الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السيد يسين.. المنظّر العربي الأول لـ«ما بعد الحداثة»

السيد يسين.. المنظّر العربي الأول لـ«ما بعد الحداثة»
22 مارس 2017 00:19
في المنامة، وفي نهاية التسعينيات من القرن الفائت، كان لي شرف المشاركة معه في ندوة تقييمية لفكر د. محمد جابر الأنصاري، وذلك بدعوة من «مؤسّسة كانو» المعروفة برعايتها للثقافة والمثقفين في مملكة البحرين. وكان هذا لقائي الشخصي الأول به، هو الذي شرّفني بأن أكون صديقاً له، أهاتفه متابعاً أخباره في القاهرة، ويُهاتفني أثناء إقامتي في دولة الإمارات العربية المتحدة، ومن بعد في دولة الكويت ومن ثمّ في لبنان، بعدما كنت قد عَرَفته ملياً، طبعاً، من خلال كتبه ودراساته ومقالاته التي كان ينشرها دورياً (حتى وهو في ذروة تعقّد مرضه) في «الأهرام» وفي العديد من الصحف العربية المركزية الأخرى. إنه السيّد يسين، المفكر المصري الكبير، الذي غادرنا الأحد الفائت في «مستشفى زايد التخصّصي» في القاهرة عن عمر يناهز الرابعة والثمانين بعد صراع مع المرض. يعتبر السيّد أحد أكبر الأسماء الفكرية العربية، وحتى العالمية الحديثة، التي نظّرت رياديّاً ومليّاً لمفهوم «ما بعد الحداثة» الذي شقّ لنفسه أخدوداً مفارقاً في حقل الثقافة العالمية منذ أكثر من عقود ستة خلت. في معظم كتبه وأبحاثه ودراساته ومقالاته النقدية في الشأن الفكري الاستراتيجي، يميل السيد يسين إلى التحليل النقدي للمتغيّرات، وذلك من خلال منهج التحليل الجدلي الثقافي، وخصوصاً لدى تصدّيه لقضايا من مثل أبعاد الثورة الكونيّة، وأزمة المركزية الغربيّة، ومجتمع المعرفة، وأمراض الديمقراطية، والفوضى وتشريح الزمان الفوضوي العالمي، والانحراف السياسي، والإرهاب.. والإرهاب الاجتماعي، ومأزق حوار الحضارات في عالم متغيّر، وخارطة المجتمع الكوني الجديد، وتشريح التخلّف.. إلخ. كما كان - رحمه الله - من المهتمين الجادين بإعادة فحص الإرهاصات التي لامست وتلامس المستقبل البشري في ضوء المعرفة النقدية المزدوجة للذات العربية، والذات الأخرى، من ضمن قيامات الفكر العالمي الواحد، إذ ظلّ السيّد يسين يسمّي الفكر الغربي السائد، فكراً عالمياً مركزياً يؤثر في الحضارات السائدة على اختلافها، ويسهم فيه مفكّرون ليسوا من أهله... وهو بالتأكيد في الطليعة بينهم. حوارات وسجالات عدّة خضتها مع السيد يسين، وكنت في كلها تلميذاً لأستاذ كبير، بل لمعلّم من طراز المعلّمين الموسوعيين الكبار. منه استوعبت مفهوم «ما بعد الحداثة» كما أصّله، على نحو ما، أدبيّاً ونقدياً في مصر وعلى المستوى العربي، ولم يتم تأصيله - في نظر راحلنا الكبير - فلسفياً حتى الآن، وهو المسار الأهم ثقافياً ومعرفياً لـ«ما بعد الحداثة» على المستوى العربي وحتى على المستوى الدولي أيضاً. أسُسُ الحداثة سألت السيد يسين مرة عن مفهومه العام لـ«ما بعد الحداثة»، فأجاب بأن «ما بعد الحداثة» ليست مجرد مفهوم، ولكنها حركة فكرية متشعبة بدأت بفن العمارة أصلاً، ثم في الفن بوجه عام، وانتقلت من بعد ذلك إلى الفلسفة، ثم إلى العلوم الاجتماعية، وواقع الحال أنه لا يمكن فهم «ما بعد الحداثة»، إلّا إذا فهمنا ما هي الحداثة، لأن «ما بعد الحداثة» تفترض مشروعاً مناقضاً لمشروع الحداثة، أو على الأقل مجانباً لسلبياته وآفاته. وأردف قائلاً: إنّ مشروع الحداثة