الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عناق التجسيد والتنزيه·· وحوار الظاهر والباطن

عناق التجسيد والتنزيه·· وحوار الظاهر والباطن
17 ابريل 2008 01:16
ما الذي يمنح الخط العربي كل هذا السحر والجلال كي يشع بموسيقاه الخاصة، ويتلوى مثل جسد راقص على إيقاع البهجة المبثوثة فيه، إيقاع يستلف من البهاء الملغز ما يعينه على البوح والإضمار والبروز والتخفي، والشيوع والكتمان؟ خط يتغذى من انعكاسات الظاهر والباطن، ويحتفي بالواضح والمطلسم، كي يجوس في سراب من ذهب ولجين سائل، وكأن حروفه ضرب من خيالات، أو كائنات تمشي على الماء الذي هو من حبر، أو هو نزف دم الخطاط على سهوب من ورق، بياض يلتحم بسواد، وهيام يذوب في كلمة، والكلمة في البدء كانت، وكانت هي فاتحة الخلق، وفردوس اللغة، ولسان الديانات، وها هي في منتهى الحاضر تبسط كفوفها للعاشقين والناظرين· حاضر الخط وإبداعاته كانت على وعد جامح مع ملتقى الشارقة لفن الخط العربي الذي نظمته إدارة الفنون بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، وافتتح دورته الثالثة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة في الثاني من شهر أبريل الجاري بمنطقة الشارقة القديمة ويستمر حتى الثاني من شهر يونيو القادم· في الدورة الثالثة للملتقى كان الخط العربي عامراً بالرؤى ومحروساً بقداسته، وكان في ذات الوقت مشرعاً على الارتجال البشري وفضاءات اللعب والدهشة والتجريب، فمن الكتابة على الجدران والطين والجلود والعظام والخزف، إلى مباهج التزيين والرقش والكولاج، وصولاً إلى معرض الفنانات اليابانيات، والأطر الحاضنة لخطوط الفنانين الكبار في معارضهم الفردية، كان الخط العربي وبكل ألوانه وتصانيفه يتجول في حدائق من نور، ويهيم في غابة من رؤى، كي يقول إنه صالح لكل زمان ومكان، وأنه منتم لفضيلة البحث عن استحالاته، وأوطانه الممتدة من ومضة الأصابع وحتى فائض النشوة· وفي البدء أيضاً كان الحوار، وكانت العين تقود القلب إلى نقاش ونقوش ومنمنمات ورقى وتعاويذ وأدعية وصلوات، تستدعي الغائب والسحيق كي تبدد الرهبة، وتختصر الدرب بين المحب والحبيب، وبين الدائم والفاني· نقوش الذاكرة في إحدى معارض الملتقى المفتوحة على الهواء وأنفاس العابرين، نرى معرضاً صاغته يد الفنانة فاطمة الشيباني، حيث جدران الطفولة تموج في النور والإشراق، خربشات وكتابات فطرية تخاطب الحواري و(السكيك) القديمة في الإمارات، والمنتمية لزمن السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، في ذلك الزمن المبهم كانت أصابع المراهقة تفتش عن بيانات حارقة تطبعها على الحوائط وتروج لبراءة جارفة وهوى مدسوس في دهاليز القلب· تكتب فاطمة الشيباني مدونات الفريج القديم، وتحفظها من عسف الجرافات، وانقراض فكرة (الحيّ) الملتم على أفراحه كما على أوجاعه، (الحيّ) الذي قتلته الهجرات الداخلية، والنزوح المقفر نحو الصحراء، والبديل الشرس لغزو الشاهقات من المباني والناطحات، تلك التي دمرت مشهد البحر في ذاكرة جيرانه البسطاء المطلين على زرقته الحانية بلا منفعة أو قصد· استخدمت الشيباني الخامات الطبيعية كما هي، فمن أصابع الفحم والطباشير وبخاخات الضغط وأقلام الصلصال الملون، تحول الزمن المنسي للجيل الذهبي إلى دفق متجدد من الرؤية الصافية المزيحة لغبار الوقت والمشاغل والغيابات، كتبت الشيباني على الجدران سيرة الأيام الأليفة وتجلت في محاولاتها الحثيثة هذه، كل مغانم الزمن