر الإسلامي المعاصر الذي يتعامل مع واقع مختلف تماماً، لا يتمثل فقط في غياب النموذج الديني الذي انقطع حضوره منذ أمد بعيد، بل أيضاً في حضور مفاهيم مضادة وغير ودية حيال هذا النموذج، معنية أساساً بفكرة الحرية. في القرن الثامن عشر، اعتبر جان جاك رسو أن المملكة الروحية المسيحية المزعومة «قدمت من خلال الكنيسة» أعنف حكم استبدادي في هذا العالم، وعزا أصل المشكل إلى ازدواجية السلطة التي تمزق الفرد المسيحي بين الكنيسة والدولة. وانتهى من ذلك إلى أن «الوحدة السياسية شرط لازم لأي دولة أو حكومة صالحة، ولكن المشكل كما يواجهه الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، لا يتعلق بالازدواجية الشكلية للسلطة على النحو الذي تناوله رسو، بل بمخاطر الاستبداد والقمع الكامنة في صلب نظام الخلافة الأحادي ذاته. 3 بما هو فكر ديني، تكمن معضلة الفكر السياسي الإسلامي المعاصر في بنيته السلفية، التي تكرس إلزامية التراث التاريخي (ثقافة حقب التأسيس) بوصفه شقاً من الدين المطلق. أعني أن على الفكر الإسلامي مواجهة المعضلة النظرية التي ينطوي عليها نمط التدين التاريخي عموماً. رغم الشروح المتأخرة التي صارت تفرق بين التراث التاريخي (الفقه) والدين الملزم (النص) يظل التراث التاريخي، وهو اجتماع سياسي محض، شقاً من الدين الملزم، بسبب اختبائه في بنية «النص» ذاته، سواء «النص» الذي جرى اصطناعه في الروايات الأحادية عبر عملية التنصيص السياسي الواسعة في عصر التدوين والنص التأسيسي الصحيح. (العقل الديني يرادف بين النص والمطلق، ولذلك فهو لا ينتبه إلى تاريخية الكتلة الثقافية المحلية التي سجلها النص التأسيسي إلى جوار الفكرة المطلقة، بسبب هذا التسجيل تتحول الأحكام والوقائع إلى قيم مؤبدة). سيتعين على العقل السياسي الإسلامي ليس فقط التعامل مع الضغوط المسلطة عليه من قبل الفقه أو التاريخ «التراثي»، بل أيضاً من قبل التاريخ «المنصوص». لن يعود كافياً التساؤل عما إذا كانت النظرية السلفية مبنية على نص ديني قطعي من جهتي الثبوت والدلالة، بل يلزم التساؤل عما كان النص الديني ذاته حقيقياً خالصاً، أي صادراً عن المشرع قبل اشتعال الصراع على السلطة أم تمت صناعته بمعرفة الفرق السياسية بسبب الصراع على السلطة. وقبل ذلك التساؤل عن نطاق الإلزامية داخل النص الصحيح ذاته حين يتعلق الأمر بالتاريخ الاجتماعي. لم تعد المسألة هي إلزامية النص مقابل لا إلزامية التاريخ (الفقه)، بل هي: نصية النص ذاته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©