هو مشروع غربي مركزي قام على أسس عدّة، في طليعتها الفردية، إذ الحداثة نشأت مع نشوء الدولة الرأسمالية الحديثة، ومع صعود البرجوازية كطبقة اجتماعية حاولت تحطيم القواعد والحدود التي كانت تحدّ أو تصادر حركة الإنسان في المجتمع الإقطاعي. وكما هو معروف، لم يكن باستطاعة الفرد أن يتحرّك إلّا من خلال التقاليد الإقطاعية أو بأمر من السيد الإقطاعي، لذلك رفعت البرجوازية شعار «دعه يعمل، دعه يمر»، بمعنى دعه يعمل ما يشاء، وفي الطرق والأساليب التي يريد. ومن أسس الحداثة برأي السيّد يسين بعد، العقلانية، فالرأسمالية قامت أيضاً على التخطيط وعلى التنبؤ بالمستقبل. ومن أسسها كذلك الاعتماد على العلم والتكنولوجيا لإشباع الحاجات الأساسية للبشر، وتطويعها لخدمتهم، فضلاً عن تطبيق وضعيّة العلم كرافعة لنفي الخرافات والتفكير الخرافي. ومن أسس الحداثة تبنّي نظرية خطيّة للتقدّم الإنساني، لأنها تعتقد أن الإنسانية ترتقي من مرحلة إلى مرحلة أو من حال إلى حال، أي أنها في صعود مستمر. أسُسُ ما بعد الحداثة هذه هي تقريباً أبرز الأسس التي قامت عليها الحداثة الغربية من وجهة نظره. أما «ما بعد الحداثة»، فتَرى (بحسب السيّد يسين) أن الحداثة أدّت مهمتها التاريخية، وأنها فشلت في تحقيق وعودها، وأن الفردية اعتراها تنميط شديد بعقلانيّته، أدّى إلى كوارث إنسانية مريعة، وأن التاريخ الإنساني لم يتقدّم، بدليل أنه قامت النازية والفاشية والحربان العالميتان الأولى والثانية، وبالتالي فإن «ما بعد الحداثة» تريد أن تبلور مشروعاً حضارياً بديلاً من مشروع الحداثة، تقوم دعائمه على تحرير الفرد من القيود التي كبّلته بها الرأسمالية، وتفكيك المؤسسات الكبرى، وتبديد الأنساق المغلقة، والأيديولوجيات المُسمطة، والتركيز على المجتمعات المحليّة، والتعدديّة، وإتاحة الفرصة للحرية الإنسانية كي تأخذ مداها غير المؤطّر. و«ما بعد الحداثة» في رأي السيّد يسين تقول إن الحتمية سقطت في التاريخ، وسقطت في الطبيعة، وسقطت في المجتمع. لا يوجد مثلاً قانون ماركسي يتنبّأ بانهيار الرأسمالية.. هذا قانون عام، و«ما بعد الحداثة» لا تقبل بمثل هذه القوانين العامة، ولا تقبل بالتالي حصر الحقيقة في نسق فكري محدّد أو جامد.. و«ما بعد الحداثة» هي دائماً على الضدّ من مشروعات نقيّة أو طُهرانية ماثلة في المستقبل. المستقبل والماضي حاجة زمنية واحدة للتناول من وجهتيهما وحتى من خارج هاتين الوجهتين. اعتماد علم اجتماع المعرفة السيّد يسين عالم اجتماع كبير، فعلاوة على أنه المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع الأدبي في مصر والوطن العربي، هو أيضاً من الرياديين الأوائل في مسألة التحليل السياسي – الاجتماعي. وفي هذا الإطار كان قد حذّر فقيدنا الكبير من التعميم في تناوله المجتمعات التي تندرج تحت ما يسمى «العالم الثالث»، ذلك أنه تحت هذا المصطلح تندرج في رأيه بلدان مختلفة تمام الاختلاف، من حيث تاريخها الحضاري ودرجة تقدّمها الاجتماعي، ومن حيث طبيعة البناء الاجتماعي لكل منها، ونوعية القوى السياسية التي تحكمها. غير أن هذا لا يمنع في رأيه وضع اليد على المشكلات المشتركة بين هذه البلدان، وإن كان التجريد هنا لا يُغني إطلاقاً عن الدراسة التفصيلية لكل فئة من فئات بنية تلك المجتمعات. وفي إطار بحثه في مشكلات التخلّف والتقدّم في بلدان العالم