البهي بأصواته وروائحه وموسيقاه وأغانيه وشغبه الطاهر والوديع· حوارات مع الشرق وفي معرض آخر للفنانات اليابانيات يبرز هذا الحوار الجرافيتي والبصري والتشكيلي بين كتابات الشرق الأقصى والشرق الأدنى المتمثل في الخطوط العربية الضاربة بجذورها في أرض الرسالات السماوية، وكما تشير مدونة المعرض فإن وجود سبع خطاطات يابانيات وسط هذا الطيف الواسع من أعمال الفنانين العرب والمسلمين، يعتبر تجربة مميزة ولافتة، لأنها تتمتع بالشغف وبنوع من الفرادة والحافزية والإصرار، فما يهم هنا هو الاشتغال على الخط العربي من قبل جنسيات من أقصى الشرق، فالخطاطات اليابانيات لا يتكلمن العربية، وتم تعليمهن الخط والزخرفة في مركز الشارقة للخط العربي والزخرفة، ولكن أعمالهن تتميز برصانة وجدية عالية في التعامل مع تقنيات الكتابة العربية ومذاهبه ومدارسه مثل خط الرقعة، والنسخ والكوفي والديواني الجلي، فأنجزن لوحات بتراكيب خطية صعبة وصرن يكتبن بالقصب، وصارت لهن مكانة مرموقة وسط الدارسين في معهد الخط والزخرفة· الحجر والحاسوب حملت الندوة الكبرى الموازية لفعاليات الملتقى عنواناً مهماً وهو (المرسومات الخطية من الحجر إلى الحاسوب) شارك فيها نخبة من النقاد والباحثين والمهتمين بظواهر وجماليات الخط العربي، والتي فرضت ـ كما يقول بيان الندوة ـ إلى صياغة معايير لتصنيف هذه الفنون المستقلة وابتكار المصطلحات التي تجمع المخطوط والمرسوم، وتحقيق صيغ للمرسومات الخطية تعددت بتعدد الفنانين الذين ما زال نتاجهم يحتاج للمراجعة النقدية والتقييم النظري وصولاً إلى انقلابات الفن الإنساني وتأثيراتها على هذه الفنون في العالمين العربي والإسلامي، ودخول تقنيات وأدوات وأجهزة في العملية الإنتاجية لهذه الفنون، وولادة اتجاهات ما بعد حداثية تستنفر المرجعيات الخطية والزخرفية للإفصاح عن تفصيلات جمالية تدور في فلك المعطيات الراهنة وتمضي بعيداً عن مألوفية الاشتغال اللفظي والكتابي والحروفي ذات الصلة بالوجدان الجمعي والمعارف البصرية والخطية· وكما يقول هشام المظلوم منسق عام الملتقى، مدير إدارة الفنون بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة: فإن هذه الندوة تؤكد اتساع بانوراما الإنزياحات الفنية للكتابة العربية، ابتداءً من الرسوم الأولى على الحجر والرقائق الجلدية والورق، وصولاً إلى عصر الوسائط المتعددة والكمبيوتر، الأمر الذي يضفي على فكرة الندوة طابعاً شاملاً، ويستشرف فن التفاعل بين الكتابة والمواد المختلفة التي تداخلت وتواشجت مع هذا الفن الرفيع· كرم سمو حاكم الشارقة في الدورة الحالية للملتقى عدداً من الخطاطين الكبار والشخصيات الثقافية المعروفة باحتضانها واهتمامها بفن الخط العربي أمثال البروفسور التركي أكمل الدين أوغلو أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي، والخطاط العراقي المعروف محمد سعيد الصكار، بالإضافة إلى الفنان والمعلم الإيراني جليل رسولي، كما حفل الملتقى بعدد من المعارض الشخصية الدالة على عمق التجربة وخصوصياتها لدى خطاطين مثل عدنان الشيخ عثمان ، وطارق إبراهيم وعبدالله عثمان والفنانة الأندونيسية إيني· وتقول كلمة التكريم عن الفنان محمد الصكار إنه جعل من أبجديته في الخط عنوان كده وشغفه بهذا الفن الجميل، وتكريمه هو تكريم أيضاً لعمتنا (النخلة) وثمارها ومدينة غاباتها وشعرها وعروبة شطها، فليونة الضفاف وفيء الظلال وجمال الشناشل وما خلفها من عيون وأسرار كونت وأوحت ذلك