الثالث، ناقش السيّد يسين الأمر في ضوء إعجابه وتأثره بعالم الاجتماع السويدي المعروف جونار ميردال، وخصوصاً بعد قراءته لكتاب هذا الأخير: «الدراما الآسيوية: بحث في فقر الأمم»، وأول ما يثيره ميردال، ويلفت نظر فقيدنا الكبير، أنه لا بدّ من الاعتماد على منهج علم اجتماع المعرفة، وذلك إذا ما أردنا كشف تحيّز النظريات الاجتماعية والاقتصادية الغربية، التي تعرضت لمختلف مشكلات العالم الثالث، ذلك أنه إذا كان يمكن تجريد مجتمع غربي، ودراسته من وجهة النظر الاقتصادية، فذلك مطلب يبدو مستحيلاً بالنسبة إلى دول العالم الثالث، ففي هذه المجتمعات تختلط العوامل الاقتصادية بالعوامل الاجتماعية والثقافية والعوامل السياسية في شبكة معقدة، ليس من السهل فضّ عُراها، وتفكيكها في أوعية مستقلة، وإخضاع كل منها إلى دراسة خاصة، ولذلك يدعو ميردال، ومعه السيّد يسين، إلى تطبيق ما يُطلق عليه «النهج المؤسّسي»، ويعني به ضرورة دراسة سائر المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقيم الثقافية في المجتمع بطريقة تكامليّة، وذلك إذا ما أردنا أن نفهم بطريقة حيّة خلّاقة مشكلات مجتمعات العالم الثالث، فنجاح التنمية الاقتصادية أو فشلها في تلك البلدان، لا يمكن فصله عن نوعيّة الطبقات الاجتماعية المسيطرة، ولا عن القيم الحضارية السائدة، ولا عن ضروب الانحراف الاجتماعي المتعدّدة التي قد تعوق عملية التنمية فعلاً، نتيجة لسلوك بعض الفئات الاجتماعية المنحرفة التي تظهر وتسيطر في بعض البلدان النامية نتيجة لتطورات سياسية معينة. شجاعة النقد الذاتي مارس السيّد يسين النقد الذاتي على تجربته الفكرية في محطّات مركزية فاصلة عدّة، وذلك كما لم يمارسه مفكّر عربي آخر من قبل، فبعد ظهور العولمة مع بداية الثمانينيات من القرن الفائت، بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية، كان يقتضي من النخبة المثقفة، حسب تعبيره، أن تجدّد نفسها معرفيّاً، كي تستطيع أن تعاين بعمق المتغيّرات العالمية، وأهم من ذلك، أن تفهم منطقها الكامن، وأن تتعرّف، لو استطاعت، على القوانين العامة التي تحكمها. و«هذا ما فعلتُهُ (والكلام لفقيدنا الكبير) حين انتقلت من القاهرة عام 1990 حين كنت مديراً لمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية إلى العاصمة الأردنية لأشغل منصب أمين عام منتدى الفكر العربي، فقد أدركت وقتها أن النماذج المعرفيّة القديمة التي كنت أعتمد عليها (كباحث في علم الاجتماع) في فهم ظواهر العالم المعقّدة قد سقطت، وأن المنهج التاريخي النقدي المقارن الذي صُغته وطبّقته في بحوثي المتعدّدة، لم يعد صالحاً لوصف الظواهر وتفسيرها، ولذلك قمت برحلة تجدّد معرفي عميقة، واكتشفت ما أطلقتُ عليه بعد ذلك الثورة الكونيّة التي شملت العالم، وهي ثورة مثلثة الجوانب». ويمضي السيد يسين قائلاً في كتابه «الثورة الكونيّة والوعي التاريخي» بما مجمله أن هذه الثورة هي ثورة سياسية، وتعني الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الديمقراطية، وثورة قيميّة وتعني الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد الماديّة، مثل الاهتمام بالجوانب الروحيّة واعتبارات الكرامة الإنسانية، وثورة معرفيّة وتعني الانتقال من الحداثة إلى «ما بعد الحداثة» والتي أصبحت هي المعبر عن عصر العولمة. هابرماس والسيد يسين مفكّراً جدّياً ورصيناً كان السيّد يسين، والرصانة الواقعية لم تغادره يوماً. وكان خلال رصانته فرداً يصنع مثالاً أو نموذجاً في نفسه يقيس بواسطته أناه الفكري الفعلي. وكان يرى إلى جانب كل ما ينتجه من فكر ونقد، أن تمجيد العقل هو من تمجيد القلب... وبالعكس. مدّ السيد يسين الفلسفة بالمواد اللازمة للعمليّات الفكرية، كما جعل من الفكر، فكره، مداراً فلسفياً لا يعرف خطاب الانشطار والتفكك. ولقد أقام خطابه الفكري بثقة واقتدار، ولم يكفّ عن تطويره بذاته، وبانفتاحه على الآخرين، ولكن دائماً من موقع ذاتي مكين وقوي ويفرض مهابته على المفكرين الآخرين. أتذكر أنني التقيته في بيروت بمعية المفكر الألماني هانز داينمر، الذي كان يمهّد لزيارة يورغن هابرماس للبنان، لكن الأخير عدل عن زيارته للعاصمة اللبنانية، بسبب التفجيرات والتوترات الأمنية التي حصلت في غير مكان على الأراضي اللبنانية منذ ما يزيد على السنتين. وجرى نقاش بالإنجليزية بين الطرفين حول الحداثة و«ما بعد الحداثة» قال إثره المفكّر الألماني لي، بأنّ من الضروري أن يجتمع السيّد يسين بيورغن هابرماس، فلدى كل من المفكّرين الكبيرين ما لديه من أسئلة فلسفية ندّية تعكس نفسها على أطروحة «ما بعد الحداثة» وتقييمها ونقدها.. ومن يدري، فقد يستطيع السيّد يسين بموسوعيّته وفكره النقدي المعرفي أن يقنع هابرماس بما هو غير مقتنع به حتى اللحظة، وذلك تجاه وجود مفهوم فاعل ومتفاعل اسمه «ما بعد الحداثة». اليدُ الخفيَّة يؤكد السيّد يسين صحة، وحتى عِلمية الكتابات القائلة بنهاية عصر العولمة، ويحدّد تاريخاً لهذه النهاية هو العام 2008، أي العام الذي شهد ذروة الأزمة المالية التي ضربت البنوك والشركات الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية. ولم تكن هذه الأزمة في رأيه مجرد أزمة مالية، بل كانت أزمة اقتصادية أدّت إلى سقوط السياسة الليبرالية الجديدة، والتي كانت العمود الفقري للعولمة، والتي عن طريقها، حاولت الدول الكبرى الهيمنة على اقتصادات العالم، وذلك لسبب بسيط هو أن النموذج الرأسمالي يقوم أساساً على حرية السوق، الذي يوازن نفسه بنفسه عن طريق «اليد الخفية»، كما كان يقول آدم سميث، وبالتالي لا يجوز للدولة أن تتدخل إطلاقاً في الاقتصاد. نقد الذات وتجديدها مارس السيّد يسين النقد الذاتي على تجربته الفكرية في محطّات مركزية فاصلة عدّة، فظهور العولمة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية، كان يقتضي من النخبة المثقفة، حسب تعبيره، أن تجدّد نفسها معرفيّاً، كي تستطيع أن تعاين بعمق المتغيّرات العالمية، وأهم من ذلك، أن تفهم منطقها الكامن، وأن تتعرّف، لو استطاعت، على القوانين العامة التي تحكمها. و«هذا ما فعلتُهُ حين انتقلت من القاهرة العام 1990 إلى العاصمة الأردنية لأشغل منصب أمين عام منتدى الفكر العربي»، فقد أدركت وقتها أن النماذج المعرفيّة القديمة التي كنت أعتمد عليها (كباحث في علم الاجتماع) في فهم ظواهر العالم المعقّدة قد سقطت، وأن المنهج التاريخي النقدي المقارن الذي صُغته وطبّقته في بحوثي المتعدّدة، لم يعد صالحاً لوصف الظواهر وتفسيرها، ولذلك قمت برحلة تجدّد معرفي عميقة، واكتشفت ما أطلقتُ عليه بعد ذلك الثورة الكونيّة التي شملت العالم، وهي ثورة مثلثة الجوانب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©