كله، فاستوحى وأنتج وعاش، وصارت له مدينة حب· أما كلمة تكريم الفنان الإيراني جليل رسولي فأشارت إلى أن هذا المعلم المميز تعلم وعلم، وجعل الاجتهاد عنواناً في الإجادة، واستحق أن يكون في الطليعة والريادة، وأن يكون من حصون الخط العربي الجميل، ربما جود في الخط الفارسي، وذلك حقه، لكنه جوّد أيضاً في الرقعة والثلث والنسخ والديواني· وحاز الفنان طارق إبراهيم وصف: ''صاحب الرؤية الجديدة'' لأنه حوّل الطين إلى كتابة، بعد أن خرج باكراً على وظيفة الفخار والخزف، واستمسك بالكتابة الطينية وحولها إلى فن تشكيلي بامتياز، واستحق سمعته (الحداثية) في العالم، لأنه يمجد طاقة الحرف، ويعيد له بهاء شكله الخطي، ولكن بكتلة ذات أبعاد ثلاثية ليقدم بانوراما الحرف في الخزف· صورة وكلمة ووسط زخم المعارض التي حفل بها ملتقى الشارقة لفن الخط العربي برز معرض (الصورة والكلمة) كونه معرضاً يمزج بين المشهد البصري والتشكيل الحروفي، ويخرج بانطباعات مرهفة تتواصل فيها الكلمة مع الصورة، ويتداخل فيها الحرف مع اللقطة، في مونتاج حركي يعزز المعنى ويعطيه قيمته المرتجاة· ولأن الفوتوغراف هو رسم بالضوء كما تقول مدونة المعرض، فإن الكتابة هي الظل المحتفى بحضوره وتأثيره، قد تشرح الكتابة خفايا الصورة، ولكنها ستربح بالتأكيد مزاياها الغرافيتية، لأنها وبمحاذاة الصورة تساوي تماماً بين الظاهر والخفي، وبين المرئي والمستتر، وأخيراً بين الفائض عن الصورة وبين المتشرب في الحرف· (الكلمة والصورة) معرض يضم أعمالا ومعالجات مختلفة لأحد عشر فناناً من الإمارات بالإضافة لفنانين أحدهما من دولة قطر والآخر من السعودية· وجميعهم منتسبون لجمعية الإمارات للتصوير الضوئي· اشتغلت معظم أعمال المعرض على توثيق اللحظة الجمالية التي يهبها الحرف العربي للمعمار الإسلامي ودور العبادة، لما تزخر به هذه الدور من أركان حاضنة للعبارة المقدسة المتمثلة في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وكان ذلك واضحاً في أعمال الشيخة عزة القاسمي وعلي النعيمي، بينما إنحازت الأعمال الأخرى في المعرض لتكنيك الكولاج الحروفي، سواء من خلال اليد وبشكل مباشر ولحظي، أو من خلال تقنيات الجرافيك اللاحقة على التقاط الصورة، كما في لوحة (طلاسم أنثوية) لأحلام الأحمد، وكذلك في أعمال علي جمال وبلقيس البعداني، وفي كلتا الحالتين، كان المزج بين الكلمة والصورة مسنوداً بفتنة الخط وإغواء الصورة، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يزاحمه جمالياً، وحفلت معظم الأعمال بابتكارات خاصة قوامها التجريب والاقتحام الحر لمناطق مفعمة بالدهشة واللذة والارتجال المروّض والمعتنى به جيداً· كما احتفى الملتقى بتجربة الحروف الطباعية المتمثلة بتجربتي مؤسسة (ديوان) ومؤسسة (كلك)، وهي تجارب أضاف لها الحاسوب صفة الاتساع والتنويع في أفق البرمجة للخطوط وتقديمها بجماليات غير معقدة، ومنها جاءت مساهمات برنامج (كلك) التي ولدت في المملكة العربية السعودية، وأصدرت أول نسخة من برنامج الخط العربي الطباعي، ثم تلتها مؤسسة (ديوان) وقدمت الإمكانات الرئيسة للخط المصحفي، وبتعزيزات طباعية لتجميل الحروف في الكلمات، ومثل هذه التجارب تفرز طاقات البرمجة والآلة في الخطوط الطباعية مقارنة وتتفوق على التقنيات اليدوية، مواصلة في ذلك علاقتها المستثمرة لثورة الحاسوب، والمنجز التقني للعصر الجديد·
المصدر: الشارقة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©